عداوات المثقفين بعضها إبداعي وجلها شخصي!!
أحمد الخليل
يتميز الوسط الثقافي عموما بأن لا صداقات دائمة فيه ولا عداوات مطلقة فأغلب العلاقات بين المثقفين تحكمها صيغة التحالفات الرجراجة فهي مؤقتة تشبه في بعض وجوهها العلاقات بين السياسيين والتحالفات بين الدول فلا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة..
والانتماء الفكري الواحد لا يمنع أبدا العداوة بين مثقفيه، فكم من المعارك الإعلامية نشبت فيما مضى بين مثقفي اليسار ؟ وكم من معارك الإلغاء والتكفير لحد هدر الدم جرت بين مثقفي التيارات الدينية..وللعداوة بين المثقفين خصوصيتها فهي تُغلف بالدبلوماسية أحيانا وبالموضوعية أحيانا أخرى، وبعضها يتخذ وجها سافرا يصل لحد تخوين المثقفين بعضهم لبعض أو اتهامهم بالعمالة للعدو، هذه التهمة التي توازي تهمة التكفير وإقامة الحد التي يطلقها بعض رموز التيار الديني على الآخرين.. هدفها تصفية المثقف الآخر جسديا ومعنويا بإخراجه من الصف الوطني وتركه عاريا لحجارة الغيورين التي تسعى لإعادته إلى الصراط الوطني المستقيم أو قتله جزاء لما سولت له نفسه الإمارة بالسوء من خروج على الجماعة وقيمها القطيعية الموحدة الألوان ..
وغالبا ما يكون للسلطات السياسية دورا في إذكاء نار الفتنة الثقافية بين أطياف المثقفين وتياراتهم من خلال لعبة تقريب هذا وإبعاد ذاك ودعم هذا وعزل ذاك أو منح بعضهم امتيازات نقابية أو مناصب ثقافية وفكرية ليصبح في طرف معاد لمثقفين آخرين هم برأي صاحب الامتيازات معارضين (للوطن) وليس للسلطة طبعا!!
ومن أكثر التهم رواجا بين المثقفين العرب هي تهمة التطبيع مع (إسرائيل) فأي خروج إبداعي أو جائزة أدبية مهمة دوليا لأحد الكتاب أو مؤتمر عالمي يضم كتاب يهود يحضره كتاب عرب فهو أي هذا الكاتب بالضرورة من أنصار التطبيع..(كما حصل مع أدونيس عام 1995).
بالمقابل هناك تهمة العمالة للسلطة السياسية فأي كاتب يكتب بجرأة في بلده يتهم بأن لديه ضوء أخضر من السلطة وأي صاحب منصب نقابي هو مخبر وأي رئيس قسم ثقافي أو منصب إداري في وزارة ما وخاصة وزارة الثقافة فهو عميل لأجهزة الأمن…وبهذه التهم المتبادلة نحصل تصنيفات للمثقفين نادرا ما يخرج منها مثقف ما، حيث لدينا نوعان من المثقفين: المخبرين (الوطنيين) و المعارضين (المطبعين) وربما ينتج لدينا قسم صغير محايد أو حيادي ايجابي أو سلبي!!
وما المعركة الأخيرة على صفحات جريدة تشرين وهجوم بعض الكتاب على الجوائز الأدبية إلا فصلا من فصول عداوات المثقفين ومعاركهم التي لا تتعلق بأي جانب فكري أو إبداعي بل هي شخصية دافعها الغيرة والحسد والطموحات النقابية أو الوظيفية..
يقول الكاتب زكريا تامر: (بدأت بكتابة القصة القصيرة العام 1957، ربما الآن أشتاق إلى مهنة الحدادة كثيراً وأحن إليها أكثر، والسبب أن إنسان المعمل له وجه واحد، الصديق صديق، والعدو عدو، ولكن اضطراري إلى الاختلاط بأوساط المثقفين، جعلني أكتشف أن الشخص الذي يمكن أن يُعتبَر تشي غيفارا في هذه الأوساط، له مئة وجه على الأقل. وأحار بين الوجوه وتصعب علي كيفية الاختيار، ففي مجتمع المثقفين لا صداقات ولا عداوات. من هنا أقول: إن حياة المعمل تمنح الإنسان ثقة أكثر، بينما العيش مع المثقفين يزعزع هذه الثقة بالإنسان….)
طبعا الكاتب زكريا تامر اضطر للهجرة إلى بريطانيا أواخر السبعينات من القرن الماضي بعض تعرضه للمضايقات حيث اتبعت معه سياسة التطفيش…
ويشكك الدكتور نضال صالح بجائزة البوكر العربية في مقال له في صحيفة تشرين (كانون الثاني 2010) حيث يختتم مقاله بعد استعراض لشروط الجائزة ولجان تحكيمها ويعتبر أنها (الجائزة) صرفت المثقفين عن الاهتمام بالقضايا الوطنية والعربية..(…..على الرغم من أنّ عمر الجائزة (البوكر) لمّا يتجاوز السنوات الثلاث، فإنّه من الإنصاف، والحقّ، الاعتراف بأنّها، وبسرعة لافتة للنظر، ومنذ بدء دورتها الأولى، تمكّنت من اجتذاب الأنظار والأقلام إليها، ومن تهميش الجوائز الأدبية العربية، العربية حقاً، الأخرى، ومن إثارة غبار النزعة القطرية بين المثقفين العرب، ومن توريم أوهام الكثير منهم بأنّ الإبداع الروائي لأبناء وطنه أكثر أهمية من مثيله لأبناء الأقطار العربية الأخرى. ولئن كان من واجب الثقافة، بل المثقّف على نحو أدقّ، التمّعن في الأشياء، والظواهر، والتحوّلات، لا الاكتفاء برؤيتها كما تقول بذلك السطوح الظاهرة منها، ومن ثمّ إنتاج الأسئلة، بل طرحها على كلّ شيء، فإنّه من العماء الفكريّ الفادح تجاهل ما أحدثته الجائزة من نجاح باهر، مقصود أو غير مقصود، في صرف المثقفين العرب، ولو لوقت، عن حدثين كبيرين لا يمكن إلا لجاحد بالقضايا العربية الكبرى عدّها هامشاً لا متناً، هما الجدار الفولاذي العازل بين مصر وغزّة، وقافلة شريان الحياة التي تعرّضت ما تعرّضت له من معوّقات وحواجز قبل أن تصل إلى هدفها الإنسانيّ العظيم أخيراً).
ولم تبتعد الدكتورة ناديا خوست عن تشكيك الصالح بالبوكر وبكتاب آخرين وبجائزة نجيب محفوظ حيث جاء في مقال لها نشرته أيضا تشرين في الشهر الأول من هذا العام: (….كشف رياض الريس أن المسؤولة الإدارية تحكم جائزة بوكر، وأنه انسحب كيلا يكون شاهد الزور. نشرت تلك المسؤولة الإدارية (المقصودة هي الشاعرة اللبنانية جمانة حداد)، صاحبة مجلة الجنس، مجموعة قصص لكتاب عرب وكاتب إسرائيلي، تساوي اللاذقية الأصيلة بتل أبيب التي لم تكن موجودة في بداية القرن العشرين! فثبتت مستوطنة كأنها مدينة شرعية! بعد رياض الريس، انسحبت من لجنة التحكيم الدكتورة شيرين أبو النجا: لأن الروايات لم تناقش بمعايير نقدية، بالأهداف والمعايير نفسها يقدم جائزة نجيب محفوظ رئيس الجامعة الأمريكية في القاهرة، ديفيد أرنولد، الذي ألغى المقررات الدراسية عن الحضارة العربية والإسلامية، واستقبل أساتذة إسرائيليين وتعاقد مع وزارة الدفاع الأمريكية على تقديم معلومات عن مصر.
وتستشهد خوست بما قاله أحد الفائزين بجائزة بوكر فقد وصف فوزه بأنه (انتصار على ثقافة الأبواق الرسمية ذات الأحادية في النظر إلى الأشياء والحياة، وتجديد للثقافة التسامحية والحضارية) كأنما بقي للعرب ما يتسامحون به غير جلودهم!
وتستغرب خوست في اتهامها وجود أمثال هؤلاء المثقفين في مؤسسات الدولة (لكن ما يجذب الانتباه أن الفائزين بتلك الجوائز يستلقون في حضن مؤسسات الدولة التي تعالوا عليها، ويستقوون بأنهم ذوو مواقع ومنابر تبيح لهم تأسيس تجمعات فكرية!).
ويتضمن كلام خوست الأخير تحريض واضح علة طرد هؤلاء من المؤسسات الرسمية، الأمر الذي اعتبره أحد الكتاب السوريين بمثابة بيان انتخابي لخوست من أجل وصولها إلى رئاسة اتحاد الكتاب العرب في سورية..
وللشاعر والمفكر الكبير أدونيس رأي ملفت بالمثقف وصراعاته قالها في حوار معه منذ أكثر من عشرين عاما: (…إن الأنظمة العربية القائمة لم تخرب المجتمعات فقط، وإنما العلاقات بين المثقفين . ولذا فإن واقعنا يشهد اليوم ظواهر شاذة وغريبة تتمثل أساسا في أن المثقف هو الذي يعذب المثقف الآخر، وهو الذي يشرده ويعتقله ويمنع نصه من الصدور ويحرمه من لقمة العيش.
ولذا لم يعد بإمكاننا أن نقول إن هناك سلطة سياسية من جهة ومثقفين من جهة أخرى، كما هو الأمر في الحالات العادية، وإنما هناك مثقفون يواجهون آخرين، وبينهم تدور معارك قاتلة، وصراعات مخيفة، وحروبا لا تنتهي. لقد أبطلت الأنظمة بهذه العملية دور الثقافة، وأفقدتها هويتها. ومن هنا أستطيع أن أقول بأن المثقف العربي فاقد لهويته، ولذا فإنه لا يمكن أن يلعب أي دور..)
بينما يرى الشاعر العراقي محمد مظلوم أن المثقفين يخوضون معارك في مساحة ضيقة سببها التباغض والتحاسد: (كغيرها من أوساط الجماعات والشرائح المجتمعية، ستبدو أوساط النخبة المثقفة رازحة تحت طائلة الوباء المنتشر في النفوس، دون تحديد أو تفريق، لتتجلى بأسوأ تجلياتها كما تتجلى عداوات الكار في المهن والحرف، أو عداوة سوق ومضاربات تعد في الخفاء!، لكأن المثقفين والحالة هذه، ينتظمون كلهم في حشد غير واضح المعالم ليتزاحموا في مساحة ضيقة أو يخوضوا في بركة راكدة أو مستنقع واحد! لكن البحار أوسع من أن تتزاحم فيها الأجساد والسفن والمراكب فلماذا يخوضون في الركود ولا يمخرون في العباب؟ ربما لهذا فإن حوادث البحار اقل بكثير من حوادث الطرقات السريعة الضيقة المكتظة بالمسرعين لأعمالهم ومللهم اليومي والأجواء التي تتخبط فيها النسور وقذائف الحروب في الوقت نفسه.. المثقف كائن جدلي وسجالي وحواري …، لكنه لا يساجل من اجل إلغاء الآخر، ولا يجادل من اجل دحضه ولا يحاور من اجل توريث الحوار في سلسلة لا تنتهي من دوامات اليقينية، البحث والسؤال هما الغاية من السجال أو الجدل أو الحوار بمختلف توجهاتها.
ويدعو مظلوم لهجر الشخصي والبغض في معارك المثقفين..(وإذا ما بدت (العداوات) خارج حدود الوباء إياه ولا تتأطر بما هو شخصي بل تبتعد في ما هو ثقافي لتكتسب معنى كونها ضد التسليم الأعمى للولاء، وتتجسد في الغربة والتباعد الروحي الذي يخلق عزلة فاعلة فأهلا بها، ومرحى لها!، ولكن عندما تكون نوعا من التعبير عن نزعات التباغض والتحاسد والكره، فإن مساحة البشاعة التي تتركها هذه الصفحات لا تستحق إلا الهجران وليكن هجرا بلا حنين أو ندم….)
كلنا شركاء