صفحات العالم

الحكّام عندما يتحدثون عن أخطاء

فواز طرابلسي
أجمل الافتتاحيات هي التي تكتب نفسها بنفسها. وهذا ما يحصل عندما تنشأ العلاقات هكذا عفوياً بين الأنباء والأحداث. تلي بينها زلة لسان هنا وتوضيح وتصحيح هناك أو إشارة إلى خطأ أو حتى اعتذار هنالك.
فيما يلي حالة من هذا النوع.
+ ما إن طالب مسعود البرزاني بحق تقرير المصير للأكراد الأسبوع الماضي، وفُهمت المطالبة على أنها دعوة إلى الانفصال، حتى انبرى ناطقون باسم رئيس إقليم كردستان يبدّدون «سوء الفهم» على اعتبار أن رئيس حزب «البارت الديموقراطي الكردستاني» إنما كان يتحدث عن تقرير المصير داخل الفيدرالية العراقية.
حقيقة الأمر أن تبديد «سوء الفهم» زاد الفهم سوءاً. فقد كان البعض يظن أن أكراد العراق حققوا تقرير المصير أصلاً في إطار الفيدرالية العراقية ونصّبوا السيد مسعود البرزاني رئيساً على إقليمها الكردي. فبماذا كان يطالب السيد مسعود البرزاني، في خطابه إذاً؟
حقاً إن الزعماء لا يعطون أسرارهم لأحد، كما يُقال في تقاليد الاستزلام اللبنانية.
[ في السودان، هدّد الرئيس عمر حسن البشير بأنه سوف يطبّق الشريعة في شمال السودان في حال انفصال الجنوب.
يقع تفسير تصريح البشير على ثمانية أطواق، كما يُقال.
حار الخبراء والمحللون في تفسيره وتعيين الطرف الموجّه إليه. لقائل يقول إنه موجّه إلى زعماء أحزاب المعارضة التي رفضت تطبيق الشريعة من حيث المبدأ أو حرصاً على ما تبقى من شعرة معاوية بين جنوبه ذي الغالبية المسيحية والأرواحية وشماله ذي الغالبية المسلمة. وآخر يتبرّع بأن الرئيس إنما يهدّد القيادة الجنوبية الداعية للانفصال بمصير مليون ونصف المليون من الجنوبيين يعيشون في الشمال. وفي اجتهاد ثالث أن البشير يزايد على تيارات إسلاموية في الشمال لا تخفي تأييدها انفصال الجنوب على اعتبار أنه سوف يفسح في المجال أمام تطبيق الشريعة في الشمال؟ قد يتضمن التهديد رسائل إلى هؤلاء جميعاً.
ولكي يمكن إخضاع التصريح للتحليل النفساني فيتكشّف أنه زلّة لسان تشي برغبة مكبوتة حيث التهديد يأتي في مقام التمني.
أما على صعيد الوعي الكامل، فآخر أخبار السودان أن السيدة سوزان رايس، مندوبة الولايات المتحدة الدائمة في الأمم المتحدة، قد نفت ما ورد في أحد تسريبات «ويكيليكس» من أنها اطلعت من المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية على معلومة تقول إن الرئيس السوداني قد هرّب تسعة مليارات دولار من عائدات النفط السودانية إلى حساب له في مصرف سويسري.
[ هاكم حالة واضحة من الاعتراف بالخطأ والاعتذار. وطبان إبراهيم الحسن (التكريتي)، أخو صدام غير الشقيق، ووزير داخلية العراق الأسبق لسنوات عديدة، يعتذر من الشعب العراقي. وهذا هو نص الاعتذار: «يجب الاعتذار إلى الشعب العراقي العظيم الذي ساند الحزب، و(أنا) أعتذر إليهم». لماذا الآن؟ يأتي الجواب على أنغام مقطع شهير من «الأطلال» لأم كلثوم: لقد «فكّ قيده» بعد غياب أخيه صدام، فاستعاد حريته في الكلام. ولكن قائلاً يقول إن أخاه أعدم لأربع سنوات خلت، فلماذا الاعتذار الآن وليس قبل أو بعد؟ لا جواب.
ممّن يعتذر وطبان؟ يعتذر فقط من أولئك العراقيين الذين ساندوا حزب البعث العربي الاشتراكي. لسنا ندري عددهم ولكننا لسنا نحسب أنهم شكّلوا مرة نسبة كبيرة من العراقيين. علام الاعتذار؟ على أن قيادة حزب البعث ـ القيادة فقط من أصل مليون بعثي ـ «كانت تتصرّف في أرواح وأموال العراقيين وكأنها هي صاحبة الحق المطلق الوحيد في ذلك! وهي ليست أهلاً لذلك».
كان وطبان إبراهيم الحسن (التكريتي) واحداً من هؤلاء القادة الذين «تصرّفوا في أرواح وأموال العراقيين»، وليس أي تصرّف. تصرّف بالأموال والأرواح وهو على رأس وزارة مسؤولة عن اعتقال وتعذيب وتشريد وقتل مئات الألوف من العراقيين.
لم يعتذر وطبان عن ذنب اقترفه هو بحق أموال العراقيين وأرواحهم. ولم يتهم أخاه بذنب أو خطأ. اللوم الوحيد الذي يوجهه إلى أخيه هو أن صدام لم يوافقه على طلبه إعلان حلّ حزب البعث، وقد بات الاخوان خلف القضبان! لا يتهم وطبان إلا قيادة حزب البعث.
لو اكتفى وطبان بهذا الاعتذار لهان الأمر ولظل محتفظاً بلقب أول مسؤول في حكم البعث يعتذر. لكنه لا يكتفي بعدم الاعتذار هو نفسه، بل وجّه إصبع الاتهام إلى طارق عزيز، زميله في وزارات صدام والقابع معه في قفص الاتهام، فوصفه بأنه «مهندس السياسة في العراق». فشهد قفص المحكمة بداية اشتباك بالأيدي بين الوزيرين تطوّر إلى مبارزة بصاق بين واحدهما على الآخر.
[ أن يتحدث حاكم بأمره عن خطأ أو سيئة حدث بذاته. فكيف إذا كان المتحدث هو علي عبد الله صالح في خطبة بمدينة عدن، فيما قواته تعزز حصارها على مدينة الحبيلين القريبة من عاصمة اليمن الاقتصادية، تمهيداً لاقتحامها. دعا الرئيس الوحدوي الجنوبيين ببساطة إلى «إغلاق ملفات الماضي بكل مساوئه وحماية الوحدة».
يتبادر لوهلة أولى أن الرئيس يقدّم طرف اعتراف بأخطاء أو سيئات ارتُكبت في المحافظات الجنوبية في ظل الوحدة المطلوب حمايتها. لا يترك الرئيس الوقت الكافي للواهل كي يكتشف خطأه. يعاجله بالتهديد بالتصدي للكونفدرالية والفيدرالية بالقوة، قبل أن يرميه بهذا التصميم: «إننا لا نسمح بعودة الاستعمار من جديد».
وهل من أحد يرتكب المساوئ غير الاستعمار!
إنها عشية عيد الميلاد.
أنظار فقراء العالم شاخصة، في طقس عبادة جديد، إلى شجرة ميلاد تنتصب في إمارة أبو ظبي الكاثوليكية، وقد حملت بجواهر ولآلئ قيمتها 11,5 مليون دولار، لا غير.
ليس في ذلك خطأ ما ولا من مبرّر لأي اعتذار!
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى