صفحات مختارة

في التطرف الديني: خطر، خطر، خطر!

محمّد الحدّاد
«أزمة الثقافة» كانت عبارة تتردّد كثيراً في السبعينات والثمانينات، وكانت تعني أساساً عجز الثقافة العربية على حسم اختياراتها الحضارية الرئيسية وتواصل تيهها في إشكالات يتكرر طرحها دون أن تجد لها الجواب الشافي. ولم يكن متصوراً آنذاك أن ينتهي الأمر بالناس إلى التبرّم أصلا من تلك الإشكالات وطرحها جانباً في يوم من الأيام، أو التخلي عن تناولها بجدية. لقد بدا وكأن الأمور ستواصل السير بنفس الوتيرة، أي وتيرة الاستعادة والتكرار، وربما كان للمثقفين مصلحة شخصية في الأمر، لأنهم يحافظون بذلك على مواقعهم دون أن يجهدوا أنفسهم في البحث، إذ يكفيهم أن يواصلوا ترديد ما تعوّدوا عليه. لكن كسل المتلقين لم يكن أيضاً بأقل من كسل المنتجين، إذ أن التعوّد على القول المألوف يريح السامع مثلما يريح المحاضر أو الكاتب.
لكن الأمر تغيّر بــسرعة في السنوات القليلة الماضية، وانهارت فجأة مبيعات الكتب التي كانت تتصدر واجهات المكتبات منذ عقود، وضمر اهتمام الأجيال الشابة بإشكاليات هذه الثــــقافة العــــربية المأزومة، بل لم يعد التحدّي الرئيسي متمثلا في الأزمة ذاتها بقدر ما هو شبح الفراغ الثـــقافي التام. وكثيراً ما ننسى أن كلمة ثقافة في ذاتها كلمة دخيلة على الاستعمال اللغوي العربي، وأن الناس ظلوا يتخاصمون قروناً قبل ذلك حول العقائد والأحكام المذهبية، وعلى هذا الأساس فإنّ الانتقال إلى الإشكالات الحديثة قد مثّـل تقدّماً وإن ظلّ يدور في فراغ، أما اليوم فإننا نرى في بعض مجتمعاتنا عودة حقـــيقية إلى المنازعات الكلامية والفقهية بالمعنى الذي مزّق بغداد في العصر العباسي ويمزّقها اليوم، ما قد يدفع إلى بعض التحسر على عهد قريب كان الناس قد تجـــاوزوا فيه ظاهرياً على الأقل هذا النوع من النزاعات وان استبدلت أنواعاً أخرى به.
لكن الحسرة لا تفيد، لأن ما نعاينه منذ غزو الكويت إلى اليوم هو أن الفراغ الأيديولوجي قد ملأه الطنين الطائفي، وأنّ الخمينية الإيرانية بشكليها الأصلي والمولّد قد حلّت محلّ القومجية العربية، أما الشكل الأصلي فهو معروف، وأما الشكل المولّد فأقصد به قطاعاً من الأصولية السنية الذي صار من أتباع خط الإمام بقدرة قادر وفي سرعة مبهتة. وما زلت أتذكر بعد غزو الكويت كيف بدأت مجمـــوعات من الكتّـــاب، مـــنهم المجموعة التي بدأت تكتب آنذاك على صفحة «تيارات»، تبشّر بآراء جـــديدة كان يراد لها أن تكون لبنات ما بعد مرحلة القومجــــية العربية، وكم كان يســكننا الأمل في ذلك الوقت، وكنا نظن أننا نتخلص من كابوس الأيديولوجيا لندخل عصر الفكر الحرّ المتحرّر، لكن خاب ظننا على ما يبدو وضمر تفاؤلنا، وأخشى ما نخشاه على المجتمعات العربيـــة اليوم هو أن تصبح مجتـــمعات دون ثقافة، وأن تكتفي بالاستهلاك. فلا شيء يمكن أن يدفع الأجيال الجدية إلى الالتفات إلى الكثير مما يدعى اليوم ثقافة، أو أن تكون الخمينية السنية المحدثة «الثقافة» الوحيدة التي تحظى بالجاذبية.
وفي ندوة «أكاديمية» حضرتها حديثاً تعرضت لهجوم عنيف لمجرد أني تحدثت عن البيروني وقلت إنه عالم فلك كتب أفضل كتاب في الأديان المقارنة، في إشارة إلى كتابه «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة»، فثارت ثائرة سدنة معبد الوهم بأن شعروا أنّ موارد رزقهم مهدّدة من شخص مات منذ ما يقارب عشرة قرون! وإذا كانت الحساسية تبلغ بالكثيرين إلى هذا الحدّ، حتى أن الحديث عن البيروني الذي توفي سنة 440/ 1048 أصبح ممنوعاً ويعتبر تشكيكاً في ثوابت الهوية وتعدياً على حرمات الدين، فهل نستغرب بعد ذلك أن تسخر الأجيال الجديدة من كل ما هو ثقافة بعد أن بلغت هذا المستوى من الإسفاف؟
إني متأكد أن إيران ستتخلص قريباً من التطرف وستجد لها طريقاً وسطاً بين تراثها والحداثة، فلا تعود شــاهنشـــاهية كما لا تبقى خمينية، لكن الخطر قائم على المجتمعات العربية التي ينخرها التطرف الديني منذ الثورة الإيرانية، وكم أشعر بالحسرة وأنا أرى الشباب الإيراني يخرج إلى الشوارع ليندّد بالتسلط الديني فيتعرض للإيقاف والتعذيب بل القتل أحياناً، بينما لا يعي البعض في مجتمعاتنا بما ينعم به من حرية ولو نسبية في مجال السلوك والرأي، لربما كنا نفهم أن النــــموذج الإيراني مارس بعض الجاذبية مع مطلع الثورة، لكن يعسر على العقل أن يتبين سبب جاذبية النظام المتداعي الحالي، سوى هذا العمل المتأني الذي يــــقوم به البعض جهراً والبعض الآخر تخفياً لدفعنا إلى ما لا يحمد عقباه. حوّلوا خط الإمام كي لا يخترق مجتـــمعاتنا المنهوكة وابعدوا عنّا التطرف الديني ودعاته فإنه الخطر الأكبر الذي يتهدّدنا اليوم.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى