صفحات الشعر

حافظ برواية عبّاس كيارستمي

null
التقديم والترجمة: ماهر جمّو
صدر كتاب “حافظ برواية عباس كيارستمي” في طهران عام 2006 عن دار “فرزان روز”، فأثار جلبة كبيرة في الأوساط الأدبيّة الإيرانيّة. إنّه حافظ مرّة أخرى، حيث تطفو الى السطح مسألة المساس بقدسية أشعار هذا الشاعر الكبير الذي يعتبره الكثير من الإيرانيين واحداً من أبرز رموزهم المقدّسة.
المخرج السينمائي عبّاس كيارستمي، الشاعر، المصوّر، الرسّام والموسيقيّ، يعمل منذ مطلع السبعينات على توطيد أسس جمالية خاصة يرتكز عليها فنّه، قوامها الصفاء والشاعرية والبساطة، وهو يطرح في أعماله أسئلة جريئة ومقلقة تتعلّق بالحياة والوجود من دون الخوض في مغامرات ما ورائيّة غيبيّة، مسلّطاً النور على أدقّ المشاعر الإنسانية وأشدّها كتماناً، وعلى مشاهد قد تبدو هامشية وسطحيّة للوهلة الأولى لكننا نكتشف في ما بعد مدى أهميّتها وعمقها.
إنه يدعونا دوماً إلى رحلات عبر دروب الصبر والضجر والتأمل الوعرة والملتوية ليوصلنا في نهاية المطاف إلى ينابيع أسئلته الجمالية والوجودية المربكة ذات المسحة الشاعرية الأخّاذة.
جعل كيارستمي من فنّه مرايا صغيرة مصقولة بعناية، يعكس بعضها بعضاً، ويتممه، فأفلامه وصوره وأشعاره منسجمة ومتكاملة وهي جميعاً تطرح الرؤى ذاتها، العميقة والمتقشّفة في أدوات عرضها.
“ثمة صلة بين صوري الفوتوغرافية وأفلامي، صوري تأسر لحظة واحدة خاصّة، والمسألة هي نفسها في أفلامي. فحتى لو كانت صوراً متحرّكة فأنا أمسك بلحظة خاصة فحسب والشيء نفسه ينطبق على قصائدي”.
في جرأة لم يسبق لها مثيل بين كلّ الأعمال التي تناولت ديوان شاعر الفرس العظيم حافظ، دراسةً وشرحاً وتصحيحاً، يقدّم كيارستمي كتابه إلى القارئ الإيراني المعاصر ليقرأ بطريقة مختلفة كلّ الاختلاف عن الطرق المألوفة في قراءة الشعر الكلاسيكي الفارسي متسلّحاً بمقولة رامبو الشهيرة “ينبغي أن نكون حداثيّين بشكل مطلق” التي تصدّرت مطلع الكتاب.
يقوم كيارستمي بانتقاء أشطر معينة من أشعار حافظ ويقطّعها بشكل يبعد الكلمات عن الإيقاع والموسيقى وعن ذاكرتها التي كانت تملكها ضمن سياقها الأول ليغيّر بذلك طريقة قراءتها، وتأمّلها بشكل مختلف ومن زوايا تمنح رؤيةً أكثر صفاءً وحكمة، وهي طريقة تشبه إلى حدٍّ ما طريقة قراءة أشعار الهايكو اليابانية التي ينحو كيارستمي إليها بشكل كبير في أعماله:
“قصيدة الهايكو هي في اعتقادي أكثر أشعار العالم شاعرية لأنها حرّرت نفسها من كلّ القيود، إنّها لا تمنحك كلّ ما ينبغي أن تمنحه بل تبقيك عطشاناً، عطشاناً إلى المعنى الذي ليس بأيّ معنىً على الإطلاق وهي عوض أن تحضر الشعر إلى عالمك تأخذك إلى عالمها الشعري الذي هو اللامكان”.
يرى كيارستمي أنّ أهم مشكلات قراءة الشعر الكلاسيكي الفارسي تكمن في المبالغة في الاتكاء على موسيقى القصيدة، فما إن يشرع القارئ في قراءة أول شطر حتى تتخطفه القافية والموسيقى التي تفيض بها هذه الأشعار، وبذلك يُحرَم من الكثير من المعنى، وهو يرى ضرورة التوجه إلى الموسيقى الداخلية للكلمات بذاتها.
يمضي كيارستمي أوقاتاً طويلة في البراري والمناطق الريفية النائية في شمال إيران برفقة عدسة التصوير ليلتقط لحظات عابرة من الطبيعة تحمل أفكار أفلامه وأشعاره، وصوراً لمشاهد الثلوج والغربان والمطر والأشجار، مركّزاً فيها على انسجام الأفكار والألوان، ويقول إنه استلهم فكرة كتابه عن حافظ من تصوير الأشجار المفردة عند سفوح الجبال التي يوليها اهتماماً خاصّاً في أفلامه وأشعاره: “لم يحدث قطُّ أن وقفتُ قبالة غابة والتقطتُ لها صوراً، لأنّ كل ذلك القدر من الأشجار يجعل من الشجرة غير موجودة، الشجرة عندما تكون في برّية ولا يحيط بها شيء فإنّها تُشاهَد ويكون في وسعنا مشاهدة اعتبارها وقيمتها، هذه الأشعار هي أيضاً كذلك” (من حوار مع أوميد روحاني).
يتعلّق كتابه هذا بتجربته السينمائية ولا سيّما في أفلامه الأخيرة “ستحملنا الريح” و”عشرة” و”عشرة على عشرة”، إذ يسعى في “ستحملنا الريح” إلى إسقاط بعض الشخصيات وحذف وجودها الفيزيائي من الفيلم والاحتفاظ بشيء يوحي بوجودهم. غير أن فكرة الحذف والتشذيب تبلغ ذروتها في فيلم “عشرة” حيث يكون الحوار من طرف واحد فقط في كلّ مشهد من مشاهد الفيلم العشرة.
“أحياناً كثيرة عندما أشاهد فيلماً وأصل إلى أوج بريقه فإني أغادر الصالة وأعيش مع تلك اللحظة قائلاً لنفسي بأني غير متأكّد ما إذا كنتُ سأحتفظ بهذا الإحساس حتى نهاية الفيلم، وهذا ما يفعله بي شطرٌ واحدٌ من غزليّة ما” (من حوار مع پرويز جاهد في “راديو زمانه”).
إضافةً إلى التأثير البالغ لأشعار الهايكو على نظرة كيارستمي إلى الحياة والفنّ، ثمّة تأثيرٌ آخر جليّ هو تأثير الخيّام، الذي وصف تيوفيل غوتييه رباعيّاته ذات مرّة بـ”البريق المفاجئ الذي يضيء ظلمات الفلسفة”، ويظهر ذلك في أفلامه وأشعاره، وأيضاً في هذه المختارات من حافظ، فمن خلال هذه الأشطر المنتقاة يُظهر كيارستمي أحياناً ميلاً واضحاً إلى قراءة أشعار حافظ من زاوية خيّاميّة صرفة: “في نهاية المطاف/ طيناً لصانع الأكواز/ ستغدو./ اجلس / بجانب ساقيةٍ  وتأمّل/ جريان العمر./ من يعرف/ كيف ذهب عرشُ جمشيد/ أدراج الرياح؟”.
“إننا نشاهد الخيّام في أشعار حافظ وسعدي أيضاً، في اعتقادي إن الخيّاميّة ليست أسلوباً شعريّاً فحسب بل هي طريقة للتفكير تنطوي على الحكمة. لا أعتقد أن في وسع أيّ شاعر أن ينظر إلى العالم نظرة غير خيّاميّة، المهمّ هي النظرة ولكن كلٌّ يكتب بأسلوبه الخاص” (المصدر نفسه).
يعتقد بعض النقّاد في إيران أن كيارستمي خرّب مقياس أشعار حافظ وانسجام غزليّاته، وهؤلاء هم ممن ينظرون إلى حافظ كأحد مقدّسات التراث الإيراني: “إنّ ما فعله كيارستمي مع ديوان حافظ يشبه اقتصاص قطعة خزف نفيسة من نسيجها الكلّي من بناء يزيد عمره على ستمئة عام ووضعها في مكان جديد. حافظ كيارستمي محرومٌ من اللغز والغموض الذي هو سرّ أشعار حافظ” (آيدين آغداشلو – “اعتماد ملي”).
ثمّة أيضاً من يرى أن كيارستمي إنّما يعبّر عن نفسه من خلال أشعار حافظ، وأن محاولته لعرض قصائد شاعرٍ اكتسب طابعاً قدسيّاً في الذاكرة الجمعية الإيرانية في قالب الهايكو عمل غير مقبول ولا ينتمي إلى الحداثة في شيء: “ترى ما هو هدف كيارستمي من هذا العمل؟ هل هو أن يعرّف الإيرانيين أكثر الى حافظ؟ وهل حافظ مجهول بالنسبة الى الإيرانيين؟ أيّ درس يريد كيارستمي أن يعطيه بتحويل شعر حافظ قصائد هايكو؟ والى من يريد أن يعطي هذا الدرس؟ إنّ ما قام به كيارستمي، أيّاً تكن نظرتنا إليه وأيّاً تكن دوافعه لهذا العمل، ليس إلاّ “كيارستمي برواية حافظ”، إنه يريد أن ينقل كلامه وفضاءه الفكريّ من خلال كلمات حافظ” (“ملكوت”-داريوش ميم).
انتقادات كثيرة وجّهت إلى هذا العمل الإشكالي الذي يراه البعض الآخر نقطة انعطاف مهمّة في النظر والتعامل مع الشعر الكلاسيكي الفارسي.
لعلّ ما ساعد في صدور عمل بهذه الجرأة عن كتاب بهذه الحساسية هو اسم كيارستمي الذي يعتبر أحد أهمّ الأسماء التي تمثّل الثقافة الإيرانية المعاصرة في الخارج، والسبب الثاني هو رسالة الناقد والباحث المتخصص في أشعار حافظ، بهاء الدين خرّمشاهي، الى كيارستمي، والذي تبنّى نشر الكتاب في الدار التي يرأسها، والتي جُعِلت كمقدّمة للكتاب وصارت بمثابة فتوى أقرّت بصدوره.
يقول خرّمشاهي إنه قرأ ديوان حافظ لمئتي مرّة على الأقلّ ولكن لدى قراءته لحافظ بالتقطيع والتزويق الذي قام به كيارستمي انقلبت ألفته، التي عمرها خمسون عاماً، مع أشعار حافظ رأساً على عقب: “عندما وصل الكتاب إلى يدي نظرتُ إليه في البداية نظرة سلبيّة ولكن بعدما فرغتُ من قراءته ترك لديّ انطباعاً إيجابيّاً وبدا لي عملاً رائعاً”.
“حافظ برواية عبّاس كيارستمي”، كتاب يسعى إلى محو الهالة الأسطورية الضبابية عن حافظ وتقديمه على أنّه كائن أرضيّ أوّلاً، وهو يحاول الكشف عن الحِكَم التي تزخر بها هذه الأشعار وتقطيعها بشكل يمنحها البريق الذي تستحقّ والذي يرى كيارستمي أنّها كانت قد حُرمت منه ضمن الديوان الأصلي لحافظ بفعل الموسيقى والقافية.
يحتوي الكتاب على ستمئة وسبعة وأربعين شطراً مقتطفاً من غزليّات مختلفة لحافظ وهو مقسّم ثمانية عشر فصلاً يحمل كلٌّ منها عنواناً اختاره كيارستمي، وهذه الفصول هي: الحبّ والشباب، في مديح الحبيب، أمل الوصال، نسيم الفردوس، في مفارقة الروح للجسد، ليل الفراق، الشراب المرّ، عيوب الخمر ومحاسنها، حديثٌ في الغياب، حزن الحبّ، أسرار الحبّ والسكر، رسالة إلى الحبيب، بشارة الوصال، ليلة القدر، الهجران، الحسرة والندم، العارف، منزلة الرضا.

مقتطفات
أملك جوهرةً،
وأبحث
عن عارفٍ سديد.

جوهر السعادة
هناك،
حيث يكون
الحبيب.
مفلسون
ولنا رغبةٌ
في الشراب والطرب.

على لوح قلبي
لا شيء
سوى ألِفِ قامة
الحبيب.

أنا المتسوّل المعدوم،
وأرغب
في حسناء
ممشوقة
القوام!

حول مركز فمكِ
فليكن مدارُ
العمر.
انظري
جسارة النرجس
الذي يتفتّح
أمامك.

إلهي،
في موسم الأزهار
اغفر ذنب
العبد.

تعالَ أيّها الساقي،
فالحبيب
قد رفع
النقاب عن الوجه.
في مجلسنا
قمرُ وجه الحبيب
مكتمل.

اغتنم
ليلة الوصال،
ونلْ هبة السعادة.
من المروج يهبّ
نسيم
الفردوس.
ناصحٌ قال لي:
أيّ فضيلةٍ للحبّ
سوى الحزن؟

بلون الشفق
تخضّبت دموعي
من جفاء الحبيب.

أيُّ سبيلٍ إلى إبهاجها؟
أعماقي الحزينة.

في بهاءٍ
تلألأ الحظّ السعيد،
لكنّه
على عجلٍ كان.
عيني الطافحة بالدم
أيُّ نومٍ
يليق بها؟!

من قوس الصدق
أطلقتُ
ألْفَ سهمِ دعاء.

ليلة أمس
بسيل الدموع
سددتُ طريق النوم.

في عبثٍ يمضي العمر
دون خمر
وحبيب.
يا ريح الصبا
من تلفحهم النيران
قرب الطريق
منتظرون.

آملاً ومشتاقاً
كنتُ أحدّث الريح
وقت السحَر.

هواءُ
منزلِ الحبيب
هو ماء حياتنا.

في الليالي الظلماء
مرادي
هو أن أفنى.
في منامٍ عذب،
رأيتُ أن الكأس
كانت بيدي.

هاتِ الخمر،
فأركان العمر
في مهبّ
الريح.
اسألِ الماجنين السكارى
عن خفايا
الأسرار.

بخمرٍ معتّقة
ادفعوا عنكم
الأسى القديم.
ليلة أمس
رأيتُ الملائكة
تطرق باب الحانة.
على حافّة بحر الفناء
ننتظر
أيّها الساقي.

سوى شفة الحبيب
وكأس الخمر
لا تقبّلْ
يا حافظ.

في الطريق إلى الشمس
احمل سراج الخمر
أيها الساقي.

ما ثمنُ
خمرةٍ كالياقوت؟

– جوهرةُ العقل.

حاشا
أن أترك الخمر
في موسم
الأزهار.

لا تسأل الخفاش
وصف
وجه الشمس.

لذّة الخمر
ستقتل
الزاهد النادم.

مرّةً أُخرى
جاء البكاء بماءٍ
إلى وجوه المحترقين.

رطوبةُ
دمعٍ
وحديثٌ
مع النفس.

كلُّ قطرة ندىً
في هذا الطريق،
مئةُ بحر من النار.

في طريق الحبّ
ما من نقطة قربٍ
أو بُعد.
في طريق الحبّ
ثمّة المئات من الأخطار
في ما وراء الفناء.
في طريق الحبّ
الأمنُ والراحةُ
بلاء.
كن كتوماً
ولا تؤذِ قلبها بأنينكَ
يا حافظ.

واقفٌ كالشمعة،
بالنار
لا تُخِفْني.
حقلَ السماء النضر
ومنجلَ الهلال
رأيت.

جاءت البشارة:
إن الربيع قد أقبل
والعشب
نما.
في السحَر،
إلى وسادتي
جاءت
السعادة اليقظانة.

عُقابُ الظلم
باسطٌ جناحيه
فوق البلاد.
كشجرة صفصاف
أرتعد خشيةً
على
إيماني.

ماء الوجه يغيض،
فيا
أيتها الغيمة الغافرة
اهطلي.
أين هو العارف
الذي يفهم لغة
السوسن؟

اذهب واشربِ الخمر
بما تملك
ولا تندم.
حزنُ العالم
سيُنفِقُ في إسرافٍ
نقودَ عمرك.

اجلِس
بجانب ساقية
وتأمّل
جريان العمر ¶

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى