الفقر والتطور والقطاع الخاص: أكثر من 60 مهنة جديدة في سوريا
عامر مطر
ينقل هذا التحقيق صورة عن المهن الجديدة الناشئة في سوريا في السنوات العشر الاخيرة. وهي في معظمها تتصل بالقطاع الخاص وشيوع خدمات جديدة لم تكن معروفة من قبل في بلد يسيطر القطاع العام على اعماله ومرافقه.
غرفة صغيرة، فيها ثلاثة مراحيض، ومغسلة، وطاولة يجلس خلفها مسن يعرّف عن نفسه بأبو سعيد. يضع على الطاولة علبة مناديل، وكرتونة فارغة، ليرمي زبائنه ليراتهم في داخلها.
داخل الغرفة وسط إحدى ساحات دمشق، يعمل هذا المسن أكثر من اثنتي عشرة ساعة يومياً، رغم الروائح الكريهة والبرد. يتنقل بين المراحيض الثلاثة لتنظيفها بعد دخول عشرات الزبائن اليها. وفي نهاية اليوم، يعطي ماجمعه للمحاسب الذي يجمع الغلة من ابو سعيد وزملائه، ويعطي كل واحد منهم ما يقارب 160 دولاراً كراتب شهري عن عمله هذا.
الفزع من الموت جوعاً، وقلّة فرص العمل في سوريا، دفعا أبو سعيد إلى امتهان هذا العمل منذ عشر سنوات، لينضم إلى جموع السوريين الذين اضطروا للعمل في مهن جديدة، و ابتكروا مهناً غريبة للكسب.
أكثر من ستين مهنة جديدة ولدت خلال السنوات العشر الأخيرة في سوق العمل السورية، لأسباب كثيرة ترتبط بكل مهنة.
لقمة من القمامة وأخرى من الأعضاء
ما بين حاوية نفايات واخرى يتراكض جامعو علب الألمنيوم الفارغة من المشروبات الغازية، وما يصادفونه من أغراض تصلح للبيع. وقرب حاوية اتفقوا على اللقاء في انتظار المتعهد الذي غالباً ما يكون صاحب شاحنة صغيرة وسائقها، فيجمع فيها البضاعة من المتراكضين بين الحاويات. يشتري الكيلو بدولار تقريباً، والأشياء الأخرى بسعر تقديري وفق قيمتها، و لكل منطقة متعهد واحد، لا يسمح لغيره بأخذ علبة ألمنيوم واحدة من حاوياته.
وتلتقي كل هذه النفايات المعدنية في منطقة الحجر الأسود، في ريف دمشق، حيث المستودعات، التي تضغط فيها العلب وتُرّحل إلى المعامل في حمص.
وسط هذا العوز والخوف من الجوع، ظهر من يبيعون أعضاء أجسادهم ليستطيعوا البقاء على قيد الحياة، ما أوجد سوقاً لهذه الأعضاء وتجاراً لها في الخفاء والعتمة، بعيداً من القانون. علماً أن الطب السوري لم يزرع بعد إلا الكلية والقرنية. أما باقي الأنسجة، كالقلب والعظام والبنكرياس، فزرعها يتم في الخارج. وظهرت في الشوارع السورية إعلانات تطلب متبرعاً بالكلية دمه فئة كذا… ومعه تحليلات وفحوص للأنسجة. عبر هذه الإعلانات تتم المقايضة غالباً، كما ذكر أحد السماسرة. في حين ذكرت إحدى الصحف الرسمية السورية في تحقيق صحافي أن سعر الكلية يصل مع أجور العمل الجراحي إلى ما يعادل 15 ألف دولار، تُقسّم بين أتعاب السمسار، ونصيب المتبرع، وأجور المستشفى.
في السنوات الأخيرة اجاز القانون السوري التبرع من غير الأقارب والمتوفين دماغياً، ما فتح مجالاً للتحايل على القانون، وظهور سوق سوداء وسماسرة، رغم العقوبة والغرامة التي تصل إلى مئة ألف ليرة سورية.
مكاتب تشغيل
الفقر الذي دفع البشر الى بيع أعضائهم، أوصل حتى الشباب إلى قبول أي عمل، حتى تنظيف بيوت الآخرين، وإيصال الطعام إلى منازلهم وحمل الإعلانات على ظهورهم. فظهر في السنوات الأخيرة العديد من شركات التنظيف الخاصة، تعتمد على الشباب في شكل أساسي.
لذلك، ظهرت مكاتب تشغيل خاصة “غير حكومية”، يتم التسجيل فيها عن طريق تعبئة استمارة تكلّف دولاراً واحداً. يكتب فيها المتقدم معلومات عن نفسه وخبراته السابقة، ثم ينتظر حتى يتصل به المكتب.
يعمل في هذه المكاتب الكثير من الأشخاص وفق حجم المكتب، الذي يضم مديراً ومسؤولاً إعلانياً، وموظفة استقبال، ومحاسبة، وبضعة موظفي علاقات عامة. وأغلب الفرص التي تؤمنها، هي مندوبو مبيعات وموزعو صحف…
لكن مكاتب التشغيل الخاصة راحت تتلاشى لعدم قدرتها على تلبية حاجة زبائنها وكسب ثقتهم. ويمكن القول أنها لم تستطع مساعدة مكاتب التشغيل الحكومية التي عجزت أيضاً عن تأمين فرص عمل للشباب.
كما ظهرت مهنة لا يزيد عمرها عن السنتين في سورية، تعتمد على الشبان أيضاً، وهي مراقبة آلات البيع الأوتوماتيكية التي ظهرت في الجامعات وبعض الأماكن العامة. مهمة العامل فيها المراقبة، وإصلاح الأعطال، وتعبئة المواد من ماء وشاي، والأجر الشهري للمراقب مئتا دولار.
ومن أحدث المهن ظهوراً في الشوارع السورية، العمل في المواقف المأجورة التي أفرزت وظائف عدة تتوزع ما بين المراقب، والمشرف، والمشرف العام، والمفتش.
يظهر هؤلاء الموظفون في أغلب شوارع المدن السورية بزيهم الأزرق، إذ تعمل المواقف من التاسعة صباحاً حتى التاسعة مساءً، لكن دوام العاملين فيها لا يتجاوز 6 ساعات يومياً، براتب يبدأ من مئتي دولار شهرياً.
الخدم الأجنبي
هناك نوع آخر من المهن الجديدة: خادمة أجنبية، شركات تنظيف كاملة، ومدارس خاصة للأطفال وجامعات خاصة أيضاً، و”حارس شخصي”، وأنظمة خاصة لمراقبة المنزل والمكتب وحمايتهما من السرقة، وشركات تأمين وبنوك خاصة…
تستخدم آلاف الأسر السورية خادمات أجنبيات من دول آسيوية وإفريقية: الفلبين، أندونيسيا، أثيوبيا. وذلك عن طريق مكاتب استقدام مرخصة تتبع وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل. وقد تم السماح لهذه المكاتب بالعمل قانونياً من خلال قرار صدر في 21-11-2006. لا يحتاج الحصول على ترخيص مكتب استقدام مؤهل علمي، فقط الجنسية السورية لمن يحملها منذ مدة تزيد عن خمس سنوات. إضافة الى مبالغ مالية تسدد لبعض الوزارات كتأمين ورسوم.
تدفع الأسرة لإدخال الخادمة إلى سوريا ألف دولار ثمن بطاقة الطائرة والفحوص الطبية ورسوم مغادرة المطار، وألف دولار كبدل إقامة في سورية لمدة أقصاها أربع سنوات، إضافة الى اجرة المكتب، أما الراتب فيختلف تبعاً للاتفاق بين المكتب والخادمة والأسرة.
ظهرت أيضاً مكاتب لخدمة الزبائن من سداد فواتير الكهرباء، والمياه والهاتف، أو سداد المخالفات المرورية، والبحث لمن لا وقت لديه عن منزل يشتريه. تقدم هذه المكاتب خدماتها عن طريق الهاتف، كما ترسل موظفيها إلى منازل الزبائن، بحيث لا يخسر الزبون أي وقت أو مجهود.
مهن مصرفية
هناك أعمال جديدة، وفرها 14 مصرفاً خاصاً في سوريا ظهرت في السنوات القليلة الماضية. تتوزع فروع هذه المصارف على كل المدن السورية. ففي دمشق العدد الأكبر منها (اكثر من 50 فرعاً)، ثم حلب، التي وصل عدد فروع المصارف فيها إلى 26. وبذلك يصل إجمالي عدد الفروع المصرفية الخاصة في سوريا إلى 144 فرعاً و 9 مكاتب.
في مجال التأمين، تم الترخيص لعشر شركات خاصة حتى الآن، فوفرت أكثر من ألفي فرصة عمل، وفق رئيس مجلس أدارة المؤسسة العامة السورية للتأمين د.عادل القضماني. وظهرت أعمال حقوقية تتعلق بالتأمين، إذ رُفعت أكثر من 1800 دعوى قضائية على عشر شركات تأمين خاصة في سوريا، وفقاً لتصريحات مدير عام هيئة الإشراف على التأمين د.عبد اللطيف عبود.
ربما ستؤدي هذه الدعاوى إلى إنشاء محاكم خاصة بالتأمين. فوزير المال د. محمد الحسين تقدم إلى الحكومة بطلب انشاء هذه المحاكم باعتبارها مهمة لقطاع التأمين. وفي حال انشائها ستشغل موظفين ومحامين وقضاة مختصين في التأمين.
تحتاج مؤسسات الأموال إلى أنظمة مراقبة وحماية عن طريق أجهزة انذار، وكاميرات مراقبة، وموظفي حماية. وهذه كلها لم تكن موجودة في سوريا إلا ضمن نطاق الوظيفة الحكومية قبل دخول القطاع الخاص.
تبرز هذه الحاجة على شكل إعلانات في الصحف الإعلانية السورية، تطلب “بودي غارد”، أو إعلانات تشير الى مواصفات جسدية لرجل يعرض نفسه للعمل في الحماية والمرافقة.
مهن فنية
الى جانب هذه المؤسسات المالية الخاصة، ظهرت مؤسسات ثقافية وإعلامية خاصة، تنتج وتسوق وتدعم الأعمال الإبداعية الفنية، كشركات الانتاج التلفزيوني والسينمائي، والمؤسسات التي تعنى بالتشكيل. عدد شركات الإنتاج التلفزيوني تزايد بسبب الانتشار الذي حققته الدراما السورية في الأعوام الأخيرة. ووظفت هذه الشركات أعداداً كبيرة من العاملين في التصوير والكومبارس، والإضاءة والمونتاج والميكساج وبناء الديكور وتصميم الأزياء…
وفي مجال قريب من شركات الإنتاج التلفزيوني أنشئت منذ سنوات شركات إنتاج سينمائي خاصة، تنتج أفلاماً وثائقية وتسجيلية غالباً، إضافة الى قيامها بأعمال الخدمات السينمائية.
أما في الفن التشكيلي، فالمهمة تتلخص في الدعم المادي والعرض والتسويق والبيع. يتعاقد الفنان مع صالة عرض تقوم ببيع أعماله مقابل نسبة يتفقان عليها. ووصلت أسعار اللوحات التي تعرضها الصالات للفنانين السوريين اخيراً إلى مبالغ كبيرة تقارب 750 ألف دولاراً.
خدمات جديدة
يضحك الرجل الكهل حين يتخيل أحفاده حاملين اسم مهنته “دي.جي”. وهذه مهنة شبابية جديدة في سوريا. على “الدي.جي” أن يكون حافظاً جيداً للأغاني، ليس فقط 20 أو 30 أغنية، بل حوالي ألف وألفين أغنية من جميع الأشكال والألوان.
يتقاضى “الدي.جي” العادي (اي منسق الموسيقى والاغاني في الملاهي الليلية) عشر دولارات في الليلة. أما المحترف فيصل دخله إلى ألف دولار شهرياً. دخلت هذه المهنة إلى سوريا نتيجة عوامل عدّة أهمها التطور التقني الذي دخل الى البلاد جالباً معه مهناً في مجال الاتصالات والالكترونيات والإعلام، كبيع اجهزة الهاتف المحمول التي يعمل فيها الآن آلاف السوريين.
لاتقتصر تجارة أجهزة الخليوي على المحلات، بل أدت الى ولادة بسطات متخصصة بذلك. ففي دمشق تُمارس هذه المهنة داخل ما يسمى “سوق الحرامية” في طقوس مستوحاة من البازارات والمزادات العلنية.
قطاع الاتصالات الخليوية في سوريا، تعمل فيه شركتان خاصتان لا يزيد عمرهما عن تسع سنوات، يعمل فيهما عدد كبير من الموظفين. واخيراً عيّنت الشركتان موظفين للرد على اتصالات الزبائن والإجابة عن أسئلتهم، وأخرين للتسويق والإعلان، ولإصلاح أبراج التغطية والإشراف عليها، ومديري مراكز، ووكلاء.
المواقع والمقاهي
بدأت في الأعوام الاخيرة تجارة اجهزة الكومبيوتر. وهي تسيطر اليوم على جانب كبير من الأسواق، إذ ظهرت شركات ووكالات عالمية كبيرة ومتاجر تبيع قطع الاجهزة، ووكالات إصلاح ومحال صغيرة. يعمل في هذا المجال الأكاديميون الذين درسوا هندسة الحاسوب والمعلوماتية، والهواة أو الذين اتخذوها صنعة فتعلموها كما يتعلمون أي مهنة أخرى كالنجارة والحدادة مثلاً. وظهر ايضاً المبرمجون والمصممون والمتخصصون في فرز ألوان الطباعة الالكترونية.
وفي المجال نفسه بدأت تجارة الأقراص المدمجة التي وصل بيعها الى بسطات وعربات نقالة، لبيع الاغاني والافلام. ونشأت في دمشق، سوق خاصة بالكمبيوتر والبرمجيات في منطقة البحصة.
تلا دخول الكومبيوتر انتشار الإنترنت في سوريا. وأكثر المهن التي نجمت عن ذلك هي مقاهي الإنترنت. لفتح مقهى انترنت ينبغي الحصول على رخصة أمنية.
هذه المهن الجديدة، سترتبط بحياة الناس، وقد يحملونها في أسمائهم، كما تحمل اليوم أسماء الناس في سورية كنيات عائلية، مثل اللّحام والحداد والسواس والحجّار، تعبيراً عن المهنة التي مارسها الأجداد. وربما سيُسمع في العقود المقبلة عن عائلات تحمل اسم الموبايلاتي والغرافيكي والديزايناتي والمشفراتي والسكيورتي… دالة على أجداد عملوا اليوم في هذه المهن.
دمشق – عامر مطر
النهار