الطائفية التي تنخر أسس الجمهورية الفرنسية
د. برهان غليون
خرج رجل السياسة الاشتراكي الفرنسي السابق جورج فريش، وهو رئيس الحكومة المحلية لمنطقة مونبلييه، والمرشح الحالي الأوفر حظا لخلافة نفسه في إحدى كبريات المدن الفرنسية، على الرأي العام، مطلع فبراير الحالي، بكلام لو صدر واحد بالمئة منه عن أي عضو عربي أو مسلم في المجالس والحكومات المحلية لكان له وقع القنبلة، وربما كان سيدفع إلى إصدار قوانين جديدة لتقييد حريات المواطنين من أصول غير فرنسية. بدأ جورج فريش خطابه أمام جمهور كبير في مجلس الجالية اليهودية بالتعبير عن سعادته لاختيار الفرنسيين نيكولا ساركوزي رئيسا للجمهورية، الذي وصفه بأنه أول رئيس يهودي ينتخب بالاقتراع العام، وكذلك لتعيينه كوشنر وزيرا للخارجية. وأضاف: “ماذا نريد أكثر من ذلك”؟ وتساءل، بعد التأكيد على الصداقة القديمة التي تجمعه بوزير الخارجية الفرنسي عما إذا كان كوشنر سيتخذ أخيرا قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. ولم يتردد جورج فريش، مخاطبا بيريز وباراك، رئيس الدولة الإسرائيلية ووزير دفاعها، ومرحبا بحضورهما المهرجان دعما لحملته الانتخابية، في القول “نحن هنا، (في مونبلييه)، منذ ثلاثين عاما، منطقة محررة من أرتز (أرض) إسرائيل” “وقد أيدنا باستمرار بناء الجدار الذي تبنونه هناك، وهو مشروع ومبرر تماما، فعليكم أن تكملوه، حتى لو أنكم فكرتم، بعد 5 أو 10 سنوات، في عقد السلام مع الضفة الغربية بزعامة أبو مازن”. وقال بخصوص إيران، إن إيران قوة خطيرة ومصدر تهديد دائم، وأنا أتفهم أي إجراء استباقي يمكن أن تتخذوه. “نحن هنا في مونبلييه لدينا وشائج حميمة مع إسرائيل. ذلك البلد الصغير الذي لا يعد إلا بضع ملايين في وسط 200 مليون عربي لديهم كل الأرض اللازمة لتأمين نموهم. وعلى جميع الأحوال ليست إسرائيل هي التي وضعت الفلسطينيين في المخيمات وإنما اللبنانيين”.
ليس المثير في هذا الكلام كشفه عن هوية رئيس الدولة ووزير خارجيته، ولا تلاعبه بالأحداث والوقائع التاريخية بخصوص العرب والفلسطينيين، ولا دلالته على وجود رجال سياسة فرنسيين مؤيدين لإسرائيل، فلم تخل أوساط الأحزاب الفرنسية اليمينية واليسارية منهم في أي وقت، ولا حتى المضمون الواضح لهذا التأييد الذي يتجاوز التضامن مع إسرائيل كدولة للتماهي مع سياسات حكومتها الراهنة التي صار تطرفها في مسائل الاستيطان والحدود واللاجئين والسلام مشكلة لحلفائها أنفسهم. وإنما المثير هو الجرأة التي عبر بها مسؤول فرنسي كبير عن موقف يسعى جميع أنصار إسرائيل إلى التعامل معه بحذر، أعني التعبير الصريح عن ازدواجية الولاء، إن لم نقل عن الولاء الوحيد لإسرائيل، واستخدام الولاء لفرنسا وسيلة لتقديم الخدمات والدعم والتأييد للدولة اليهودية. ولعل مغزى هذه الجرأة على التعبير عن الولاء الرئيسي لإسرائيل يزداد دلالة عندما نضعه في سياقه الزمني والسياسي. ف
قد جاء في اليوم ذاته الذي كانت الحكومة الفرنسية تزمع فيه الإعلان عن اختتام حملتها التي دامت أكثر من أربعة أشهر للدفاع عن الهوية الوطنية الفرنسية، والتي شكل رفض الانتماء المزدوج الذي يتهم به العرب والمسلمون، ونقص تعلقهم بقيم الجمهورية وتقاليدها، المحور الرئيسي للحملة بأكملها. فلا تخفي الأوساط السياسية الفرنسية أن وراء جميع القرارات التي اتخذتها الحكومة في العقود الماضية إزاء الوافدين، من العرب والمسلمين والأفارقة، ومعظمهم جاؤوا لاجئين اقتصاديين أو سياسيين مقطوعين عن بلادهم، تكمن فكرة أساسية هي الحؤول دون تحول فرنسا إلى دولة متعددة الثقافات والهويات، كما هو الحال، حسب ما هو شائع هنا، في بريطانيا والولايات المتحدة، وبالتالي القبول بتعدد الانتماءات، للدولة وللجماعة القومية أو الدينية، مما يشكل تهديدا خطيرا لقيم الجمهورية وتقاليد العلمانية التي لا تقبل بأي تشكيلات وسيطة تقف بين الفرد والدولة، من طوائف أو تجمعات إثنية أو قومية.
يختلف التعبير عن هذه الفكرة حسب اتجاه المتحدث السياسي وميوله الفلسفية، فمنهم من يصورها على أنها رفض لحياة المعازل التي يسعى إليها بعض المهاجرين، حارمين بذلك أنفسهم من حقوق المواطنة والاندماج، ومنهم من يرى فيها ضمانة لحماية قيم الجمهورية العلمانية. إنما الغاية واحدة، هي صهر الجماعات، التي أتت إلى فرنسا بثقافة وتقاليد وميول وأنماط سلوك مختلفة عما هو سائد، في بوتقة الغالبية. وهو ما تسعى إلى تأكيده الحملة الراهنة من أجل الهوية الوطنية. هذا هو الذي يفسر في نظر المسؤولين الفرنسيين والرأي العام معا طبيعة السياسات التي صيغت إزاء الجاليات العربية والاسلامية والإفريقية، سواء ما تعلق منها بتقييد بناء أماكن عبادة ظاهرة، أو وضع المهاجرين تحت ما يشبه المراقبة المستمرة، وردع الفتيات عن وضع غطاء الرأس في المدارس، أو أخيرا منع النقاب في المؤسسات العامة، والتهديد بسحب الجنسية من الأزواج الذين تثبت ضغوطهم على نسائهم في هذا المجال، مرورا بما بدر من انتقادات شبه عنصرية لسلوك المهاجرين وتصرفاتهم الخاصة، من قبل وزراء فرنسيين أثناء الحملة الوطنية للدفاع عن الهوية الفرنسية.
ربما أثار تأكيد منظمي الحملة الوطنية هذه مشاعر بعض المسؤولين في الأوساط المؤيدة لإسرائيل الذين خشوا من أن توجه الإصبع لهم في وقت ما، فبادروا إلى التذكير بأن ما ينطبق على غيرهم لا يمس خصوصيتهم، وأن ازدواجية اليهودي أمر معترف به ومكرس في التقاليد الفرنسية، وهذا هو معنى الإشارة لأول مرة إلى طائفة الجمهورية بشكل صريح وواضح. والواقع ليس جورج فريش هو أول المبادرين لتأكيد هذا الامتياز. فقد سبقه إلى ذلك ريشار براسكييه، رئيس مجلس الطائفة اليهودية الذي كتب، خلال الحملة الوطنية من أجل الهوية، مقالا في إحدى أهم الصحف الفرنسية (لوموند 2 نوفمبر 09) أكد فيه أولوية الانتماء للطائفة على الدولة، أو على الأقل حتمية ازدواجهما بالنسبة لليهودي. ففي نظره، ليس اليهودي مواطنا فردا فحسب، وإنما هو جماعة أيضا. ولا ينبغي لمواطنيته للدولة الفرنسية أن تنسيه انتماءه إلى الطائفة اليهودية، وولاءه الذي لا ينفد، من ورائها لدولة إسرائيل التي تشكل سندا لها.
لم تثر تصريحات جورج فريش، كما لم يثر مقال ريشار براسكييه أي رد فعل من قبل السياسيين أو المثقفين الفرنسيين الذين يشككون دائما في ولاء المواطنين الفرنسيين من أصول عربية أو إفريقية للجمهورية، ويعتقدون أن الجواب الوحيد على مخاطر نشوء ازدواجية الولاء هو محو الشخصية الأصلية للوافدين. فمن الواضح أن ازدواجية الولاء والانتماء لا تقوى على ازدواجية المعايير ولا يمكن أن تتغلب عليها.
فلجمهورية الرئيس ساركوزي منطقها الذي ينكر الخصوصيات القومية والطائفية، لكنه لا يرى الخصوصيات بعين واحدة، ولا يقيسها بالمقاييس ذاتها. وربما وجد في بعضها تعزيزا للهوية الوطنية في مواجهة الهويات المستوردة حتى لو كانت من ذات الطينة الدينية.
“الوطن” السعودية