صفحات الحوار

نوري الجراح: الكثافة هي أساس نظرة الشاعر إلى العالم

null
بيروت – الرأي: منذ مجموعته الأولى “الصبي” الصادرة عام 1982، حجز الشاعر السوري نوري الجراح موضعاً لنفسه داخل المشهد الشعري العربي أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، مستخدماً نبرةً مستجدة ولغةً سُحب منها التفاصح والتهويم اللفظي والغناء التقليدي، لغة أقرب إلى الكلام المتداول والسرديات المهملة والتفاصيل العابرة. لكنه سرعان ما أدار ظهره لكل هذا باتجاه جملة قصيرة ونابضة وكثيفة تستثمر معجماً لغوياً وحياتياً أكثر خصوبة واتساعاً. جملة قادرة على صياغة النسخة النهائية للقصيدة وإخفاء موادها الأولية في الوقت نفسه صارت قصيدة نوري الجراح تعيش فوق طبقات غير مرئية من المسوّدات والاقتراحات سواء تلك التي استُخدمت فيها أو التي تم تنحيتها وإهمالها.
غالبا ما يجد القارئ الكثافة والاسترسال معا في شعر نوري الجراح، ورغم أن هذا لا يلخّص علاقة الشاعر باللغة عموما وبنبرته خصوصا، إلا أن أجزاء كبيرة من تقنية كتابته تقوم على الخصوبة التعبيرية المتحصّلة من مزج الكثافة والاقتصاد والمحو مع الاستطراد والوصف والسرد.
مع ذلك فإن نوري الجراح لا يكتب قصيدة قصيرة يمكنها أن تسهّل هذا المزج، إنه لا يتعمّد هذا مسبقا، والكتابة بهذه الطريقة ليست معطىً بديهيا ونهائيا بل هي معرّضة، في كل مرة، إلى اختبارات تصويرية وحسية واستعارية وإيقاعية شتى.
مع نوري الجراح، المقيم حالياً في لندن، والذي صدرت أعماله الكاملة في بيروت، ومختارات لأعماله في القاهرة، كان هذا الحوار حول تجربته:

* لنبدأ من مجموعتك الشعرية الأولى “الصبي”، هل كانت إعلاناً أو بياناً شعرياً شخصياً بالنسبة لك أم أن مفردات وطموحات هذا البيان توزعت على أكثر من كتاب لك؟
– إذا كانت قصيدة الشاعر هي كل بيانه الجمالي، فإن بياني موجود في شعري، وما قصيدتي إلا اقتراح جمالي خاص وبيان رؤيوي. لكن هذه الرؤية للذات في علاقتها بالعالم، مجسدة في قصيدة هي، باستمرار، متغيرة وبالتالي متعددة الأوجه والزوايا، هذا ما يمكن أن تقوله التجربة نفسها، لو استُنطقت. لكن هذا لا يحدث. القراءة المبدعة بالعربية شبه معطلة، ولا أجازف بالحقيقة إذا قلتُ إن الآثار الشعرية العربية الحديثة غير مقروءة. بل إنها أحياناً، غير مقروءة بتاتاً حتى ممن يباهي بمعرفته بها. القصائد الشعرية العربية رفيعة المستوى كائنات غريبة نزيلةُ عزلة مريبة في جغرافيا شعرية احتشدت وترامت، وهامت في عزلاتها وظلالها جمالات ومسوخ معاً، مؤثثة بوجودها الملتبس ما يشبه عالماً سفلياً علاقاتُ الأشياء فيه تنهض على درجات مخيفة من امحاء العلامات وضياع الفروق. وهذا حدث بفعل رواج الإعراض عن فكرة المعيار في الشعر. هوذا عنوان التباس كبير بين الشاعر والنص والعالم، يولد وهماً مبهماً بين النص وقرائه المفترضين. ولكن أليس جديراً بغيري أن يجيب عن السؤال عما إذا كنت صاحب قصيدة، ومن ثم صاحب بيان في الجمال الشعري، أم صاحب كلام يراد له أن يكون قصيدة؟. بين “الصبي” وآخر ديوانٍ لي هناك حقل من القصائد والسنوات التي تشبه الألغام. والآن أشك أن يكون أحدٌ قد وقع في هذا الحقل. ما من مُصاب بسبب قصيدة، أو بيان في قصيدة. كل شيء يبدو لي الآن صامتاً على هذا الميل من الخبرات الشعورية واللغوية وتلك العلاقات الدامية في الأشياء وبين الأشياء التي تصنع الشعر وتصنع القصيدة.
والآن هل يمكنني أن أستخف بتجربتي الشعرية وبالتصورات التي حملتها عن الشعر، منذ أن غادرت دمشق متجها إلى بيروت، لأجد نفسي بعد كل ما مضى من وقت وودعت من خبرات، على مرمى الصحراء، وبعد سنوات طويلة من لفح القارس من برد المدن الكبرى في أوروبا، حيث واجهتُ الدروس الأقسى في حياتي، هل أستطيع ان أكون ذاك الشاعر الذي يمدد كائناته الغريبة على سرير قارئ متخيّل، وبيدي التي كتبت أفتح الجرح ثانية لأقرأه؟
في العميق من تجربة الشاعر، في موقفه من العالم، في رؤيته نحو الأشياء بينما هي تبدل مظهرها وتحتفظ بماهياتها، في علاقته المعقدة باللغة هناك فكر وتفكير وتفكر، وهناك التأمل في الكينونة والمصير الإنساني، وهناك ذكاء مشع من جراء فرح الشاعر بالوجود، وفي شعر الشاعر أدلة على ذلك. لكن ليس هناك بيان فكري، دليل يضلل قارئاً، بزعم أنه سند يدعم الباحث في الجمال، يعوزني المصباح الذي يعوز قارئاً لقصيدتي، وكذلك العينان اللتان شعَّتا بمكر القارئ. لم أنجح في أن أكون هذا الشخص.
بهذا المعنى قصائدي هي بيانها. وكل محاولة سابقة لي ورطت بها نفسي لبناء بيان في الشعر داخل القصيدة أو خارجها، في هوامش حياتي الشعرية، كانت محاولة لاختلاق ما، تركت تلقائيتي العالية في كتابة القصيدة تخالفه، وتفارقه. لا أقصد هنا أن أكون بريئاً (بلا شاغل فكري) أو حتى أن أوحي بشيء من هذا، فلطالما كان الشعر لي لعباً، ودربة، وحذقاً، إنما على نحو يتيح للرهافة أن تفعل فعلها، وللجارح أن يكون له حيز، وللكينونة الصغرى أن تنفتح على الكينونة الأم، وللشراسة غالباً أن تكون الروح الحقيقية للرقة في الشعر.
أنظر إلى التلقائية في الشعر بصفتها التدفق الجارف في نهر أسرته ضفتاه. والشعر عندي طلاقة الروح وانضباط اللغة. ولكن حتى هذه الاستعارة تبدو لي ناقصة، لأن المسألة في الشعر على درجات من التعقيد الإلغاز. لم تثبت لي أي علامة في مغامرة القبض على هذه التلقائية لأسرها في صورة بيان عن الشعر. ذلك أصلاً ضرب من المستحيل بالنسبة إلى شاعر. هناك في سطور ومقاطع من شعري هنا وهناك، ومن حين إلى آخر شذرات حول الجمال الشعري. أما المحاولات المباشرة كما هو الحال في قصيدة “لماذا لا يموت الصبي الذي يخرج من الهواء….” في ديوان “الصبي” وفي البيان النثري الذي كتبته افتتاحية لمجلة “القصيدة” في عددها اليتيم عام 1999 تحت عنوان “الشعر الجيد جديد دائماً”. فهي ضروب من المقاربات المباشرة لإصابة الجمال الشعري والعودة به مأسوراً في فكرة.
كتبت كثيراً خلال سنوات التسعينات عن شعر شعراء أحببتُ، ثم اكتشفت أن كتاباتي عنهم كانت كتابة عني، أعني أنها كانت تلمسات لفحص مفهومي للشعر أكثر منها مغامرة حقيقية في قراءة نصوصهم. كنت أنطق عن هوى خفيٍّ. اكتشاف هذه المسألة جعلني أتوقف عن هذا الضرب من الكتابة. كنتُ فاشلاً منذ البداية. وعرفت أنني سأظل هذا الفاشل لعلة في أصل المحاولة.
لدي تجربة واحدة في الكتابة عن الشعر والشاعر أجدها جديرة بالقراءة، كانت محاضرة حول تجربتي الشعرية ألقيتها في عمان سنة 1999 تحت عنوان “الهبة الشقية أفكار حول الشاعر والكلمات”.
والآن يخيل إليَّ أن أكثر المحاولات نفاذاً إلى قلق الجمال في الشعر هي تلك التي لم تصف، وإنما فعلت، وأعني بها إشارات وومضات شعت من سطور حرة في قصائدي. وهو ما يجيب مباشرة عن سؤالك.
أما مجموعتي الأولى فهي عتبة النوايا البريئة التي دخلت منها إلى الجحيم.
* عشت في بيروت مبكراً، هل لعبت دوراً أو مارست تأثيراً ما خاصة أن العديد من الشعراء العرب اعترفوا بأهمية مرورهم بهذه المدينة وبعضهم تحدث عن تأثير مفصلي على تجاربهم.
– غادرت بيروت بعد حصارها ومعي شعور من لا يريد أن يرى هذه المدينة ثانية. شيء كهذا يحمله المحبون نحو المحبوبين بفعل تجاربهم الشعورية القاسية من جراء علاقة مؤلمة. لي مع بيروت مشاعر مشابهة. أشياء كثيرة أولى لي كانت في بيروت: المغامرات العاطفية الأولى، الكتاب الأول، الحب الأول، صداقات غالية بنيت هناك (انهدمت لاحقاً في أماكن أخرى)، الحرب عن قرب، الموت عن قرب، فقدان أحباء وأرواح جميلة، اختبار الأفكار والمواقف، الانخراط في الجدل والصراع، فحص اللغة والعلاقة بها. والنظر بعيداً في غموض العالم.
حين زرتها سنة 90 شعرت كما لو أن الهواء كان مخدوشاً. واليوم بعد 18 سنة من تلك الزيارة بتُّ أقل معرفة بها. كمن لا يريد أن يؤلف رواية أو يروي قصة أو يسرد متخيلاً. بيروت حفرت في مشاعري وفي الذاكرة مكاناً عاطفياً. هل يمكن لمنطق أن يحاكم العاطفة، أن يخضعها لمنطق؟
لكن بيروت مدينة متعددة الأوجه، فهي المدينة التي صمدت ثلاثة أشهر في وجه أعتى حصار ضربته الآلة العسكرية الإسرائيلية على مدينة عربية. وإلى اليوم ما تزال أصوات الجنود الإسرائيليين المطالبين أهل المدينة بالكف عن إطلاق النار عليهم، لأنهم سينسحبون منها، تضج في رأسي. وهي المدينة التي صنعت ملامح من الوجه الأبهى للثقافة العربية الحديثة، مختبر حي لكل جديد ومغامر في الأدب والفن والفكر. ثم هي نفسها المدينة التي بنت من حول فتنتها، مع نهاية الألفية الثانية، أسواراً منيعة تستعصي على الفقراء. ولم يسلم منها حتى البحر.
إنها لي مدينة ناجي العلي، وتوفيق يوسف عواد، وأنسي الحاج، وعمر أبو ريشة، ومصطفى الحلاج، وميشيل سليمان، وسركيس عزيزة، ومحمد عيتاني، وعبد الله سعادة، وسامي الجندي، وكمال خير بك، وآدم حاتم، وجان جينيه، وإحسان عباس، وخالد علوان (واسمه الحركي ميشيل)، وخليل حاوي، ومهدي عامل، وابن اخته كمال حمدان، والشيخ الجليل حسين مروة، والسيدة نجاة زوجة جورج ناصيف بكتابها الأثير الأمير الصغير، ورضيعة السيدة كوكب زوجة السيد نصري خوري بنافذة منزلها التي استضافت مرّة في حضوري قذيفة فوسفورية، وأمها اللائذة بحصار بيروت هرباً من ميليشيات جيش لبنان الجنوبي في مرجعيون، وسايد كعدو بكاميرته الجريئة صباح وصول السبطانة الإسرائيلية الغليظة إلى نزلة بيت أخته وراء مبنى جريدة السفير، وبيروت لي هي الفتيات اللطيفات اللواتي جئن مع الخطر، فجمّلن ساعات الموت ودفّقن في عروقنا الشابة دم الشعر.
وهي لي كورنيش المزرعة والروشة ذات المقاهي المرتجلة على العربات الفقيرة وقد ضمختها رائحة البارود في الأصياف. مكتبة أنطوان في شارع الحمراء الذي لم يشبه مرة صورته المرسومة في صحافة حبيب مجاعص، والمجلات الجنسية ذات البذاءة الفارهة. وبيروت، أيضاً، هي اليوم الأول في اكتشاف جثث بالمئات في أزقة مخيمي صبرا وشاتيلا وفي أنقاض البيوت لمدنيين أعدموا رمياً بالرصاص. تلك هي بيروت التي عرفت مدينة لتولع بها وتسكنك ما حييت. ولكنها أيضاً تشبه فأساً مكسورة في جسد. هل أستطيع أن أغادر هذه الصورة المتمرّدة لمدينة خبرتُ إلى مدينة لها صورة أخرى ولها الاسم نفسه؟ هل أستطيع أن أحلم لأتذكر مدينة أخرى غير هذه المدينة الحالمة الخارجة على قانون الانصياع للنظام العربي البليد؟
*هل ما زلت تعتبر نفسك شاعراً سورياً أم أن نضج تجربتك في الخارج (بيروت ثم قبرص ثم لندن وأبو ظبي… ولندن مجدداً) وامتلاكها لمعظم صفاتها هناك جعل لها خصوصية غير منتمية صراحة إلى مكانها الأول. هل هذا الانتماء مهم في رأيك.
– ولدتُ في دمشق، وفي دمشق، رغم يفاعتي التي ارتبطت عندي بجمالات هذه المدينة وفرحي الخاص بأسرارها، شعرت بي يتيماً. ومرَّات شعرت بيتمي جزءاً من يتمها. واليوم بعد سنوات من الغربة عن الشام أشعر بقوة أن دمشق هي قصيدتي الضائعة، وأن مدينتي الباقية لي هي قصيدتي. أشكّلها كل مرة في صورة، ثم أكتشف أن ليس هذا ما رأيتُ لأصوِّرَ وليس هذا ما عنيتُ. قصيدتي صور يتيمة هنا وصور يتيمة هناك، وقصيدتي هي كل ما أريد من حياتي. أجد في اليتم انتماء عميقاً إلى الإنسان، وليس يتمي إلا جزءاً من يتم إنسان العالم. الإنسان يتيم اليوم أكثر من أي وقت مضى. حتى الأحلام الصغيرة للبشر باتت جزءاً من اليتم، ما دام تحققها يعزُّ، وتصبح هي وأهلها ضرباً من المستحيل.
المنظرون في السياسة والاجتماع يتحدثون عن الهويات المتشكلة والهويات قيد التشكل، هناك من يرى في الهوية انتماء إلى الجمود، إلى ثبات لا تسنده حقيقة، فيما العالم متغيّر. هذه مسألة معقدة، وإشكالية، ومن حولها جدل لا ينقطع. ما يهم الشاعر، وهو ابن الكوكب كله والكينونة كلها، هو انحيازه النهائي إلى الحرية. وهذا الانحياز يجعله في المعارك الكبرى أول المتمرّدين على الهويات. كل من ينتهك حرية الانسان وكرامته ويحبط أحلامه هو عدو للشاعر لأنه عدو للإنسان، بصرف النظر عن هويته. الجوهر الإنساني هو الهوية التي ينتمي إليها الشاعر.
والسؤال الآن: هل يمكن للجلاد والضحية أن يقتسما الهوية نفسها؟ ولد جان جينيه فرنسيا، ومات يتيماً. انتمى إلى المهمشين والمسحوقين في العالم. الكتاب الأكثر إنسانية عن فلسطين الجريحة كتبه جان جينيه، فبات في نظري الكتاب الأكثر فلسطينية. وكاتبه فلسطيني بامتياز. الياس خوري كتب في “باب الشمس” رواية النكبة، أين ولد الياس خوري؟ بهذا المعنى أفهم الانتماء، بعيداً عن الفكرة الغبية للولادة في وطن، أو الانتماء إلى وطن.
قصيدتي كتبت بلغة عربية، ولا لبس في انتمائها إلى التقاليد الشعرية العربية الحديثة. لكن هذه القصيدة من الصعب القطع بمصيرها قرائياً، ما دامت صدرت عن تجربة في بيئة ومناخ وعوالم غير عربية. صرفت حوالى عقدين من حياتي الشعرية في أمكنة وأزمنة غير عربية، وكانت هذه السنوات الأكثر حسماً في تجربتي الإنسانية والجمالية. فبأي لغة سيقرأ القارئ العربي قصيدتي، وهل يمكن لقراءة أن تتحقق بعيداً عن الخبرات الخفية التي تسببت بها، وهي خبرات قتلت ودفنت في القصيدة، وستبقى مجهولة، وعندها يكمن بعض من سرّ الشعر؟ هذه مسألة جارحة، أعني عصية حتى على صاحبها. فكيف يكون أمر الشعر مع قراء لم يؤسسوا تقاليد حرة وبالتالي حقيقية في استقراء النص الشعري الحديث أياً تكن التجربة التي تقف وراءه.
هل يمكن بالمعنى المعرفي للكلمة أن تكون الشمس في مكان بارد هي نفسها الشمس في مكان حار؟ وهل يمكن للمطر مثلاً في ديواني “طريق دمشق” الذي كتبت قصائده في لندن ما بين 19971990 أن يكون المطر نفسه في ديواني “الحديقة الفارسية” المكتوبة بعض قصائده في قبرص الدافئة وبعضها في الخليج الملتهب ما بين 1999و2001؟
وعليه، إذن، من أنا بعيداً عن قارئي؟
لا علم لي، مثلاً، بقارئ لشعري في سوريا التي ولدت في قطعة من ترابها. أعترف أنني أجهل هذا القارئ المجهول. كما أنني لا أعرف شيئاً عن مصير قصيدتي في فضاء عربي شاسع قلما تمكن من الإفصاح عن خياراته، والتصريح بها. ولو سألتني من هو قارئ قصيدتك؟ لما وجدت سوى جواب واحد: لا أعرف.
أكثر من هذا ليس لدي أي تقدير مؤكد حول الظاهرة القرائية في العالم العربي، وخصوصاً ظاهرة قراءة الشعر، لما لا تتمكن الحركات الثقافية من توزيع أي استبيان على الناس من دون العودة إلى مخفر الشرطة ووزارة الداخلية. وأنا أغبط الشعراء الذين يعرفون من هم قراؤهم؟
وبكلمة أخيرة، أرى أن اليتم، على ما فيه من ألم، حرية، وربما يكون خلاصاً للشاعر إن من عنف الهويات أو من ميوعتها.
* في استطراد لهذا، سمّيت أحد دواوينك بـ “طريق دمشق” وفيه عدة قصائد مشتبكة مع نصوص خير الدين الأسدي أحد السوريين المبكرين إلى قصيدة النثر، هل هو رد شعري على إحساس ما بالفقدان والنفي؟
– أهديت خير الدين الأسدي، وهو متصوف وناثر كتب عملاً أثارني هو “أغاني القبة”، قصائد من كتابي “الحديقة الفارسية” تحمل عنوان “أنشودات”، وقد فعلت هذا لأن القصيدة مدينة بصورة أكيدة لتجربته في “أغاني القبة”. وهي تجربة تنتمي إلى عوالم الشطح الصوفي. “أنشودات” في أساسها مرثيات كتبتها تحت وطأة مشاعر عنيفة سببها غياب شقيقي الأصغر في حادث مؤلم. لكن الفن الشعري الذي فيها يدين بشكل مؤثر لعوالم سعدي الشيرازي وجلال الدين الرومي وحافظ، وكذلك لخير الدين الأسدي الذي دخلت الأنشودات في ما يشبه المعارضة، بالمعنى الحديث للكلمة مع نصوصه إلى الدرجة التي جعلتني أشعر، وبقوة أن له في الـ “أنشودات” ما لي فيها، وربما أكثر.
أما طريق دمشق فلا شأن لقصائده بهذا. هو كتاب كتبت فيه نزاع الشعور والوعي والذاكرة التي تشكلت في بيئة مع حواس العيش في بيئة اخرى. حقل تناقضات قاتلة، وشوق فادح إلى ما لم يعد، واستشراف لغوامض النفس في مواجهة عالم مسرع نحو المجهول. إنه كتابٌ في الفقد.
* أنت، بشهادة الكثيرين، أكثر الشعراء حديثاً عن الشعر وعيشاً له واهتماماً به. إلى أي حد يمكن للشعر أن يكون سلوكاً في الحياة والكتابة معاً.
– لست أدري إن كان هذا التوصيف ينطبق عليَّ حقاً. لكنني طالما شعرت بجمال أن يكون المرء نفسه، بصرف النظر عن معنى هذا أو قيمته بالنسبة إلى الآخرين.
ولا أخفيك أن مثل هذا الانطباع يمكن أن يفرحني بمقدار ما يمكن أن يشقيني أن أكون هذا الشخص في عالم تتهاوى فيه القيم الجميلة والخلاقة وتعود لتلتبس فيه صورة الشاعر مع صورة التائه، أو الخاسر، وربما الأحمق أيضاً. بمقاييس الخسارة والربح ينتصر في العالم كل شيء إلا الشعر، ويسعد كل من كان بليداً. ولكن عندما يغترب الناس عن ذواتهم، وتنحط الحواس، ويصبح كل شيء أغلى من الإنسان، عندما تتحول القوة إلى منطق غالب، والجريمة إلى قانون، والقتلة إلى فلاسفة ومناطقة، وخبز البشر إلى سمٍّ يومي يحمله الآباء إلى أطفالهم، في هاوية كهذه، لن يبقى للإنسانية إلا الشاعر. فهو من سيذكرها بأن لها حواسَّ، وأن هناك فوق الرؤوس سماء شاسعة. بروحه المغامرة العنيفة سيبعث الشاعر الأمل في أن يكون هناك في قلب الظلام ضوءاً هو المستقبل.
وتعليقاً على إجابتي أتساءل الآن: ماذا يفعل الشاعر بصنيعه الشعري، وبتصوره عن الشعر، مهما كان عميقاً، بإزاء سطح يخاف أعماقه؟
وبإزاء فجوة عميقة بين الإبداع الذي يكشف عن مواقف وتطلعات ورؤى ونزوع نحو المستقبل عبر حواس جديدة، وبين بيئة تستقبله عن مسافة هي جليد كامل. ألا يبدو أمر الشاعر مع عالمه فكاهياً بعض الشيء؟
أسمع كلاماً يقول إنني شاعر معروف، وأستغربه. ما هذه المعرفة بي التي تزيدني مجهولية وعزلة واغتراباً أنا ونصي. إذا كانت القراءة هي المعيار فأنا اسم معروف وشاعر مجهول.
* تتصف كتابتك بالاقتصاد والاسترسال معاً، هل هناك رغبة في إنجاز قصيدة متوسطة الطول بتقنيات وروح قصيدة السطرين، أعني أن تمحو وتستطرد في آن واحد.
– لو صح انطباعك، ربما كان السبب في ذلك أن النص الشعري عندي يطمح أن يكون مساوياً، أو مكافئاً للتجربة التي تسببت به. من هنا، في نظري، تطلع الكثافة في الشعر.
فهي ليست مجرد مقصد يريده الشاعر، إنها في الأساس من التكوين، في البنية من تجربة الشاعر في علاقته بالكلمات، وعلاقة كلماته بالعالم.
ليست لدي مقاييس مسبقة، أو حتى توقعات لطول القصيدة أو قصرها. هذا مرتبط بالحالة، ومرتبط بالخبرات الشعورية، وبلحظة الكتابة. وبالرغم من العمل المضني على النص، مراراً، بعد كتابته الاولى، فليس عندي سبب لأحصي كلمات القصيدة عدداً. قد يملأ سطر واحد عيني فتكتفي به نفسي بصفته قصيدة، وقد تتعدد السطور وتترى في صفحات. والمعيار في كل مرة تكون له علة مختلفة وسبب جديد موجب. فما من توائم في القصائد، لأن ما من توائم في الخبرات. لكن المسألة كلها، في أول الأمر، هي في بنية القصيدة، في ما يحكم العلاقة بين الكلمات، وبين الأجزاء التي تشكلها، وما يؤالف بينها، وغالباً ما يولد النص مما يتناقض ويصطرع ويتداخل من العلاقات بين اللغة وعالمها، ليقيم ذلك الإنسجام الجمالي الخاص في قصيدة.
الكثافة في أساس نظرة الشاعر إلى العالم، وفي أساس علاقة الشاعر باللغة، وفي أساس المفهوم نحو الشعر. إنها شيء يقع في قلب الماهية.
* من خلال قراءتي وخاصة دواوينك الأخيرة يتراءى لي أن هناك حياة سرية لعبارتك الشعرية، أن هناك صوراً واستعارات لا تترك وراءها أثراً بحيث يصعب على القارئ، من دون أن يقلقه ذلك، أن يدرك المواد الأولية لهذه العبارة. تقول مثلاً: “أصف الغابة / وأعود بالنمر من عضلته الأقوى” وكذلك: “الجناح يفلت خفقته / والسفح يشرب صرخة الطائر”، أو “دمي يرجّ الليل / ونجاتك طائر”…
أعرف أن هذا ليس الاستراتيجية الوحيدة لكتابتك عموماً ولكن ما الذي يجعلها بهذه الحساسية السرية؟
– ما من قصيدة تستحق اسمها إلا ووراءها خبرة؛ حكاية، حادث، واقعة مؤثرة، ذكرى تستحوذ على أعصاب الشاعر وخلاياه. وقد تكون هذه الخبرة مرات مصيرية بالنسبة إلى الشاعر. هنا يكمن وجه من القصة غائب، وهنا يوجد مفتاح السر. بعد ذلك تبدأ قصة أخرى؛ العلاقة مع اللغة، ثم الثقافة، وقبل هذه وتلك هناك شيء أهملنا ذكره نحن العرب إلى درجة نسيانه تماماً، بعدما كنا مولعين به طوال تاريخنا، وأعني به الموهبة. هناك في العالم موهوبون وهناك أقل موهبة وهناك منا من لم يوهب العلة في أن يكون شاعراً. “النقد العربي الحديث” مع تحفظي الشديد على هذه المفردة من باب الشك كثيراً في أن يكون هناك نقد عربي حديث، تورَّط في نفي فكرة الموهبة لصالح فكرة الدربة والثقافة، فتورط معه ممارسون كثيرون أعلنوا بثقة كبيرة أن الموهبة خرافة، وأن لا ضرورة للشاعر أن يملك موهبة. يكفيه أن يجتهد. وسيكون الشاعر الذي يريد!
من هو الشاعر لو لم يكن ذلك المخلوق الذي امتص العالم بحواس هائلة القدرة، وتمكن من الاتصال بالأصغر والأعظم من حضورات الوجود، ليصل بكل هذا عبر الحواس، إلى إصابة منطقة قصوى من لقاء الوعي باللاوعي، لينفذ إلى ضوء القصيدة.
بعد هذا وقبله وأثناءه، هناك خبرة العلاقة مع اللغة، هناك حياة الكلمات وصراع الشاعر مع المفردات، هناك المكابدات الهائلة للإتيان بالكلمة في تكوين، هناك نحت للمفردات لتصبح لها حياة جديدة، لتكون المفردات الحواسّ وليس ما يترجم الحواس. هناك الرؤى، هناك الموقف من اللغة عبر الموقف من العالم. وهناك القلق والإيمان، والشك. والموضوعية في كل شيء. فالشعر في النهاية، على دمويته، إدراك وحدث موضوعيان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى