العَلَم الوطني وغطاء الرأس النسوي
ايجه تمل قوران
ترجمة : فاضل جتكر
يحلو للتوجّه الفكريّ السائد في أوروبا وأمريكا أن يرى تركيا أنموذجاً للديمقراطية بالنسبة إلى العالم الإسلامي، وحزب العدالة والتنمية الحاكم “قوة إشاعة الديمقراطية” الرئيسية في هذا البلد. وهذا الرأي يتناسب مع مشروع “الإسلام المعتدل” المصنوع في أمريكا، ذلك المشروع الذي رحّب به وهلِّل له بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر بوصفه العلاج الشافي لعلّة التطرّف والراديكالية في المجتمعات الإسلامية. كان زعيم حزب العدالة والتنمية، رجب طيب أردوغان الردّ المناسب على حماس أو حزب الله في الشرق الأوسط، تماماً مثلما كان أنور إبراهيم الماليزيّ الأنموذج الملائم لجنوب شرق آسيا. فكما قال مساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق ريتشارد هولبروك: “ليس ثمّة سوى نظامين إسلاميين معتدلين ديمقراطيين في العالم: تركيا وماليزيا”. وإبراهيم الذي أضفت عليه مجلة نيوزويك لقب “آسيوي من ذهب” كان صديقاً حميماً لنخبة الشركات والأعمال الماليزية ومدافعاً عن سياسات صندوق النقد الدولي وسياساته، كما كان مولعاً بتأكيد ميزاته الليبرالية ــ الأممية بإبراز إعجابه الشديد بألفيس (برسلي). وقادة حزب العدالة والتنمية يبدون حرصاً مشابهاً على إظهار مدى تعلّقهم بالطرق والأساليب الغربية. فبعد محاضرة لقيت قبولاً جيداً في أكسفورد عن فضائل حزب العدالة والتنمية الديمقراطية مؤخّراً، قام طبيب أردوغان الدائم ايغمن باغيش برفع كأسه أمام الباحثين قائلاً: “إنني أحتسي الخمر كما ترون!” كان المعنى واضحاً: أراد الرجل أن يقول: “إننا إسلاميون معتدلون كما تحبّون أن نكون تماماً”.
غير أنّ خمرة الإسلام المعتدل ما لبثت أن فسدت وحُمضت في تركيا. شكل اغتيال الإعلامي الأرمني ــ التركي، هرنت دينك، في 19 كانون الثاني/يناير 2007 منعطفاً. كان دينك هذا قد اتُّهم عدداً من المرّات بجريمة “الإساءة إلى الشعور القوميّ التركيّ”، وهي جريمة يعاقب عليها القانون الجزائي. يحلو لأردوغان ومستشاريه أن يلوذوا بأسيادهم في الاتحاد الأوروبي شاكين من أن الدولة الأتاتوركية الرجعية والقوات المسلحة التركية تقفان حجر عثرة في طريق محاولاتهم الرامية إلى إشاعة الديمقراطية وإضفاء صفتها على هذه الجثة المعروفة باسم دستور 1982، دستور صاغته الدكتاتورية العسكرية في ذلك الزمان. إلا أن التعديل الذي أدخله حزب العدالة والتنمية في الخامس من حزيران/يونيو 2005 على الدستور لم تجعله إلا أسوأ مما كان من قبل. فمادة 159 في دستور 1982 الأصلي كانت تنص على وجوب تفويض وكلاء النيابة “المكلفين بمتابعة قضايا إهانة الشعور القومي التركي، من قبل وزارة العدل. أما المادة 301 في التعديل الأردوغاني فقد ألغت هذا الشرط تاركة الباب مفتوحاً أمام القوميين المتشدّدين والغلاة ليجنّدوا وكلاء نيابة أفرادا يتولّون توجيه الاتهام باقتراف هذه الجريمة (التي مازالت ملتبسة وغير محدّدة المعالم) ضدّ أيّ شخص لا يروق لهم. آنذاك ردّت حكومة حزب العدالة والتنمية على منتقدي المادة 301 قائلة: “انتظروا لتروا كيفية التطبيق!”، لقد طُبقت المادة 301 هذه تطبيقاً ملموساً جدّاً من قبل القاتل الذي اغتال هرانت دينك، فقد أدلى بإفادته أمام البوليس قائلاً: “أنا قتلته لأنه أهان الشعور القومي التركي” ــ مستخدماً نص المادة 301 حرفياً. قُتل دينك، في الحقيقة، لأنه كان يدافع عن إجراء حوار بين الأتراك والأرمن، وأشار إلى كتلة سكانية أرمنية كانت ذات يوم قد عاشت في الأناضول. تمّت الدعوة إلى تظاهرة احتجاجية جماهيرية استنكاراً لجريمة اغتيال الإعلامي الأرمني ــ التركي: مئة ألف مواطن شاركوا في المسيرة وهتفوا: “نحن جميعاً هرانت! نحن جميعاً أرمن!”. مسّ الشعار أحد أكثر الأعصاب والأوتار حساسية لدى غلاة الحركة القومية الشوفينية التركية، فسارع صناع الرأي في المؤسسة الرسمية إلى طرح شعار مضادّ: “نحن جميعاً أتراك!”. كان التأثير مخيّباً: كاد الأمر يصل حدّ تبرئة قاتل دينك.
خلال الأشهر اللاحقة تصاعدت حمّى مطاردة الساحرات (حمّى ملاحقة المطالبين بالديمقراطية وحقوق الإنسان أكثر فأكثر. اندلع شجار مغانم بين حزب العدالة والتنمية والمعارضة الأتاتوركية (الكمالية) حول اختيار المرشّح الرئاسي التالي، وهو أمر يقرّره البرلمان تقنياً. كان يُنظر إلى منصب رئيس الجمهورية بوصفه الخندق الأخير للمؤسّسة “العلمانية”، وكان حزب العدالة والتنمية موشكاً على اجتياحه والإمساك بزمام التحكّم به. أعلن الجيش، الذي يبقى طرفاً سياسياً قوياً في تركيا، اعتراضه. دعا أردوغان إلى انتخاب رئاسيّ طارئ، في تموز/يوليو 2007. بادر القوميون إلى حشد وتعبئة سلسلة من “مسيرات الأعلام الوطنية” خلال زحمة الأعداد للتصويت، التي كانت موجهة ضدّ مرشح حزب العدالة والتنمية عبد الله غول ــ وهو ليس أقلّ ولاءً للحلف الأطلسي من منظّمي المسيرات القوميين. للحظة عابرة بدا وكأنّ الأعلام التركية في الشوارع ربما أصبحت رمزاً للعلمانية، جنباً إلى جنب مع الانتماء الوطني الجامع. غير أنّ بدء الأكفان بالوصول من جنوب شرق البلاد وفي داخلها جثث الجنود الذين قتلوا من قبل الحركة الكردية الانفصالية، أتاح لحزب العدالة والتنمية فرصة رفع مستوى التعصب القومي الشوفيني إلى الحدود القصوى. راح حليقو الرؤوس من الشبيبة القومية التركية المتعصبة، من منتسبي حركة الذئاب الرمادية المعروفة، يملؤون الشوارع، داعين إلى محاسبة كل من لم يبادر إلى رفع العلم التركي على شرفته. عند هذه المحطة بدأ علمانيو الطبقة الوسطى والليبراليون يغادرون الحلبة. كادت الأحياء الكردية في استانبول أن تصل إلى نقطة الغليان ذات ليلة من ليالي أيار/مايو حين احتشدت عصابات من الشبيبة القومية الشوفينية أمام المباني السكنية، وراحت تتحدّى الأكراد داعية إياهم إلى الخروج للمنازلة.
ما لبثت أجواء التعصّب القومي المفرط أن هيّأت البيئة المناسبة لشنّ الحملة العسكرية الأكبر، حتى تاريخه، ضدّ حزب العمال الكردستاني. من الواضح أن القرار كان قد اتُّخذ قبل بدء التظاهرات بوقتٍ طويل، وكان الإعلام الرسمي جاهزاً لتوفير الدعم الدعائي. وما إن دارت عجلة الحرب حتى سارعت الشظايا والقذائف الإعلامية إلى اتخاذ طابع فوكس التلفزيوني خلال عملية غزو العراق. “نحن” كان هو ضمير الفاعل، و”نطهِّر” كان الفعل، مع بقاء المفعول به المستهدف متمثلاً دائماً بضمير”هم” ــ كما لو أنّ الأكراد لا يعيشون في تركيا؛ كما لو أنّ مناضلي حزب العمال الكردستاني الذين يتصدّون لنيران القنابل والمدافع ليسوا من ذوي الأهل والأقارب في المناطق الكردية من تركيا. ولكن من كان سيجرؤ على مساءلة هذا الخطاب الشوفيني والتشكيك به وقد باتت الشوارع غابة من الأعلام التركية وملأى بالعصابات القومية المتعصبة التي أضفت عليها وسائل الإعلام الرسمي صفة “الشرعية”؟
زادت الأمور بشاعة حين أقدم اثنان من طلاب المدرسة الثانوية بجرح إصبعيهما واستخدام دمهما حبراً لرسم العلم التركي. قاما بتأطير العلم الدامي وإرساله إلى رئاسة أركان الجيش. المراسلون كانوا جاهزين مستعدّين للإدلاء بالشهادة حول انهمار دموع الجنرال، رئيس الأركان، لدى تسلّمه “البريد المخضب بالدم” وقيامه بالكشف عن العلم التركيّ المقدّس. حرصت جريدة ترجمان، وهي إحدى الجرائد القومية ــ المحافظة، على نشر صورة ملوّنة للعلم المرسوم بدم الصبيين، ما أدّى إلى تعاظم كميات الدم المتدفقة مع تزايد تداول الصحيفة. حين كتبت مقالة انتقدت فيها الأمر نشرتها في جريدة مليت، سارع القومجيون إلى نشر صورتي تحت العنوان العريض التالي: “إنها أهانت العَلَم!”. وما الموقف الذي اتخذته “قوة” تركيا “الدائبة على إشاعة الديمقراطية” إزاء هذا كله؟ بادر رئيس الوزراء أردوغان، وبسرعة البرق، إلى الالتحاق بركب مثيري الفتنة، إذ أمر بتزيين لوحات إعلانات حزب العدالة والتنمية بشعار: “أمّة واحدة، علم واحد!”. وفي انتخابات تموز/يوليو 2007، فاز الحزب بـ 47 بالمئة من الأصوات، وهي نسبة تُرجمت إلى 62 بالمئة من مقاعد البرلمان في ظلّ نظام التمثيل المشوّه المعتمد في تركيا: أكثرية مطلقة مريحة، ولكن دون بلوغ أكثرية الثلثين المطلوبة لتعديل الدستور، تلك التي كانت متوفرة في الدورة السابقة. وحين قوبل مشروع دستور حزب العدالة والتنمية الجديد ــ المشروع المتضمن بنداً يمكّن الطالبات والتلميذات من اعتمار أغطية الرأس في الجامعات والمدارس ــ بالمعارضة، بادر الحزب إلى قبول عرض التحالف البرلماني المقدّم من حزب الحركة القومية المتطرّف (المي هي بي MHP) من أجل تمرير المشروع. بدت صفقة حزب الحركة القومية القائمة على “واحدة بواحدة” واضحة تماماً: كانت حكومة أردوغان ستلمّع صورتها التقووية (الدينية) عبر تحرير غطاء الرأس، شرط الحفاظ في الوقت نفسه على المادة 301 ــ معدلة قليلاً لتجريم “المسّ بالشعور القومي التركي” ــ ورفع مستوى الحملة العسكرية ضدّ الأكراد.
أدى التحالف الجديد إلى التذكير بأحداث انقلاب 1980، ذلك الانقلاب الذي أنجب الحركتين القومجية والإسلامية المتطرّفتين دفعة واحدة، مع الإجهاز في الوقت نفسه على اليسار التركي القويّ والكفاحيّ. فبين عامي 1980 و1983، تم تجريد 30.000 مواطن من جنسيتهم، ولاذ 30.000 مواطن آخر بالفرار من البلاد، 458 شخصاً ماتوا تحت التعذيب، 50 شخصاً أُعدموا، وأعداد غير معروفة من البشر اختفت. جيل كامل من التقدّميات والتقدّميين تعرّض للتدمير والسحق. الأحزاب الوحيدة التي سمحت الدكتاتورية بتأسيسها هي الأحزاب الإسلامية والقومية المتطرفة. وبعد ربع قرن من الزمن نرى ورثة هذه الأحزاب القومية والإسلامية عاكفة على تجديد التحالف، إذ يتعاونون على التصويت لدستور الطغمة الانقلابية بما يخدم أغراضهم. ففي ظلّ مشروع الدستور الجديد من شأن حظر الأحزاب السياسية أن يبقى ميسّراً مثلما هو ميسّر في الدستور القديم. تدريس الدين سيظلّ إلزامياً في المدارس الابتدائية والثانوية. وإذعاناً لمتطلّبات حرية السوق جرى شطب بند بريء حول حقّ العيش في بيئة صحية. حرية التنظيم وتأسيس الروابط بالنسبة إلى الموظفين المدنيين مازالت مقيدة، إضافة إلى أنّ هؤلاء لا يتمتّعون بحقّ الإضراب عن العمل. حرص التحالف القومجي ــ الإسلامي على التزام الصمت الماكر حول المادة 15 التي توفّر الحصانة لجنرالات الانقلاب من المساءلة. وحين تمّ حشر إيرغون وأوزبودون، رئيس لجنة صوغ الدستور المعين من حزب العدالة والتنمية في الزاوية حول هذه المادة، اضطرّ لأن يعلن عن أنّ من شان الحزب أن يلغي المادة: 15؛ و”لكن ذلك لا يعني أننا سنحاسب الانقلاب والانقلابيين. ورغم أنّ جرائم معيّنة ربما اقتُرفت، فإنها خاضعة لشرط السقوط بالتقادم”.
مثل حزب الشعب الجمهوري (الجي هي بي CHP)، فضّل أردوغان إبقاء التركيز على قضية غطاء الرأس، مكرراً، بين الحين والآخر، عبارة أن “حزب العدالة والتنمية هو الأمل الوحيد لنسائنا المظلومات” المضطهَدات (بفتح الهاء) بعد سنوات طويلة من الأسى والمعاناة، (في الحقيقة لم يكن ثمة أي نص مكتوب يقضي بمنع النساء من تغطية رؤوسهن في المباني العامة؛ فقط بعد أواخر تسعينات القرن العشرين، قامت سلسلة من الأحكام القضائية بتحويل المسألة إلى “قضية” حقوقية). صار أردوغان أستاذاً متخصصاً في هذا الفنّ القائم على خطاب الشكوى من المعاناة ــ فنّ الشكوى من “اضطهاد نخبة المؤسّسات الرسمية للإسلام والمسلمين” ــ منذ بداية حياته السياسية. وهو، حين يفعل هذا، إنما يقتبس الخطاب المعادي للاستعمار لدى الحركات الإسلامية في مصر والجزائر، مصطنعاً “مستعمرين وهميين” في تركيا، التي لم يسبق لها قط أن خضعت لأيّ حكم استعماري. يحلو لأردوغان أن يتحدّث عن “هم” دائبين على اضطهاد “الشعب”، دون أن يكشف النقاب عمّن يعنيهم بضمير “هم”. مؤخراً نجح وسواس غطاء الرأس في إبعاد سائر القضايا الأخرى ــ قضايا الأطباء المحتجين على خصخصة نظام الضمان الاجتماعي؛ المعلمين المطالبين برواتب تكفي لإعالة أسرهم؛ الأكراد المطالبين بالتمثيل على الصعيد السياسي المشروع؛ العلويين ـ وهم طائفة إسلامية تقدّمية تراها الأكثرية السنية طائفة منحرفة ومرتدّة ــ المطالبين باعتراف الدولة؛ النساء المحتجّات على نزعة المحافظة المتنامية في تركيا. بدلاً من الاهتمام بذلك كله دأبت القنوات التلفزيونية والصحف اليومية على الانشغال بموضوع غطاء الرأس.
ما كان لافتاً للأنظار فيما يخص النقاش الدائر حول الموضوع، تمثّل، على أيّ حال، بأن يبادر الجميع، باستثناء النساء أنفسهنّ وحدهنّ، إلى أن يدلوا بدلائهم. فقط الرجال في حزب العدالة والتنمية ــ إضافة إلى حاسرات الرؤوس من أعضاء البرلمان ــ استطاعوا أن يعبّروا عن آرائهم. كانت هذه الأجواء السياسية مُذِلّة أكثر منها محرِّرة بالنسبة إلى النساء اللواتي يغطّين رؤوسهن، إذ تعيّن عليهنّ أن يصغين إلى رجال الحزب عاكفين على مناقشة الطريقة التي يجب عليهن اعتمادها في تغطية رؤوسهن؛ لم يتردد الحزب حتى إزاء فكرة تضمين الدستور صورة أنموذجية تبين الأسلوب المناسب. لا مجال للتشادور ــ من شأن ذلك أن يشكّل تجاوزاً للحدود المعقولة؛ أراد الحزب اعتماد الطبعة الحديثة من الزي الإسلامي، الطبعة التي توفرها شركات فيرساس وغوتشي. ثمّة صورة لصوفيا لورين معتمرة “غطاء رأس غربيّا” جرى تداولها أصولاً التماساً للتأييد. أخيراً، في الثامن من شباط/فبراير 2008، تم التصويت بالموافقة على تعديل ذي صياغة ملتبسة يبدأ بعبارة “لا يمكن منع كائن من كان من متابعة الدراسة الجامعية” في المجلس من قبل تحالف حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، بأكثرية 411 صوتاً مقابل 103 أصوات. زعم الزاعمون أن معاناة النساء التركيات باتت من الماضي. وعند هذا المنعطف بادرت 600 امرأة من ذوات أغطية الرأس، وجُلهن كاتبات، صحفيات، ومثقفات، إلى إصدار بيان قلن فيه إنهن لن يكن سعيدات بالذهاب إلى الجامعات كاشفات الرؤوس، “ما لم يتم” ــ وأدرجن قائمة الإصلاحات الضرورية التي يتعين على تركيا استحداثها إذا أراد أن تصبح ديمقراطية. لم يُنشر البيان في الصحف التي طالما سبق لها أن كانت مدمنة على الدفاع عن حرية اعتمار غطاء الرأس. من الواضح أن حزب العدالة والتنمية لم يكن راغباً في سماع أصوات النساء اللواتي أقدمن على انتقاد خط الحزب وسياسته، رغم كونهن ممن يغطين رؤوسهن.
في الوقت نفسه بقي النقاد “العلمانيون” في حزب الشعب الجمهوري (الجي هي بي CHP) لإصلاح غطاء الرأس لدى حزب العدالة والتنمية، شديدي الحرص على تجنب طرح المسألة في المدارس التي تموّلها الدولة. ظلت المعاهد الشرعية المتخصصة بتخريج الخطباء والأئمة المنابع الرئيسية للنزعة الإسلامية المحافظة في تركيا منذ ثمانينات القرن العشرين، إذ دأبت على توفير التعليم القرآني للفتيان والفتيات، وعلى ضمان وجود العدد الكافي من الأطر والملاكات الإسلامية؛ وقد توسعت هذه المعاهد توسعاً ملحوظاً في ظل حكم حزب العدالة والتنمية. غير أن علمانيي تركيا بقوا ــ إما لأنهم، هم أنفسهم، باتوا شديد التأسلم، أو لأنهم يخشون فقدان الشعبية لدى الكتلة الناخبة الإسلامية إذا تجرؤوا ولو على اقتراح تغييرات “جذرية” ــ مفتقرين إلى الشجاعة اللازمة ولو لطرح الموضوع، بله إلغاء المعاهد الشرعية وإغلاق أبوابها. ما أسهل التمسّك بغطاء الرأس! فعل حزب الشعب الجمهوري ما توجب عليه فعله إذ رفع دعوى ضدّ تعديل غطاء الرأس أمام المحكمة الدستورية، في حين أقدم أحد كبار القضاة على الدعوة إلى حظر حزب العدالة والتنمية كلياً بذريعة “نشاطاته المعادلة للعلمانية”.
كان “البوفيه المفتوح” لحزب العدالة والتنمية، وهو البوفيه المدمن على تقديم العرق مجاناً للقومجيين المتطرفين قد وفر خدماته لا لليبراليين وحدهم بل وللأكراد أيضاً. فحين أصبح زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوج آلان خلف القضبان عام 1999، تحول تنظيمه عن الدعوة إلى الاستقلال نحو اعتماد صياغات أكثر دبلوماسية مثل “الحقوق الثقافية”، “المواطنية الدستورية”، و”التمثيل السياسي الشرعي”. لم يسبق لهذا الخطاب قط أن بدا منطوياً على ما يكفي من الجاذبية بالنسبة إلى السياسة الكردية: كيف كانوا سيستطيعون قلب “الحقوق الدستورية” إلى شعارات؟ يضاف إلى ذلك أن حزب العدالة والتنمية كان يقدم الوعد نفسه، بل حتى أكثر من حزب تركيا الديمقراطي (الدي تي بي DTP) آخر التجسيدات الحية للتراث السياسي الكردي في جنوب شرق تركيا. اتخذ الناخبون الأكراد موقفاً نقدياً صريحاً من افتقار رؤساء بلدية الحزب الديمقراطي إلى الكفاءة في إدارة البلديات المحلية. شعار الانتخاب الأردوغاني في المنطقة كان يقول: “صوِّت للغتك! أو صوِّت لدينك!”، بمعنى الاختيار بين حزبي العدالة والديمقراطي، بين ARP وDTP. حقق حزب العدالة والتنمية نجاحاً كبيراً ليس فقط بفضل هذه السياسة القائمة على أسلوب “البوفيه المفتوح”، بل وتحت تأثير المنظمات المدعومة من العدالة التي دأبت على تقديم المساعدات الغذائية المجبولة بالمتبلات والمنكِّهات الإسلامية. نواب حزب العدالة والتنمية الأكراد في البرلمان درجوا على عادة أداء الصلاة باللغة الكردية مع الناخبين الأكراد، وكانت ثمة خيام إفطار رمضانية مجانية بتمويل حزب العدالة والتنمية طوال شهر الصوم. ليس هذا بالأمر البسيط في جنوب ــ شرق تركيا، حيث يعاني كثيرون من الجوع. إعلان أردوغان أنّ الأكراد “أشقّاء مسلمون”، وتقديمه للطعام المجاني كانا مصحوبين بوعد إرسال 1200 مستثمر ورجل أعمال إسلامي إلى ديار بكر التي تعاني من مستويات عالية من البطالة.
غير أن الأكراد الذين بلعوا الطعم وصوّتوا لأردوغان، ما لبثوا أن رأوا الوجه الآخر لحزب العدالة والتنمية. فحكومة أردوغان دائبة على قصف القرى الكردية في جنوب شرق البلاد كما عبر الحدود العراقية ولسان حالها يواصل تكرار خطاب بوش المتمثل بعبارة: “ليس أمامكم إلا أن تختاروا بيننا وبين الإرهابيين؛ معنا نحن أو مع الإرهاب!” كانت النتيجة الحتمية لحرب أردوغان مسلسل توابيت الجنود الأتراك المتدفق على أنقرة واستانبول صاباً أنهاراً من الزيت على نار التعصب القومي والنزعة المحافظة الدينية المتعاظمة. كان الأمر مؤشراً على التطرف الأقصى الذي كان البلد قد غرق في مستنقعه حين تعرّض الأنموذج التركي “إلهة البوب” لمقاطعة أحد القضاة الحانقين فبادرت الديفا (راقصة الباليه) بولنت ايرصوي الذي لم يسبق له أن كان ذا علاقة بالسياسة حتى تلك اللحظة إلى إطلاق عبارة: “لو عندي ابن لما أرسلته إلى هذه الحرب. إنها ليست حربنا. إنها حرب تخص الغير”. وحين حاول القضاة الآخرون أن يتدخلوا، احتجت قائلة: “أوقفوا هذا الهراء! ليست هذه إلا كليشيهات ودعايات تروِّج للحرب!”. وعندئذ جُنّ جمهور “إلهة البوب” الذي يفترض أنه عاديّ، غير مسيّس، جمهور تركيّ وطنيّ بسيط، وأطلق إعصاراً حقيقياً من التصفيق.
تعالوا الآن نقدّر: من بقي من أولئك الذين يتوهّمون أن حزب العدالة والتنمية هو “قوة مساهمة في إشاعة الديمقراطية” في تركيا؟ الليبراليون نزلوا من القطار بعد مقتل هرانت دينك، ولم يضطلعوا بأيّ دور ذي شأن في إعداد الدستور التركي الجديد؛ تعرّض هؤلاء أيضاً لنوع من الضياع جرّاء شطب عملية عضوية الاتحاد الأوروبي من جدول أعمال الحزب. النساء غادرن الحلبة بعد قصّة غطاء الرأس. الاشتراكيون والديمقراطيون الاجتماعيون كانوا قد اختفوا من البداية في أعقاب إصرار حزب العدالة والتنمية على اعتماد برنامج خصخصة يتّصف بالشراسة. وإذا أضفنا جمهور “إلهة البوب” إلى القائمة، فلا يبقى سوى أولئك الذين يفهمون الديمقراطية التركية نوعاً من أنواع “حكم الشركات التجارية الإسلامية” ديمقراطية تكاد تشبه ديمقراطية دبي؛ ديمقراطية قد لا يستطيع الاستمتاع بها سوى ريتشارد، رجب، أنور وأصدقائهم.
بات من الصعب الحسم حول أيّ الفريقين هو الأكثر تسلطاً ودكتاتورية: فريق حزب العدالة والتنمية أم فريق القومجيين المتشددين، فريق الذئاب الرمادية؟ ما إن نحاول الوقوف في صفّ أحدهما حتى نجدنا مضطرين للاحتجاج على تصرفات الآخر: اغتيال دينك، ثم مسيرات الأعلام، وبعدها حملة حزب العدالة والتنمية العسكرية ضدّ الأكراد. راقصة الباليه متّهمة الآن من قبل المتشدّدين وتجب مقاضاتها بموجب المادة 301. في الأول من أيار/مايو، عيد العمال العالمي عام 2008 أطلق حزب العدالة والتنمية “الحريص على إشاعة الديمقراطية!” أجهزة مكافحة الشغب البوليسية ضد متظاهري النقابات العمالية، التي ما لبثت أن اجتاحت أحد المشافي لطرد الجرحى من المحتجين وإغراق مهاجع المرضى بالغاز المسيل للدموع ــ حوادث مرّت دون أن يلاحظها مؤيدو أردوغان في صحافة بيوتات المال الغربية. وبعد ذلك، في السادس من حزيران/يونيو 2008 حكمت المحكمة الدستورية بأكثرية 9 مقابل 2 أنّ تعديل غطاء الرأس “معادٍ للعلمانية” وغير دستوريّ؛ فاتحاً الطريق أمام الاستنتاج نفسه ضدّ حزب العدالة والتنمية بالذات في موعد لاحق من السنة. يقوم المنطق على المزيد من تصعيد نزعة التسلط والدكتاتورية من ناحية ونزعة العصب القومجي من الناحية المقابلة ــ تانك النزعتان اللتان لا بدّ من التصدي لهما كلتيهما.
موقع الآوان