قضية فلسطين

حرب غزة ومعالم الدور الإقليمي الجديد لتركيا

الاتراك التحفوا بالعلم الفلسطيني واحرقوا العلمين الاسرائيلي والاميركي
د.محمد السعيد إدريس
من بين كل القوى الإقليمية والدولية، برز الدور التركي في الحرب الإجرامية الإسرائيلية التي تقترب بعد أيام قليلة من دخول أسبوعها الرابع، وقد تميز هذا الدور وتفوق على أدوار قوى إقليمية ودولية عديدة، لدرجة أثارت اهتمام واحترام الشارع السياسي العربي الذي وقف متحسراً وهو يدرك عجز النظام العربي عن امتلاك القدرة على الرد على تلك الحرب بما يوجع الكيان الإسرائيلي، بل إنه عجز عن القيام بدور دبلوماسي وإنساني يوفر غطاءً لقرار دولي عاجل ومنصف، يقضي بوقف فوري للحرب وانسحاب القوات الإسرائيلية وتأمين فتح المعابر لإدخال الدعم المادي والطبي لإنقاذ الجرحى والمصابين وحماية الشعب الفلسطيني من حرب إبادة مؤكدة. أول ما تميز به الموقف التركي هو السرعة في التحرك، والسرعة في إعلان مواقف قوية من العدوان الإسرائيلي، تجاوزت حدود الإدانة ووصلت إلى درجة التهديد بمراجعة جديدة للعلاقات بين البلدين.
فقد بادرت تركيا بتحميل إسرائيل مسؤولية الحرب وتدهور الأوضاع بكل موضوعية واقناع، حيث انتقد رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان بأقسى العبارات الوحشية الإسرائيلية، وقال إن تركيا لا يمكن أن تقف مع الظلم، وأن آهات الأطفال والقتلى لن تبقى في مكانها، وأضاف أن إسرائيل ستغرق في دموع أطفال غزة.. وجاءت الاتهامات التركية المباشرة على لسان وزير العدل محمد علي شاهين عندما قال إنه قليل أن توصف ممارسات إسرائيل بالمجازر، وقال إن إسرائيل هي المحرضة الأولى للإرهاب العالمي، وباستمراره لا يمكن محاربة الإرهاب. وتجاوز الموقف التركي الإدانة إلى حدود التحرك الفعلي ضد إسرائيل، حيث كشفت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية أن وزارة الخارجية التركية رفضت طلباً قدمته تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الإسرائيلية لزيارة أنقرة لإطلاع المسؤولين الأتراك الغاضبين على مبررات العملية العسكرية، وجاء الرد التركي بالرفض قائلاً: «إذا كانت ستتحدث عن أي شيء بخلاف وقف فوري لإطلاق النار فعليها ألا تأتي».
وجاء رد فعل الخارجية التركية متوافقاً مع رفض رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان الرد على اتصال هاتفي من إيهود أولمرت رئيس الحكومة الإسرائيلية، وقال أردوغان حسب مصادر صحفية تركية أن جميع هواتفه ستظل مغلقة في وجه المسؤولين الإسرائيليين إلى أن تصدر إسرائيل إشارة فعلية على قبول وقف إطلاق النار.
أنقرة.. موقف وقرار
وهدد أردوغان إسرائيل بأنه في حال استمرارها في اتباع الأسلوب نفسه واستمرار العدوان على غزة واستخدام القوة المفرطة بالشكل الذي يحدث، فإن علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع تركيا ستتأثر كثيراً.
واتساقاً مع هذا الإدراك التركي لخطورة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بادرت الخارجية التركية بتعليق دورها كوسيط في مفاوضات السلام بينها وبين سوريا، واعتبر علي باباجان وزير الخارجية التركي أن الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة «يجعل من المستحيل» مواصلة مفاوضات السلام غير المباشرة بين إسرائيل وسوريا بوساطة تركية، وقال إن «خوض الحرب من الجانب الإسرائيلي على الفلسطينيين لا يمكن أن يتزامن مع مفاوضات سلام سورية – إسرائيلية».
وانتقد باباجان رئيس الحكومة الإسرائيلية لأنه «خدع» الأتراك عندما زار أنقرة قبل أيام من شن الحرب على قطاع غزة لبحث إمكانية إحراز تقدم في المفاوضات الإسرائيلية – السورية، حيث أوضح أنه لن يهاجم غزة في حين كان قرار الحرب متخذاً سلفاً، الأمر الذي أشعر الأتراك بالإهانة، وعبر باباجان عن هذا الشعور بقوله إن الغارات الجوية الإسرائيلية على قطاع غزة بعد أيام قليلة من هذه الزيارة أثارت «خيبة أمل كبيرة» في أنقرة.
واقترن موقف النواب الأتراك بموقف الحكومة، حيث أعلن 300 نائب تركي من إجمالي 305 نائباً استقالتهم من جمعية الصداقة – الإسرائيلية، كما اتجهت الحكومة بالتعاون مع منظمات شعبية إلى تنظيم حملة مساعدات لقطاع غزة وصفتها وسائل إعلامية بأنها «الأضخم منذ قيام الجمهورية عام 1924».
ولم يكن الموقف الشعبي التركي أقل في حدته من موقفي الحكومة والبرلمان، بل تجاوزهما من خلال التظاهرات اليومية، ومظاهرة اسطنبول المليونية التي طالبت الجيش التركي بالدفاع عن غزة وأدانت العجز العربي والإسلامي عن حماية غزة والدفاع عنها.
أما ثاني ما تميز به الموقف التركي فهو العملية، حيث لم تكتف تركيا بإدانة العدوان وتحميل إسرائيل المسؤولية وإطلاق تهديدات حقيقية بمراجعة العلاقات بل تحركت تركيا وبسرعة من أجل تحقيق وقف فوري للحرب كشرط لأي مطالب أخرى. فقد استقبلت أنقرة وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط الذي أعلن مع نظيره التركي علي باباجان مبادرة مشتركة هدفها الوقف الفوري للحرب وتأمين فتح المعابر، ثم قام رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان بجولة في المنطقة استثنى منها إسرائيل شملت دمشق وعمان والقاهرة والرياض، وفي دمشق التقى مستشاره السياسي أحمد داود أوغلو مع خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، كما استقبلت الخارجية التركية وزير الخارجية السوري وليد المعلم.
تحرك رئيس الوزراء التركي جاء ضمن مشروع أعدته تركيا هدفه تأمين وقف فوري لإطلاق النار ورفع الحصار المفروض على غزة وتسهيل مرور شاحنات التموين ونقل المرضى عبر معبر رفح بالدرجة الأولى.
أما ثالث ما تميز به الدور التركي فهو التوازن بمعنى أنه موقف أخذ في اعتباره مطالب الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي وحرص على التوفيق بينهما لإنجاز المهمة الأهم وهي وقف الحرب، حيث لم يتجاهل رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان مطالبة حركات المقاومة وخاصة حركة «حماس» بوقف إطلاق الصواريخ على البلدات الإسرائيلية وأي هجمات أخرى، وكان حريصاً في مؤتمره الصحفي عقب لقائه مع الرئيس المصري حسني مبارك على أن يقدم رؤية عملية ومتوازنة وممكنة التحقيق عندما قال: «يجب وقف إطلاق النار فوراً. وينبغي رفع الحصار بموجب اتفاق التهدئة الموقع في يونيو 2008»، وأضاف أردوغان بعداً جديداً للتحرك التركي عندما قال: «أوضحنا نيتنا أننا مستعدون لنقل القضية الفلسطينية إلى مجلس الأمن بالتعاون والتنسيق مع مصر»، وأعاد التأكيد على جوهر مبادرته أو رؤيته للحل بقوله: «دعوتنا لإسرائيل الآن هي وقف هجماتها، وللجانب الآخر (حماس) هي الكف عن إطلاق الصواريخ والهجمات الأخرى».
قبول عربي رسمي وإشادة شعبية
أما أهم ما تميز به الدور التركي، فهو أنه جاء مقبولاً من طرفي التنافس العربي، إن صح التوصيف: محور الاعتدال وخاصة مصر والسعودية، ومحور الممانعة الذي يضم سوريا وحركة «حماس» دون استبعاد إيران و«حزب الله».
فقد أعطت قيادة حركة «حماس» ثقتها في الدور التركي ووكلته للحديث باسمها في مجلس الأمن. كما بادرت مصر إلى حث تركيا للمشاركة في جهود وقف الحرب عندما قام أحمد أبوالغيط وزير الخارجية المصري بزيارة أنقرة. وكان أردوغان حريصاً على تثمين الدور المصري من خلال المبادرة التي تقدم بها الرئيس حسني مبارك وقال: «نقدر عالياً الدور المصري في المنطقة، وفي حال ترتبت علينا وظيفة في هذا السياق فإننا جاهزون فيما يترتب علينا، وهمَّنا هو ماذا يمكن أن نعمله في هذا السياق لأنه واجب إنساني علينا، وإننا ننظر بمنظور تركيا التي هي الآن عضو مؤقت في مجلس الأمن ولمدة عامين ابتداءً من شهر يناير الجاري».
هذا الدور التركي بكل تمايزاته أثار إعجاباً شعبياً عربياً لدرجة قول البعض إن «تركيا هي قلب العروبة النابض»، في إشارة إلى الانتقادات الشعبية للنظام الرسمي العربي وعجزه، لكنه مع ذلك يثير التساؤلات حول دور تركيا الإقليمي في تطورات ما بعد انتهاء هذه الحرب الإجرامية الإسرائيلية ضد قطاع غزة.
أغلب هذه الأسئلة يتعلق بثلاثة محاور أساسية: أولها، محور علاقات تركيا مع إسرائيل، وهل ستحدث مراجعة تركية فعلية لهذه العلاقات باتجاه التراجع أكثر من التقدم أم ستبقى العلاقات كما هي؟ وثانيها، محور علاقات تركيا مع محور الاعتدال العربي الذي يبدو أنه استطاع، أو سيستطيع إنجاز مهمة وقف الحرب من خلال إنجاح المبادرة المصرية التي تشارك تركيا في دعمها وتذليل العقبات أمامها. وثالث هذه المحاور، يتعلق بالعلاقة مع محور الممانعة الذي يضم إيران وسوريا و«حزب الله» وحركات المقاومة الفلسطينية.
ثوابت تركية
أياً كانت الإجابة على هذه التساؤلات، فإنها تبقى ملتزمة بمجموعة من الثوابت التي تشكل المعالم الرئيسية للدور الإقليمي الجديد لتركيا، أولها، الحرص على أن تكون تركيا طرفاً فاعلاً وغير هامشي في شؤون المنطقة وتطوراتها.. فانتفاضة الشارع التركي تجاه فلسطين، ومن كافة الاتجاهات الإسلامية والعلمانية تكشف عن إجماع حول الدفع بتركيا للقيام بهذا الدور ضمن رؤية تقول إنه سيكون دور القوة المنتمية للإقليم وليس دور القوة الخارجية عنه أو الانطلاق فقط من منظور الجوار الإقليمي. وثانيها، الحرص على القيام بدور «الموازن» الإقليمي الذي يلقى القبول من كل الأطراف، ويحرص على عدم التورط في الصراعات والمنافسات البينية بين القوى الإقليمية الرئيسية. لكن سيكون هذا الدور الموازن لتركيا محكوماً بتطلع نحو انتهاج سياسات التهدئة والتعاون وحل الصراعات وليس تأجيجها، ومن ثم سيكون أقرب في محصلة أدائه إلى محور الاعتدال، خصوصاً وأن هذا الدور سيبقى حريصاً على عدم الصدام مع الولايات المتحدة قدر حرصه على استمرار ودعم علاقته مع إسرائيل بشكل يسمح لأنقرة بأن تمارس ضغوطاً عليها وأن تقوم بأدوار وساطة مقبولة.
هذه الرؤية تعكس جوهر نظرية أحمد داود أوغلو المنظر الرئيسي للسياسة الخارجية التركية والمستشار السياسي لرئيس الحكومة رجب طيب أردوغان، فدور الموازن كما تريده تركيا هو دور لملمة كل المواقف والحد من الصراع بينها انطلاقاً من قناعة أوغلو بنظرية «الدومينو»، حيث يرى أن المنطقة تتميز بدرجة عالية من الترابط بين أطرافها، هي أشبه بمجموعة الأحجار المتساندة فيما بينها بحيث أن أي تحرك أو اهتزاز في أي من هذه الأحجار سيحرك حتماً كل الأحجار الأخرى.
هذه الرؤية هي التي دفعت تركيا إلى سرعة التحرك لإنقاذ الموقف لضبط تداعياته من خلال السعي إلى وقف فوري وسريع للحرب، وللحيلولة دون اتساع نطاق الحرب لتشمل أطرافاً أخرى.
أردوغان عبر عن هذه الرؤية بإعلانه أن ما يجري في غزة ستكون له تأثيراته على كل المنطقة، ومن هنا جاء تحذيره في دمشق بأن الأمور قد تصل إلى وضع لا يمكن بعده العودة إلى الوراء.
أما أحمد داود أوغلو فقد عبر عن ترابط تركيا مع دول المنطقة وترابط هذه الدول مع بعضها بقوله: «أفراحنا باتت واحدة، وكذلك أحزاننا، ومن يراهن على غير ذلك فهو لن يكون جزءاً من المنطقة ومن خصائصها وتركيبتها».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى