الفساد العربي والسياسة الأوروبية والإرهاب
غسان المفلح
دعا وزير المالية البلجيكي ديديه ريندرس، سويسرا إلى إلغاء مبدأ السرية المصرفية بغية وقف إستمرار لجوء المتهربين من الضرائب في البلدان المجاورة إليها، على حد وصفه، ودعا وزير المالية سويسرا إلى تتبع النموذج البلجيكي، وإلغاء العمل بمبدأ السرية المصرفية من أجل وقف عمليات الإحتيال في كافة أنحاء الدول الأوروبية، حيث “تستقطب سويسرا وكذلك لوكسمبورغ الكثير من الأموال، لأن أصحابها يعرفون أنها ستظل بمنأى عن السلطات المالية في بلادهم” بحسب قوله، وأوضح وزير المالية البلجيكي أن المعلومات المتوفرة تفيد أن أصحاب تسعة حسابات من أصل عشرة موجودة في سويسرا، يعتبرون من المتهربين من الضرائب في بلادهم، مستوجبا على السلطات السويسرية “طرح سؤالاً جدياً حول جدوى إستمرارها في إيواء المحتالين” على حد تعبيره- وكالة آكي الإيطالية26.02.2010.
الملفت في هذا التصريح أن بلجيكا قامت بإلغاء مبدأ” السرية المصرفية” بداية العام الحالي أي منذ شهرين فقط! وقبلت إقامة نظام تبادل تلقائي، للمعلومات المصرفية للحسابات المفتوحة في مصارفها مع باقي الشركاء الأوروبيين.
إن الحكومة التي تعاملت بمبدأ السرية المصرفية، تعرف ماذا يعني ذلك لبقية بلدان العالم، وتراجعها عن التعامل في هذا المبدأ، امر جيد ولكن يبقى هنالك، نقطة بسيطة، فالبلجيكي كوزير، بات الآن يخاف من أموال البلجيكيين أن تذهب إلى مصارف سويسرا أو لوكسمبورغ، وهذا همه الأساس.
الاحتيال هنا وفقا للسياق الدولي يمكن لنا أن نترجمه أولا تهربا من الضرائب، وثانيا من أجل مكافحة فساد المال السياسي، وثالثا من أجل ملاحقة اموال الإرهاب. هل يعني هذا أن بلجيكا كانت تقوم بالاحتيال، والتغطية على اموال الفساد المالي، وربما غض الطرف عن أموال لدعم الإرهاب طالما أن الأمر فيه أموال تتدفق إلى المصارف البلجيكية! ولكن هذه المعركة بين الدول الأوروبية، من أجل رفع الحصانة المصرفية، لا تأتي على ذكر الأموال المتدفقة من دول العالم الثالث، والذي تشكل أموال الفساد السياسي والمالي جل هذه الأموال، والدول الأوروبية أكثر من تعرف أن هذه الأموال هي أموال منهوبة، جراء فساد النظم السياسية، خاصة في المنطقة العربية. علما أنه من المعروف أن كافة دول أوروبا تتعامل مع الأموال المتدفقة، من العالم العربي، ليس بسرية مصرفية وحسب، بل وكأنها تدخل في مجال الأمن الأوروبي عموما، وأمن كل دولة أوروبية على حدا، وسويسرا ليست خارج هذا الإطار، لكنها دولة منذ الأساس تعتمد على نظامها المصرفي، فهي دولة لم تستعمر في العالم الثالث، ولم تترك أفريقيا رمادا، كما أنها، بقيت على الحياد في كل الحروب العالمية التي جرت. وكل دول العالم ورأسمالييها استفادوا ولازالوا يستفيدون من هذه الحصانة التي توفرها، كلا من سويسرا ولوكسمبورغ والنمسا وبلجيكا حتى وقت قريب. بالعودة إلى تصريح وزير المالية البلجيكي، حيث تمر بلجيكا الآن بأزمة إفلاس عدد من الشركات كشركة GB، وشركة أوبل..الخ، حيث يقدر عدد العمال الذين فقدوا أعمالهم عدة ألوف، ويطالب سويسرا برفع الحصانة عن الحسابات المصرفية.
– من المعروف أن دورة المال الفاسد في السابق لم يكن لها إلا أن تمر في أوروبا الغربية وأمريكا.
– كما ان جل المؤسسات المالية الداعمة للإرهاب كانت في الغرب.
– النخب الأوروبية الاقتصادية والسياسية، تعلم أن غالبية الأموال المتدفقة من العالم العربي، هي نتيجة عمليات غير قانونية، وهذا العامل كان ولازال محركا أساسيا ورئيسيا لكثير من سياسات أوروبا.
نحن هنا لا نتحدث عن الاستثمارات العربية في أوروبا، بل نتحدث عن أموال- كاش- تهرب من البلدان العربية وتوضع في البنوك الغربية، وتدخل دورة الاستثمار والتشغيل في الاقتصاد الأوروبي والعالمي، ودون أن تعود بفائدة على الدول التي هربت منها، لأنها أموال فاسدة ومنهوبة.
– كما تعلم هذه النخب أيضا” أنها منذ نهاية السبعينيات والحديث الذي بدأ الغرب ببثه ودعمه عن صحوة إسلامية، كان مقرونا بحسابات تفتح في بنوك أوروبا لمنظمات إسلامية، جهادية، وتذهب لدعم الحرب ضد السوفييت في افغانستان، والذي جرى لاحقا الجميع يعرفه” الحرب على الإرهاب!
حاول بعض الساسة في أوروبا الخروج على هذه القاعدة التي تدر ذهبا فاسدا، إلا أنهم فشلوا في ذلك.
المعادلة ببساطة” الإرهاب هو نتاج اجتماعي، والنظم القائمة ودوائرها، كبؤر فساد ترحل الأموال إلى الغرب، فيجب استمرار هذا التدفق المالي، وهذا يقتضي، المشاركة مع النظم في الحرب على شعوبها، وتبرئة النظم وتلميع صورتها، تارة علمانيتها، وتارة مساهمتها في الاستقرار في الشرق الأوسط، وكأن أوروبا لم يكن لها اليد الطولى بعدم الاستقرار في الشرق الأوسط هذا، حتى قبل أن تصبح أمريكا لاعبا أساسيا ورئيسيا في المنطقة؟
وهذا يفسر جانبا مما نراه من دورة انفتاح أوروبي أمريكي، لأنها دورة سياسية، كدورة الانغلاق الأوروبي الأمريكي على هذه النظم. دول الاعتدال العربي، كما تسمى ليست معنية كثيرة بهذه الدورة، بل نتحدث عن النظم” الثورية والمقاومة في المنطقة” مرة انفتاح ومرة انغلاق، وما بينهما لا تنقطع القنوات المالية التي تهرب أموال النهب والفساد. والوزير البلجيكي يعلم ذلك جيدا، والآن يطالب سويسرا برفع الحصانة المصرفية عن حسابات الأوروبيين فقط! لأن بلجيكا نفسها لا تريد رفع الحصانة عن الأموال المنقولة من العالم الثالث.
فهل سويسرا مطالبة بذلك ويجب أن تقوم برفه السرية المصرفية؟ والسؤال” لماذا ستقوم سويسرا بذلك، وما مصلحتها لتفقد أهم مصادر دخلها؟
ايلاف