حرّاس الهواء لروزا ياسين حسن: متاهــات الذاكــرة
جمال شحيد
كما قال الملك البريطاني تشارلز الأول (1600ـ 1649) ـ والنطع في عنقه ـ لأوليفر كرومويل الذي تمرّد على الملك وحَكـَمَ عليه بالإعدام : «remember»، تؤكد روزا ياسين على كلمة «تذكري» (وتكرّرها مراراً كثيرة بصيغة الأمر المؤنث). قبل الخوض في «ماذا» تتذكـّر، سأتوقف قليلاً عند: «ما هي الذاكرة؟» في هذه الرواية اللافتة في الأدب السوري الشبابي.
وردت كلمة «ذاكرة» ومشتقاتها عشرات المرات في تضاعيف هذا الكتاب. وأخذت في كل مرّة مدلولاً خاصاً، نظراً لطبيعتها أو إحالاتها أو وظائفها أو أبعادها. تتكلم روزا حسن عن الذاكرة البعيدة (ص 89)، وعن الذاكرة التي تسحب الأم إلى مناطق مظلمة ورطبة تفوح منها رائحة العفن والرطوبة» (ص 101)، عن ذاكرة الأرواح التي تحاصر ايزابيل (ص 258) وتمتصّها كدوّامة سوداء (ص 258)، عن الذاكرة الجينية التي تربطها بالتاريخ العربي في اسبانيا «جينات تركها جدّ جدّي الأندلسي فيّ» (ص 258)، عن الذاكرة المتجسدة في إنسان : «ضُحى هي ذاكرتي، عنات … ذاكرتي. تعرفين ما معنى ذاكرتي؟» (ص 252). وعندما يؤكد أبو عنات أن «التقمّص حقيقة لا لبس فيها» (ص 213)، تتساءل ايزابيل إن كانت الذاكرة تتقمّص (ص 261). وتدفعها ذكرى الأندلس إلى القول : «إذا كانت أجسادنا قمصاناً لأرواحنا، فلم لا تكون أدمغتنا قمصاناً لذاكرتنا أيضاً» (ص 261). وهذه الذاكرة هي التي تربط ماضينا الأندلسي بحاضرها، فتنتقل بطرفة عين من ولاّدة بنت المستكفي أو حفصة بنت حمدون أو نزهون الغرناطية إلى ايزابيل. وهذا التماهي بينها وبين شاعرات الأندلس، بين زمنها الأندلسي وزمنها الحاضر، هو الذي يلفح أنفاس التاريخ فيها : «كنتُ في زمن، ولديّ زمن مغاير… لفحني العشق كلما اقتربت من ذاكرة عربية» (ص 261)، «أنا ايزابيل، المرأة الإسبانية الأندلسية العربية … روحي غطاء لذاكرة مسافرة. قلبي يغصّ بحبّ بعيد غريب وغامض.. أنا ايزابيل، ليس لذاكرتي مكان أو منطق، ليس لروحي سكن أو مستقرّ. وحده جسدي يوثقني هنا! وحده جسدي يقرّ في غرناطة» (ص 263).
صور الموت
وللذاكرة صور سلبية أيضاً. فهذا إياد الشالاتي يفضل حبيبته لمى الحاج «بدون ذاكرة نظرية» (ص 231)، لأن التنظير يفسد متعته الجنسية. وهذا حسن أبو عنات لم ينس بعد أربعين سنة من التقائه بايزابيل «ملمس جسمها وتفاصيل كل شيء»، يقول: «أخاف أحياناً من ذاكرتي. أذكر كل شيء فيك ومعك كأن أربعين دقيقة مرّت، وليس أربعين سنة… أتصدّقين» (ص 285). وها هو جواد أبو عطا الذي أمضى 15 سنة في السجن السياسي يقول لعنات التي تطالبه بولد منه: «أنا لا أريد أن أعيش أياماً شبيهة بسنيّ الخمس عشرة هناك في الجحيم. ولا أريد أن أعيشها وأنا معك أيضاً» (ص 268). ويفكر في الهجرة إلى بلد يستطيع فيه أن يجد عملاً: «حان الوقت لنتبادل الأدوار، سأنتظرك وأنا أهيئ الأيام لقدومك. سأعدّ حياتنا الجديدة، حياة نمحو بها كل الذاكرة السابقة، وحينها فقط نستطيع أن نفكـّر بمجيء طفلنا…» (ص 268). وها هي عنات تتذكـّر أيام المدرسة، وتقيؤها بعد أن ألزمتها المعلمة بالجلوس قرب طالبة مصابة بثعلبة في رأسها، وتتذكـّر أيضاً أمها وهي تحتضر: «ذلك أن الصورة التي ستبقى ملتصقة بوحشية في ذاكرتها، هي الصورة الأخيرة فحسب. يعني الصورة الشنيعة لوالدتها وهي تحتضر» (ص 124). وعندما خاضت ميّاسة تجربة المايكروبيوتيك شعرت بأن «جسدها الآن يتفتح نقياً خفيفاً ونورانياً كشجرة لوز في أول نيسان تتضوّع منها رائحة عشب رطب» (ص 291)؛ وعندها «تذكـّرت إياد (زوجها)، وشعرت بالحزن عليه لأنه لا يستطيع عيش هذه السعادة التي تمتلك كيانها برمّته» (ص 291). وترتبط الذاكرة أحياناً بعقدة الذنب، فتصبح ذاكرة جحيمية تعذب صاحبها وتنغـّص عليه حياته؛ ما يدفع الكاتبة إلى القول: «الذاكرة! ذاك الصديق الخوّان اللئيم لا يستطيع أن يحفظ لك في جعبته إلا صوراً قد تسفح عمرك بأكمله لتنساها! يلقيها في وجهك دفعة واحدة، هكذا ببساطة عند أول شجار معه» (ص 127). وتتداعى صور الموت الشنيعة وتسأل عنات نفسها: «بم كانت تفكـّر أمي لحظة موتها؟ ربما كان المشهد الأخير الذي حملته ذاكرة روحها هو وجه إحدى أولئك الممرضات. لم يذبحني شعوري بالذنب تجاهها…» (ص 128). وننتقل بعد هذا المشهد إلى مشهد آخر مريع: حسن (أبوها) يدخن سيجارته في الصالون «مكملاً متابعته مشاهد الموت في العراق على إحدى القنوات الفضائية» (ص 128). فرجته عنات أن يقفل التلفاز، «فلم تعد تستطيع تحمّل كل هذا الخراب حولها وهي تحسّه يهاجمها من كل صوب» (ص 128). ويستطيل حبل الذاكرة الحزين، فتقول عنات لأبيها : «بابا… اليوم تذكرت صباح… لا أعرف لمَ تهجم عليّ كل ذكرياتي المؤلمة في هذه الأيام» (ص 129). ثم تروي لنا عنات كيف انتحرت «صباح» أختها، لأنها كانت دائمة الشجار مع زوجة أبيها «جميلة»، وخالتها في آن. وإذا بهذه الذاكرة عنيدة تصرّ على البروز: «كانت جميلة تلحّ على ذاكرة ابنتها منذ الصباح دون أن ترضى الابتعاد» (ص 122). وعندما رأت عنات إشارب جميلة تذكرت اشارب أمها وتذكـّرت أيضاً إشارب سهى الفاروسي، التلميذة المثعلبة. وكلّ هذه الذواكر المتداخلة والمتداعية تحمل ذكريات المآسي والآلام والأحزان. وتكلـّل هذه الذواكرَ ذاكرة أخرى، عندما خرج جواد من السجن «محملاً بذاكرة وسمت كل حياته المقبلة، لتتحول الدنيا إلى سجن كبير» (ص 165).
وأحياناً يأتي التذكـّر من باب «رفع العتب» والسخرية. عندما عاد حسن من المدرسة ورأى زوجته الصغيرة جميلة في المطبخ تبكي لأنها تنزف في أسفل بطنها سألها:
ـ ألم تقل لك أمك؟
ـ عن ماذا؟
ـ هذه يسمونها الدروة الشهرية جميلة. لا تخافي ستأتيك كل شهر تقريباً حتى تصبحي فوق الأربعين. لا تخافي.
(…) كان عليه أن يعرف حين تزوج جميلة أنها لم تكن قد بلغت بعد» (ص 103). وتضيف الكاتبة: لمَ تتذكـّر الآن كل ذلك؟ لمَ؟ (ص 103). كأن الذكريات تتقافز من معقلها دون سابق إنذار.
الزمن والتاريخ
وبلعبة ماكرة من الكاتبة، يسبق التذكـّر وشائج الزمن الذي ترتبط به الأحداث، لا بل يسبق الأحداث التي تشكـّل مادة التذكـّر. مسعود خادم المزار ينبئ جميلة بسلسلة من الشرور ستعتور حياتها: تتزوج من حسن زوج أختها المتوفاة سنيّة؛ وكان عمرها ثلاثة عشر عاماً قبل بلوغها. ويقول النص: «الذي حصل بعدها لم يكن أفضل… تذكـّري» (ص 206). وتنفرط حبات المسبحة : يُستأصل رحمها بعد الولادة الأولى؛ تتشاجر دائماً مع صباح ابنة أختها سنيّة، ثم تنتحر الفتاة؛ تشمئز نفسها من زوجها الدميم لأن شفته تشبه شفة الأرنب، عندما قبّلها ذات مرّة ذهبت إلى الحمام واستفرغت؛ يهملها حسن بعد انتحار صباح وصار ينام في الصالون؛ تشعر جميلة بغواية صدرها؛ تقيم علاقة مع الجار الأعزب وتنسلّ من سريرها إلى غرفته دون أن يشعر بها أحد ولا تعود إلاّ في الفجر؛ تتحول غرفة الجار إلى مشغل خياطة. تتذكر صباح (أم جميلة) كل هذا، قبل أن تجرى لها عمليّة استئصال الثدي. قسم من هذه الذكريات سبق كلمة «تذكـّري» وقسم تلاها. كأننا هنا في استرجاعات سينمائية flash back تلوي عنق التعاقب الزمني أو المنطق الفيزيائي: العلة ومن ثم المعلول.
وتتقاطع الذاكرة مع الزمن والتاريخ. وتكنّ عنات كرهاً عميقاً للتاريخ، تقول: «أكره التاريخ… تاريخ أي كان! التاريخ قشة نتعلق بها كي لا نغرق وسط قناعتنا العميقة بأننا مرميون على هامش الحضارة. هذا هو التاريخ باعتقادي» (ص 161). لكن أباها يصرّ على أن «الذي لا يعرف تاريخه لا يستطيع أن يمشي أبعد من أنفه… تاريخنا هو جذورنا، وبدونها سنطير عند أول هبّة هواء» (ص 162). بيد أن عنات ترى أن «كتب التاريخ المدرسي عملت على حشو رؤوسنا بالتاريخ الرسمي فحسب، تاريخ المنتصر، تاريخ السلطة التي تغيّب كل ما يمكن أن يعكـّر صفو سفرها الأسطوري» (ص 162). وترى – على العكس من التاريخ – أن الرواية أكثر قدرة على حفظ الحقيقة، لأنها «تؤرخ الأحداث عبر كل الألسنة وبكل الألوان» (ص 163). وتورد مثالاً على ذلك رواية «ذاكرة النار» لادوار غاليانو (1940)، الكاتب الأورغوائي الملتزم : Memorias del fuego والتي صدرت بجزأين : Los nacimientos (الولادات، عام 1982) و Las caras y las mascaras (الوجوه والأقنعة، 1984)؛ وهي رواية تتكلم عن تاريخ الهنود الحمر في أميركا اللاتينية. والفرق بين الرواية والتاريخ هو أن الرواية قراءة لحدث تاريخي أو متخيّل تسرده أصوات متعدّدة ويعبّر كل صوت عن وجهة نظره الخاصة به، بينما التاريخ مكتوب بصوت واحد (صوت المؤرخ الذي ينقل الأحداث من وجهة نظر السلطة، بشكل عام. إذاً، ذاكرة التاريخ روائياً أرحب وأخصب من ذاكرة التاريخ البحت. ومن هنا صرّحت عنات: «ليهنأوا بتاريخهم، بختلاته وسراديبه، بهامشه ومتنه. وليتركوا الحاضر لي ولأمثالي. تنتابني أحياناً رغبة بتقبيل يد من يلقي عليّ محاضرة في التاريخ، وأن أتوسله كي يُبعد عفن تاريخه ورطوبته عن حاضري» (ص 164). وتدلّنا المقابلات التي كان يقوم بها موظفو السفارة الكندية في دمشق مع طالبي اللجوء السياسي، والتي كانت عنات تترجمها لهم، كيف أن الرواية تنقل بشكل غير متميّز هذا الجانب الحسّاس في الأعراق والطوائف الدينية، التي كانت السلطة (أو التاريخ الرسمي) تمنعه أو تتجاهله. كان بيير الكندي يدرس الشركس والشيشان والأكراد والتركمان والآشوريين والكلدان، ويهتم بالأقليات الطائفية كالإسماعيليين والعلويين والدروز. لكن مشروع بيير ثم إيقافه بقرار أمني.
صرخة الحياة
والزمن في الذاكرة مرن مرن، يطول ويقصر، تتداخل مراحله وتتباعد بحسب المرام. إنه مختلف جداً عن زمن الساعة، عن الزمن الميكانيكي الذي يكرر دون انقطاع وبشكل ببغائي : تك تاك، تك تاك… ولهذا السبب تصبح الذاكرة جبّارة ومخيفة في آن لأنها تتجاوز حدود المنطق الفيزيائي. يقول حسن لايزابيل : «في الليل، حين أبقى وحدي أشاهد تلك الأفلام ([)… تعرفين حيث ينام الرجال والنساء على الملأ. أتذكركِ … تصدّقين؟ على الرغم من السنوات الأربعين التي ابتعدتِ فيها عنّي ما زلت أذكر ملمس جسمك وتفاصيلك وكل شيء (…) . أخاف أحياناً من ذاكرتي. أذكر كل شيء فيك ومعك كأن أربعين دقيقة مرّت، وليست أربعين سنة… تصدّقين» (ص 284-285). لكن حسن الذي دهمته نوبة قلبية حادة، أصيب بفالج شلّ القسم الأيسر من جسده. وبصعوبة ردّد لابنته عنات مطلع قصيدة لأبي زريق البغدادي يقول :
«لا تعذليه فإن العذل يولعه/ قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه»
بيد أن ذاكرته خانته فلم يقوَ على قول المزيد. «نزلت دمعة وحيدة على أخاديده السمراء. لا يا عجوزي ما هكذا ينتهي العشاق»، تعلّق ابنته عنات.
وتنتهي الرواية بولادة عنات طفلها، ما يدلّ على أن الموت المحدق بأبيها لن ينتصر على الحياة المتمثلة بصرخة الطفل الجديد الذي رأى النور. وبعدها لم تعِ عنات «ما حدث فقد ذهبت في إغفاءة عميقة عميقة» (ص 197). ما أجمل هذا المشهد، وما أبرع هذا النص!
[ـ كان مولعاً بمشاهدة أفلام البورنو.
(كاتب سوري)