هذه “القوة” التي لا تصيب إلا أصحابها
لمناقشة ياسين الحاج صالح
حازم صاغيّة
عزيزي ياسين،
يبدو أنّ الفارق الأساسيّ بين ما تراه وما أراه، أو أنّ هذا ما يتراءى لي، انطلاقك من أن لبنان وسوريّا وطنان ومجتمعان وشعبان، لا ينقصهما إلاّ تغيير “شكلهما”. طبعاً، أنا هنا أختزل رأيك، وهو أغنى وأعقد من ذلك، إلاّ أنّي، في ما أظنّ، أحافظ على زبدته التي ترسخ وحدها في آخر المطاف.
ولأنّ من ساواك بنفسه ما ظلمك، فها أنذا أختزل رأيي أيضاً على الشكل التالي: إن لبنان وسوريّا (والعراق واليمن والسودان…) مشروعا وطنين ومجتمعين وشعبين. وهذان المشروعان في عنق الزجاجة اليوم: إمّا أن ينجحا أو أن ينهارا. وأظنّ أنّ النجاح بعيد جدّاً.
فلنبدأ بجذر المسألة: حين نشأ لبنان كان يولد من صفر، وطرّيةً ما تزال النقاشات في صدد شكله وحجمه: أيكون صغيراً أم كبيراً، أيُضمّ إليه وادي النصارى أم جنوب لبنان؟ والشيء ذاته يصحّ في سوريّا التي، كما تعلم، عُدّلت أشكالها وصيغها و”دولها” قبل أن تستقرّ على شكلها الحاليّ. وفي هذه الغضون، تمّ تجريب مشاريع دول للطوائف والمدن كانت تملك شعبيّة لا يُستهان بها، وإن لم تكن كاسحة، عند أهل تلك المناطق. وحين طُرح لسوريّا نظام ملكيّ، كان من الأسماء التي تردّدت علي بن الحسين شقيق فيصل وكذلك شقيقه الآخر زيد والأمير عبد المجيد بن الشريف علي حيدر وخديوي مصر السابق عباس حلمي و”البرنس” المصري يوسف كمال والأمير السعوديّ فيصل بن عبد العزيز، كما كان أمير شرق الأردن عبد الله لا يخفي طموحه بالعرش السوريّ المحتمل.
أقول هذا لا للمصادرة على المستقبل باسم الماضي، بل للتذكير بما أظنّه أمّ الحقائق في نقاش أحوالنا: فنحن إنّما حُملنا حملاً على استيراد مفاهيم “الشعب” و”الوطن”، وحتّى اللحظة لم تحصل أيّة تبيئة لهذه المفاهيم. واقع الحال أنّ العكس ما حصل، وهذا ليس بسبب الاستبداد، إذ ماذا عن لبنان الموصوف بحريّة فائضة، وماذا عن بلدان كثيرة أنظمتها تقع بين بين، وتتوزّع “ما بين المحيط والخليج”؟
فإذا كانت الطرق كلّها تفضي إلى تفسّخ النسيج المسمّى وطنيّاً، صار من واجبنا النظر في هذا النسيج ذاته.
لا أخلص من ذلك إلى فرضيّة جوهرانيّة من أنّ ثقافتنا الدينيّة وغير الدينيّة هي هكذا. لكنّي، في المقابل، لست ممّن يبرّئون هذه الثقافة من رفد هذا المآل ومن تعزيزه. فالثقافة هذه تتساند مع المنظومة التي تحول دون تمكّن الدولة والوطنيّة في ربوعنا: أقصد الطائفة والعشيرة والإثنيّة ممّا يجد غطاءه المنفوخ في “الأمّة” عربيّة كانت أم إسلاميّة. فما دامت الحداثة جعلتنا نستحي بأن نكون عشائريّين وطائفيّين، فلا بأس بتغطية العورة بالأغطية الفضفاضة.
أمّا نقطة الانطلاق في ما أراه فليست في “هذه” الثقافة، أي “الإسلام والعرب”، بل في الموقف من الدولة الذي لا يستقيم في ظلّ الموقف الراهن من “الغرب”. ذاك أنّنا لا نستطيع، في آخر المطاف، أن نستبدل سلعنا الكاسدة بهذه السلعة، وتاريخُ القرن العشرين لا يقول، في ما خصّنا، غير هذا. وما من أحد يتصالح مع بضاعة يكره منتجها إلى هذا الحدّ، بحيث يشتبك معه في السياسة بما يفيض عن السياسة إلى الثقافة والقيم والحياة عموماً. وهذا أيضاً وأيضاً ليس جوهرانيّاً فينا، وما من شيء جوهرانيّ في أحد. لكنْ إذا شكّلت التجربة الاستعماريّة خلفيّة بعيدة، فإنّ مسلسل الإخفاق في الإقبال على الدولة وعلى بنائها استرسل في إنتاج مفاعيله. هكذا نشأ ما يسمّيه “الأخوة” الماركسيّون جدل حميم بين إخفاقنا وعدائنا للغرب، واحدهما يغذّي الثاني.
وأغلب الظنّ أنّ صناعتنا للقضيّة الفلسطينيّة بوصفها مسألة فريدة ومستحيلة الحلّ، تستمرّ بذاتها وتنمو من تلقاء ذاتها، تصيب العصفورين بحجرها الواحد. وهذا وإن لم يكن ينتقص من عدوانيّة إسرائيل، إلاّ أنّه يدرجها بوصفها ملاقاة لنا في منتصف الطريق.
يصحّ الشيء نفسه في حديثنا عن الاستعمار الذي نتناوله كأنّنا في 1882، على رأسنا يقف أحمد عرابي ما، لا نلنا استقلالات ولا انقضت عقود على استقلالاتنا تلك. وهذا سببه، في أغلب الظنّ، أنّنا لم نطوّر، في هذه الغضون، أيّاً من المعاني الذاتيّة حتّى غدا معنانا الوحيد أنّنا “ضدّ” الاستعمار. هكذا ينبغي تخليد هذا الأخير كي نبقى، نحن أنفسنا، خالدين.
على أيّة حال، فالإيحاءات الواردة في نصّك عن إيحاءاتي المفترضة حيال الاستبداد ليست، على ما أظنّ، في محلّها. فـ”الاستبداد” و”الزوال” ليسا خيارين متنافيين طبعاً. وكلّ ما يفعله الاستبداد أنّه يديم الوحدة التي على السطح بينما يمعن في تفتيت الصلب والقاعدة، حتّى إذا ما كُتب للتشظّي أن يستعرض ذاته وقف الحجر يقاتل الحجر الآخر. ولنا في العراق عبرة: فما فعله صدّام والبعث هو ذلك بالضبط، ممّا انفجر انفجاره الهيوليّ حين أزيح حكمهما وخرج إلى العلن المجتمع والثقافة “الأصيلان” المشبعان بالعصبيّة – سلعتنا. ولا يلغي هذا أنّ عراق صدّام والبعث بقي موحّداً على السطح ما بين 1968 و2003، هو الذي استهلّ استقلاله بانقلاب بكر صدقي في 1936 فانقلاب رشيد عالي الكيلاني في 1941 فـ”الوثبة” في 1948 فانقلاب عبد الكريم قاسم في 1958 فالانقلاب عليه في 1963 فالانقلاب على الانقلاب أواخر العام نفسه فالمحاولات الانقلابيّة في العهدين العارفيّين، وصولاً إلى انقلاب البعث. وهذا هو القرن العشرون الذي لم نعش غيره، ولا احتكّت بنا الدولة الحديثة في غيره.
وذلك أكان دعاية سلطة أم لم يكن، يضعنا أمام المأزق التاريخيّ الذي هو أنّ الاستبداد كارثة والتجارب المعروفة في التخلّص منه كارثة بدورها. وأظنّك توافقني على أنّ الحلّ ليس بشعار الديموقراطيّة أو أيّ شعار آخر.
قد تقول: لكنّ هذه الجماعات عاشت معاً ودرست لسنوات في مدارس مشتركة وتبادلت إنتاج سلع واستهلاكها. وهذا صحيح يجعل الدولة الأمّة واقعاً يساكن واقع الطائفة أو الجماعة. إلاّ أنّها مساكنة استئذان ومداورة. فلنلاحظ، مثلاً، أنّ سنوات الاشتراك الأكبر تمّت إمّا في ظلّ الاستبداد أو في ظلال الحرب الأهليّة. وهو، كما تعلم، اشتراك مسموم. فوق هذا فإن ذلك الواقع الدولتيّ هو الأشدّ افتقاراً إلى ثقافته ووعيه، لا يشاطره هذا الافتقار إلاّ الواقع الطبقيّ إذ الإثنان من منتجات الحداثة لا من منتجاتنا.
لذلك فحين تتحدّث، يا عزيزي ياسين، عن نخبة الحكم وثقافة الدولة، أسألك: من أين تأتي بهما، فيما تاريخنا الحديث يترجّح كلّه بين ثقافات نافية للدولة أصلاً: أليست التعابير الدارجة عندكم والتي صارت جزءاً من طبع راسخ كـ”القطر” و”الوطن العربيّ” (وهي مصطلحات تعجز لغات الأرض عن ترجمتها) دليلاً على ميل عميق إلى استبعاد الوطن القائم لمصلحة الوطن المتخيّل، وهذا مع العلم أن التخيّل لا وظيفة له عمليّاً إلاّ خدمة مجموعة من القرى والدساكر؟. أهذا التقلّب بين “العروبة” و”الإسلام” و”العروبة والإسلام” و”الأمّة” التي لا يعرف حجمها إلاّ الله مجرّد بلاغة إنشائيّة بريئة؟
ويتراءى، في هذا المعرض، أنّ فشل الدولة الأمّة قد يفتح بابنا، في أحسن الحالات ووسط تجارب يُخشى أن يصبغها دم كثير، للدولة المدينة التي ربّما شابهتنا وشابهناها أكثر من الدولة الأمّة. ذاك أنّ الاستعمار حين صاغ بلداننا ارتكب الخطيئة التي هي عكس الخطأ المنسوب إليه في الرطانة القوميّة: فهو وحّدنا أكثر مما يجب، وأكثر ممّا نحتمل.
وأمّا عن “قوّة لبنان في ضعفه” فهذا ما لا يشهد له، تجريبيّاً وعمليّاً، إلاّ “قوّة لبنان في قوّته”، ممّا نراه اليوم على شاكلة حرب الكلّ على الكلّ وكراهية الكلّ للكلّ. بيد أن هذا الضعف ليس، من حيث المبدأ، نازعاً للدولة أو مضعفاً لها. دليلي إلى ذلك أنّ الدولة في لبنان كانت أقرب ما تكون إلى هذه التسمية في العهد الشهابيّ، في الستينات، وكانت “قوّة لبنان في ضعفه” معمولاً بها على شكل تمسّك باتّفاق الهدنة ولعب ديبلوماسيّ وغير ديبلوماسيّ على تناقض السياسات الإقليميّة والدوليّة. وذلك ليس مأمون العواقب دائماً لكنّ نقطة ضعفه مردّها إلى المسألة الأمّ المتّصلة بمدى الإجماع حول الوطن والدولة. وهو، عند التدقيق في التفاصيل، إجماع عند الدرجة الصفر.
أبعد من هذا، أظنّ أن بلداً من 18 طائفة، لكلّ منها ثقافتها الفرعيّة، لا يباشر سيره الطويل نحو الدولة والوطنيّة إلاّ متى نُزع نابان: ناب القوّة وناب الأدلجة المستفحلة. فمن دون أن تستقرّ الأعصاب في الداخل وتستكين، ومن دون أن يكون استقرار كهذا محميّاً بحياد ما، يبقى الفناء أفق اللبنانيّين الأوحد. ثمّ ما العيب في أن نكون في هذا المشرق المفتّت، ما بعد العثمانيّ، مجموعة ضعفاء لا يخيف واحدهم الثاني، بالمعنى الذي تستوي عليه النمسا وهولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ؟، وهل محاولة “اكتساب” هذا الضعف أصعب من محاولة اكتساب القوّة، ونحن نعرف ما جرّته علينا القوّة منذ استقلالاتنا، في دواخل البلدان وعلى حدودها؟.
أخيراً، لمست كأنّك تفترضني أضع لبنان في مقابل سوريّا، أو أمارس التفضيل والهوى انطلاقاً من ثنائيّة كهذه. ولن أنجرّ إلى لغة “الأشقّاء” و”أبناء العمّ”، فأستنجد بالعشيرة لتوكيد حسن النيّات، وهذا رائج عندنا. لكنّك لم تخطئ في أنّي أفضّل لبنان لا لأنّه لبنان، بل لأنّ شروطه وظروفه جعلته أقرب إلى الغرب، أي إلى النبع والمصدر. والنبع هذا لا تجفّفه اليوم إلاّ “القوّة” التي كانت قد بدأت منذ 1949 في تجفيف سوريّا فتسبّبت في الفارق الذي يعنيني. فأنا لا أخفيك أنّ ما نسمّيه، بكثير من السخاء، عصر نهضة، ليس، في ما أحسب، أكثر من قناة السويس والجامعة الأميركيّة في بيروت. والابتعاد أو الاقتراب منهما مصدر التفضيل، لا قاسيون وخالد بن الوليد و”يا ظلام السجن خيّم”، ولا الأرز وبشير الشهابيّ و”كلّنا للوطن”.
أعرف أنّ كلامي المتشائم، بأعمق ما ينطوي التشاؤم عليه، بل العدميّ ربّما، ليس أفضل ما يمكن قوله لمناضلين يقاومون الطغيان والحروب الأهليّة وسائر عاهاتنا الضخمة هنا أو هناك. لكنّي أظنّ أيضاً أنّنا فقدنا كماليّات الاختيار، وآن لنا أن نقول لأصناف المتفائلين على اختلافهم إنّ العمليّة الجراحيّة التي لا بدّ منها قاسية جدّاًً، وكلّما تأخّرنا غدت أخطر فأخطر. ولك أن تراجع أوضاع مثقّفين في أوروبا الوسطى والشرقيّة، أو في اليابان، ممّن نزعوا تلك الأثواب جميعاً بعدما أدركوا أنّ العري شرط لارتداء الثوب الجديد. فالإمبراطوريّات، من تينك العثمانيّة والهابسبورغيّة حتّى السوفياتيّة، لا تنتهي إلاّ بإنقاص الأرض وتقنين المعنى. وهذا ثمن لا يمكن تفادي بذله إذا ما شئنا ترشيق أجسامنا بحيث تدخل في الحداثة. أمّا حين تكون الإمبراطوريّة وهمَ إمبراطوريّة فهذا، وعلى عكس ما قد يُظنّ للوهلة الأولى، يجعل الكلفة أعلى والمخاطرة ذات مردود أقلّ.
لكنْ وسط عتم كهذا، لا يعزّي واحداً مثلي إلاّ ذاك الجوار مع أفراد من طراز ياسين الحاج صالح، وذاك التماسّ مع نصوص لامعة مثل نصّه.
المستقبل