براءة اختراع
حدثت هذه القصة في الشهر الماضي أو ربما في العام 1986 لم أعد أذكر بالضبط، عندما كانت البلاد ترفل بالمخترعين والعباقرة، كان ذلك اليوم سيكون يوماً روتينياً جداً لموظف تسجيل براءات الاختراع في “وزارة المخترعين المحليين”، كان قد سجل في ذلك اليوم تسعة عشر اختراعاً مختلفاً. أذكر أن إحدى الاختراعات كانت عبارة عن “تواليت إفرنجي أوتوماتيكي” يقوم أوتوماتيكياً بغسل وتنظيف الـ؟؟؟ بعد الانتهاء من عملية الـ؟؟؟؟.
اختراع آخر كان عبارة عن جهاز يوضع على الفم كلما حاول صاحبه أن يتحدث بصوتٍ عال يقوم بخفض صوته وأحياناً يكتمه تبعاً لنوع الكلمات التي ستصدر منه، وقد لاقى هذا الجهاز استحساناً كبيراً وقام الموظف على الفور بتسجيله وتحويله إلى مصانع دائرة المخابرات والشرطة والأمن القومي ليتم صنع واحد مثله لكل مواطن.. مجاناً.. وتم تكريم صاحبه في ذلك اليوم بمبلغ كبير..
هكذا كانت تجري الأمور في “وزارة المخترعين المحليين” بشكلٍ يومي، إلى أن جاء دور أحدهم لتسجيل براءة اختراعه في ذلك اليوم، كان هذا الشخص هو “أبو فتحي القاووشجي”، تقدم أبو فتحي القاووشجي بأنفه الكبير المعقوف وسترته الرمادية الطويلة ثم وضع أمام الموظف جميع الأوراق والتواقيع المطلوبة لتسجيل اختراعه وحان وقت معاينة اختراعه ووضعه قيد التجربة بعد أن يقوم هذا الموظف بوضع حافره (ختمه) عليه..
نظر إليه الموظف وقد أخفض نظارته السميكة قليلاً وسأل أبو فتحي: أعطني فكرة مختصرة عن اختراعك؟!!
أجاب أبو فتحي القاووشجي بكل ثقة: اختراعي فريد جداً من نوعه، هذا الجهاز يتعرّف على الجواسيس وأعداء الوطن والأمة بمجرد أن تقوم بتوجيهه إلى أي شخص يقوم بتحليل شخصية ذلك الشخص ضمن معادلات حسابية دقيقة ومعقدة جداً ثم يقوم بإطلاق صفير مرتفع إن ثبت أنه عدوٌ للوطن.
ضحك موظف تسجيل براءات الاختراع حتى فاحت رائحة نتنة في المكان، ثم قال باستهزاء: هل تعتقد بأنه يمكن اختراع هكذا شيء؟!!
رد أبو فتحي القاووشجي محتداً: نعم، اختراعي هذا مضمون ومجرب مئة بالمئة..
وافق الموظف على مضض بعد أن رأى إصرار أبو فتحي وأرسله إلى غرفة التجربة؛ في تلك الغرفة قام الموظف بتوجيه الجهاز إلى أبو فتحي القاووشجي نفسه لكن الجهاز لم يطلق أي صفير. أرسل الموظف إلى أمانة السجن المجاورة لـ”يستعير” سجيناً للتجربة.. وبالفعل أحضروا سجيناً مُداناً بالجاسوسية والتواطؤ مع الأعداء ضد الوطن ووجهوا الجهاز إليه فأطلق صفيراً مرتفعاً.
هنا بهتُ الموظف وطلب من رئيس القسم أن يحضر فوراً ليرى هذا الاختراع العجيب، وحضر رئيس القسم ورؤساء بقية الأقسام حتى أن رئيس المديرية كلها حضر ليُشاهد الاختراع، وتمّت تجربة الاختراع على عدّة مساجين مُدانين ومُواطنين من الشارع وأثبت الاختراع بالفعل بأنه يعمل مئة بالمئة..
في اليوم التالي تم عرض الاختراع على “هيئة العلماء والمفكرين” في البلاد وتمّ استدعاء الكثير من العلماء والمخترعين من أنحاء البلاد أيضاً وقاموا بفحص الجهاز وأكدوا على أن هذا الاختراع يعمل بكلّ كفاءة وهو أفضل اختراع تم اختراعه من قبل أي شخص في العالم كله.. وذاع صيت ذلك الجهاز في جميع أنحاء البلاد شرقاً وغرباً جنوباً وشمالاً كالنار في الهشيم.. وتم وضع حراسة مشددة عليه حتى لا يتمّ سرقته بعد أن ذاعت شهرته.
أما أبو فتحي القاووشجي فقد شُوهد على التلفاز في مقابلات كثيرة وهو يتحدّث عن اختراعه، أذكر أنهم عرضوه في برنامج “صباح الخير” وبرنامج “مساء الليل” وبرنامج “ما يطلبه الجمهور” و”أرضنا الخضراء”، وحتى في “برامج الأطفال” تم عرضه.. ولا أنسى أيضاً برنامج “الشرطة في خدمة الشعب” وقد تم إعفاءه من قول “يا سيدي” للمذيع في ذلك الوقت وكانت تلك سابقة لا عهد لنا بها.. ونشرت صوره على صدر الصحف الرسمية وشبه الرسمية وغلاف المجلات العلمية ومجلات التسالي وحتى المجلات الخلاعية.. حتى قررت الحكومة أن تعرض الجهاز في جلسة “مجلس الشعب” القادمة ليتم مكافأة أبو فتحي القاووشجي رسمياً.. وقد أعلن رئيس البلاد بأنه سيحضر هذا الاجتماع تبعه في الإعلان وزراء كثر أبدوا رغبتهم في الحضور تزلفاً وتملقاً ونفاقاً للرئيس.. وأعلنت الحكومة بأن هذه المناسبة يجب أن يتم نقلها على التلفزيون المحلي والقنوات الفضائية حتى يشاهد العالم كله قدرة شعبنا على الاختراع والتطوير.
في ذلك اليوم كان مبنى مجلس الشعب محتشداً بأركان الحكومة كلها، من أصغر حاجب في بناء “وزارة المغتربين الهاربين” مروراً برئيس الوزراء انتهاءً برئيس الدولة نفسه.. أما الشوارع المحيطة فكانت مكتظّة بأمواج من البشر لأميال وأميال، لا تستطيع حتى أن ترى نهاية الطوفان البشري المحيط بالشوارع المؤدية إلى مجلس الشعب، وكانت أجهزة الإعلام المحلية والعالمية والشاشات الضخمة قد ملأت الأماكن كلها.. الخلاصة كان ذلك اليوم مثل يوم الحشر تماماً.
بعد أن استقرّ الجميع في القاعة الضخمة لـ”مجلس الشعب” واستوى السيد الرئيس على كرسيه ، حضر أبو فتحي القاووشجي وتم وضع الاختراع أمامه بمساعدة الموظف المسؤول عن براءات الاختراع السابق، وبالطبع كان هناك طابور من المساجين المدانين بالجرم المشهود ليتم تجربة الاختراع عليهم، وبالفعل كان الجهاز يطلق صفيراً مختلفاً في كل مرة يتم وضع أحد المدانين أمامه حيث كان حدة الصفير ترتفع وتنخفض حسب المجرم المُدان ودرجة عِداءه للوطن.. وتمّ استدعاء بضعة مواطنين من الشارع وتم تجربة الجهاز عليهم ولم يُسمع أي صفير.
كان كلّ شيء سيسير بشكل طبيعي جداً وكان المستقبل سيكون مشرقاً جداً وكنا نأمل أن تشتري دول العالم هذا الاختراع ليتم تحقيق الرخاء الاقتصادي الذي كان رئيس الدولة يعدنا به منذ أربعة عشر سنة حتى الآن.. إلا أن الرياح لا تجري كما تشتهي السفن، إذ اقترح أحد الصحفيين الأجانب أن يقوم أبو فتحي القاووشجي بتوجيه الجهاز إلى الموظف المسؤول بقسم تسجيل براءات الاختراعات والذي كان يساعده في عمله، فقام الموظف فخوراً بالوقوف أمام الجهاز وقام أبو فتحي بتوجيه الجهاز إليه إلا أن الجهاز أطلق صفيراً حاداً.. مما جعل الجميع في القاعة يهمهم بأن هذا الموظف لابدّ أنه يكنّ العداء للدولة والحكومة.
وما هي إلا لحظات حتى جاء ثمانية رجال مخابرات من أماكن مختلفة من القاعة وألقوا القبض على الموظف وجرجروه ذليلاً أمام أنظار العالم كله من حاضرين في القاعة وأولئك الذين في الشارع عبر الشاشات وأولئك الذين يجلسون في بيوتهم وأيضاً عبر العالم كله..
هنا ابتسم رئيس الوزراء قائلاً: “ما عنا حدا على راسه ريشة” أي بما معناه أننا لا نستثني أحداً من القانون مهما كان فالقانون فوق كل شيء، وصفق الجميع بحرارة وابتسم رئيس الدولة وغمز رئيس الوزراء بفرح..
إلا أن ذلك الصحفي الأجنبي قليل الناموس لم يكفّ عن التدخل وطلب أن يتم توجيه الجهاز إلى بعض أعضاء مجلس الشعب، وبالفعل تم توجيه الجهاز إلى بعض أعضاء مجلس الشعب الواحد تلو الآخر وكان كلّما تم توجيهه إلى أحدهم يطلق صفيراً حاداً، ثم يخرج أربعة رجال من مكان ما ويقومون باقتياد ذلك الشخص إلى مكان مجهول..!!
بدأ عدد أعضاء مجلس الشعب يقلّ شيئاً فشيئاً وبدا الارتباك واضحاً على رئاسة مجلس الوزراء ورغم أن الجو شتائي بارد إلا أن قطرات العرق كانت تتساقط من رئيس الوزراء ورئيس البلاد معاً بتناغم غريب.. وكل ذلك كان يُنقل على الهواء مباشرةً للعالم بأسره..
أما أبو فتحي القاووشجي كان مرتبكاً جداً لا يعرف ماذا يفعل، وبين الفترة والأخرى كان يوجه الجهاز إلى نفسه ليتأكد بأنه لا عطل في الجهاز.. ثم توقفت الجلسة لعشرين دقيقة بداعي الاستراحة.
بعد الاستراحة عاد الجميع الى مقاعدهم أو ما تبقى منهم، ومرة أخرى تدخل ذلك الصحفي الأجنبي لعن الله روحه وطلب أن يتم توجيه الجهاز إلى رئيس الوزراء ورئيس البلاد معاً، هنا ضجت قاعة المجلس بالهمهمة والتمتمة وبدأ الناس بالصراخ في الشوارع وانشدّ المشاهدين في أنحاء العالم نحو شاشة التلفاز.. إلا أن الرئيس ابتسم بكل ثقة وطلب من رئيس وزراءه أن يقف أمام الجهاز.
وقف رئيس الوزراء أمام الجهاز مرتعداً وأغمض أبو فتحي عينيه وضغط الزر وأطلق الجهاز صفيراً قوياً لدرجة بأن جميع من في القاعة اضطروا لإغلاق آذانهم من شدة الصوت. بهت رئيس الوزراء وامتقع لونه بشدّة حتى أن قطرات العرق قد جفت في وجهه، وازرقّت شفتاه وجحظت عيناه.. وهنا أمر الرئيس بإلقاء القبض عليه، وتم إلقاء القبض عليه وأخذه إلى المكان المجهول نفسه.
بعد ذلك طلب السيد الرئيس بأن تنتهي الجلسة بشكلٍ غير متوقع، كان وجه السيد الرئيس شاحباً وممتقعاً وشفته السفلى متدلية بشكل غريب، لكن كانت الخطوة الأخيرة في هذه المناسبة هي أن يقوم السيد الرئيس بنفسه بوضع يده على الجهاز ليتم إعلانه جهازاً وطنياً بشكل رسمي وكان واضحاً بأنه لا مهرب له من هذه الخطوة أمام كل هذا الحضور العالمي، لكن بمجرد أن اقترب من الجهاز حتى أطلق الجهاز صفيراً مروّعاً لم يُسمع له مثيل.. قيل بأن بعض الحاضرين قد ثقبت طبلة أذنه في ذلك اليوم، وبأن بعض الكاميرات قد تحطمت عدساتها.. وقف الجميع كحرف الألف في القاعة مشدوهين غير مصدقين وذهل الجميع في البلاد وهاجت وماجت الجماهير في الخارج.. وكنا قاب قوسين من انقلاب ما أو أدنى.. أو هكذا ظننتُ وقتها!!
تم قطع الإرسال التلفزيوني فوراً بعد ذلك، وتم طرد الصحفيين الأجانب على الفور، وانتشرت قوات الأمن في جميع الأماكن والدهاليز والزراريب والأزقة وحتى في مجاري المياه وقد تنكروا بأشكال مختلفة، حتى أنني سمعتُ بأن الكلاب التي كانت تسير في قريتنا في ساعة متأخرة من الليل ما هم إلا رجال مخابرات لكنهم متنكرون على هيئة كلب..!!
المهم.. بعد ذلك اليوم الذي كان يشبه يوم الحشر، ألقت الحكومة القبض على “هيئة العلماء والمفكرين” وجميع العلماء الذين أكدوا على صحة ذلك الاختراع وكل الموقعين على الأوراق الرسمية لتسجيل ذلك الاختراع بمن فيهم ذلك الموظف المسؤول عن تسجيل براءات الاختراع، وأجبرتهم على كتابة تقرير مفصل عن ذلك الاختراع مفاده بأن: “الجهاز لا يطلق صفيراً عندما يكون الشخص الذي أمامه معادياً للوطن، ويقوم بإطلاق الصفير عندما يكون الشخص الذي أمامه يعمل خالصاً للوطن”!!.. وقامت الحكومة بهدم بناء (وزارة المخترعين المحليين) ولم يعد هناك وزارة للمخترعين ولا حتى زريبة.. وزجت جميع المخترعين في البلاد خلف القضبان حتى مخترع التواليت الإفرنجي الأوتوماتيكي الذي تحدثت عنه في البداية لاشتباهه بالمساس بـ”الأمن الوطني” من خلال اختراعه السابق. رغم أنه كان يصرخ عندما تم جرّه أمام جيرانه بأنه لا يفهم العلاقة بين الـ؟؟؟؟؟ والأمن القومي!!!.. ما عدا مخترع الجهاز الكاتم للصوت لم يتم إلقاء القبض عليه بل تمت ترقيته وأصبح رئيساً للمخابرات العامة فيما بعد..
وهكذا وبين ليلة وضحاها انقلب كل شيء.. وقامت الحكومة بعد ذلك بإخراج المجرمين وقطاع الطرق واللصوص والحرامية من السجون وقامت بإلقاء القبض على المواطنين الذين ثبت بأن الجهاز لم “يصفّر” أمامهم.. وكان معظم أبناء الشعب متهماً فبمجرد أن يقوم أحد بكتابة تقرير ضد شخص ما حتى يتم تعريضه على الجهاز فإذا صفّر فسيطلق سراحه وإن لم يقم الجهاز بالتصفير يتم إلقاء القبض عليه فوراً وغالباً ما كان الجهاز يُصاب بالخرس.. وكان اللصوص أو يجب أن أقول (اللصوص السابقين) الخارجين من السجن بفضل ذلك الجهاز في كل مكان ويتكاثرون بكثرة في الشتاء وقد سمعت بأنهم تبوّأوا مناصب قيادية في الحكومة.
أما أبو فتحي القاووشجي فقد شوهد آخر مرة عبر شاشات التلفاز في مجلس الشعب في ذلك اليوم الذي أشبه ما كان بيوم الحشر..
وكان ذلك اليوم الذي جاء فيه أبو فتحي القاووشجي إلى مبنى “وزارة المخترعين المحليين” سيكون يوماً عادياً جداً بالنسبة لموظف تسجيل براءات الاختراع ولنا كمواطنين عاديين لولا أن ظهر أبو فتحي القاووشجي.. وها أنذا الآن أكتب تقريراً بزوجتي لأنني أرغب بالزواج من أخرى.
http://nj180degree.com/2010/02/27/invention/