صفحات مختارة

الحجاب بين الرفض والفرض

د. طيب تيزيني
حوارات وسجالات، دارت منذ زمن ليس قصيراً تحت عنوان “الحجاب كَزِي جامعي للإناث”وكانت هذه السجالات قد ظهرت في بعض البلدان الأوروبية ذات الجاليات الإسلامية، فأنتجت ممارسات عُنْفية. وكان ذلك بمثابة إشعال شرارات راحت تؤسس لعلامات استفهام كبيرة على مصداقية خطاب الحرية والتسامح في الغرب. وظهر ذلك على أساس أن الغرب علماني ينطلق من فصل السلطوي الدنيوي عن الديني؛ لذلك، كانت حدود منع المحجَّبات تقف عند حدود مؤسسات الدولة. فالمحجّبة تدخل الحديقة العامة، ولكنها تُمنع من دخول الجامعة.

أما الوجه الجديد في هذه المسألة فراح يتجلّى فيما لجأت إليه الجهات المسؤولة في غزة. حين أصدرت قراراً بفرض ارتداء الحجاب والجلباب في المدارس الثانوية. وقد أتى ذلك بعد أن ألغت هذه السلطة، هناك في غزة، الالتزام بالزي المدرسي الرسمي، مما أدى إلى ردود فعل سياسية وتربوية وعامة رأت في هذا الإلغاء، وبذلك الفرض، عملية تعسّفية، يُراد لها أن تُفرض على الطلبة وعلى ذويهم، قسراً. لكن الآمرين بالإلغاء أصروا على قرارهم الإلزامي، بحيث إن مَنْ لا تلتزم به من الطالبات يمكن أن تُفصل من مدرستها، أو أن تعاقب.
هكذا تبدو المسألة، بمثابتها خرقاً لحقوق الإنسان في حريته الخاصة، التي تضمنها الدساتير والقوانين الوطنية، وما جاء – كذلك – في “بيان حقوق الإنسان” العالمي، الذي صدر عن الأمم المتحدة عام 1948. ويلاحظ أن الأمر هو أكثر من إلزام أو سماح بالحجاب المذكور عن طريق وزارة تربية أو سلطة ما. إن ذلك، في عمقه، هو الثقافة التي تهيمن في مجتمع ما. ويُعتقد أنها كذلك وهو – في هذه الحال – غياب ثقافة الحرية والتسامح والإقرار بالتعددية، وبتعبير آخر، إنها ثقافة تتواتر بين نمط من الاستفرادية الإقصائية التي تسعى للحيازة على كل شيء باسم أمر ديني أو اجتماعي قيمي أو غيره.
ونلاحظ أن الفريقين المذكورين هنا كليهما، الفريق الغربي وفريق غزة، أو بتعميم أوَّلي، فريق العلمانية ضمن أوروبا وأميركا ومناطق أخرى من العالم، وفريق الإتِّباعية الثقافية والدينية من ضمنها في العالم العربي الإسلامي، ينحيان نحواً يضعهما في حدَّيّن اثنين، هما حدّا الحرية والقسرية. ومع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية الوضعية الإسلامية، فإن هذه الخصوصية ليست مغلقة بحيث نضعها فزّاعة في وجه الانفتاح والتغيير. وبالأساس، يمكن النظر إلى الإجراء الذي لجأت إليه السلطة الإسلامية في غزة حيال الحجاب (والجلباب) في الوسط المدرسي الأنثوي، على أنه خيار من خيارات أفضى إليها التأويل الديني لنصوص أو لتقاليد دينية، ومن ثم، لا يصح القول بأن الموقف المذكور، الذي أخذت به السلطة المذكورة وفرضته في مدارس غزة، هو التعبير القاطع والنهائي عن الإسلام في المسألة المعْنيّة، على هذا الصعيد. ذلك لأن النصوص المذكورة هي أكبر من أن تُستنفد في رأي واحد وحيد.
وإذا كان الباحث يقف أمام ذينك الموقفيْن، الغربي والغزّاوي، فإننا نلاحظ أن شيئاً ما ينقص كلّّاً منهما، فالموقف الغربي سيضيّق كثيراً على حداثته وعقلانيته وتسامحه، حين يحصر الموقف الإنساني من هيئة المرأة ضمن نمط من الظهور السافر وحيثياته. وكذلك، فإن الموقف الإسلامي غير الناضج سيجعل من المرأة حالة تُدار وتُحرَّك بأزرار تُركَّب على لباسها، مع أمرٍ ردْعي يعلن أنه هو الذي يحافظ على فضيلتها وصفائها. وإذا كانت الفضيلة تمتلك أسباب كونها فضيلة في ذاتها، فإن اقتحام القسْر فيها يجعل منها حالة كاريكاتورية تثير الطرافة، ولكنها تفتقد الاحترام الذاتي، الذي يجعل من الإنسان إنساناً راشداً محترماً وهدفاً بذاته ولذاته.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى