صفحات ثقافية

سيرة اميلي ديكنسون بالإنكليزية: رصاصة الرحمة على شاعرة الحياة الساكنة الباهتة

null
رلى راشد
لأن الصوت لا يخدع في حين أن الكلمات قادرة على فعل الرياء، تربّعت الشاعرة الاميركية اميلي ديكنسون على مكتبة الشعر بالإنكليزية في القرن التاسع عشر. اكتُشفت غالبية أعمالها ونُشرت في اعقاب غيابها في 1886، لينفلش نص انقبض على نفسه، خارجا من حرفية وتجريبية في حالات كثيرة، منوّعاً النماذج الايقاعية والبنى اللغوية غير الدارجة. واجهت ديكنسون جميع الموضوعات. هامت في وسط الحب والجنس والموت والدين بشغف وقصور في الشعورية على نحو غير مألوف في حقبتها لتصقل صورتها الشعبية سيدة معزولة في حساسيتها، تطل على الخلود من حجرة منزلها.
قبل عام على وفاتها، عاينت ديكنسون السيرة سبيلا يأتينا في المقام الاول بذريعة الفرار من موضوع السيرة عينه. كان هذا اقتناعها ولا يزال الرأي الملحّ يتردد وإن لم يمنع كاتبي السيرة من ملاحقتها. لأكثر من قرن، ادخلت اميلي ديكنسون (1839-1886) ما يشبه النصب المرصود للعباقرة الأميركيين المتوارين. تجذّرت الى حد الارتياب في رسم “شاعرة امهيرست المحطّمة” (مكان ولادتها) وحيك الكثير حول قرار مبارحة منزل والدها خلال القسط الثاني من حياتها. التهمتها نار من نثار الرومنطيقية والمرض والخبل وحالات اخرى متداولة، فغدت المرادف الأكاديمي لمشاهير صحف التابلويد. ذلك ان كثيرين ارّقهم ان يكون ذكاء الصوت الشعري وصرامته وصلابته وفكاهته انبثق من جسد شابة خجلة لم تعرف رجلا.
غير ان لايندال غوردن، كاتبة سيرة ت. اس. اليوت وفيرجينيا وولف وهنري جيمس وسواهم، في كتابها “حيوات كمسدّسات ملقّمة” الصادر عن “دار فيراغو” بالانكليزية، تأخذ بورتريه الشاعرة الى ارض مزروعة بألغام تحريفيّة. يعرض المؤلف الحديث لأسرار آل ديكنسون، لتلك البيئة العنيفة على المستوى العاطفي التي اسدلت خيانة وخصاما صاخبا على عمل الشاعرة.
واجهت لايندال غوردن تحدّي “الأسطورة البيضاء” الفائقة لطبيعة المرء، حتى لتجيء بديكنسون اكثر حياة، بتلك المرأة التي لمّت شعرها الأصهب عند اسفل عنقها بشريط مخملي بنّي، واستقلّت بفكرها وإن ابتعدت من التمرّد السطحي. رفضت التسليم بمعتقدات الأنوثة وفق معايير القرن التاسع عشر لتدوّن في يفاعها “اناجيك ربي ان تنجّني مما يسمّونه البيت الزوجي”. بعد اعوام على وفاة ديكنسون، تركّزت التكهنات في زمن انتفاء الحق في صلات روحية، على طبيعة قربها من صديقة عزيزة ليست سوى زوجة شقيقها، أدّت دور المتلقيّة الأولى لشعرها الى حد صارت ملقّنة غير ملحوظة للكلام حتى. لحسن طالع هذه السيرة، تنجز غوردن دحضا لمعظم الأقاويل البخسة التي حامت حولها، وتؤكد وجود علاقة رومنطيقية وافلاطونية ومثيرة للحماسة في متوسط العمر مع أرمل اراد الارتباط بها وكان أكبر منها سناً. نبذت ديكنسون طلبه، والسبب، وفق غوردن، أن الشاعرة تنسّكت في فكرها الشخصي في بوتقة حيث يصعب للزواج التقليدي ان يجد مطرحه.
تراءى عدم الاكتراث الظاهري العلني لعمل اميلي ديكنسون في حياتها مرضيّا او ربما حمائيا، بيد ان الازدراء عزز ايمانها بذاتها، بدافع من بعض معاصرين اقرّوا بقيمتها. كانت الكاتبة هيلين هانت جاكسون مناصرة الهنود الاميركيين الاصليين، من بين مجموعة اشخاص ارسلت اليهم ديكنسون القصائد، وهي دأبت تقول لها: “انتِ شاعرة عظيمة، ومن المجحف ألاّ تلقي قصائدك امام الجموع. عندما تبلغين مرحلة يسمّيها الناس الموت، ستندمين على انك كنت شحيحة الى هذا الحد”.
والحال، ان الشحّ البادي لم يكن وليد التخاذل والتقاعس، بل كان نتيجة اهمال في النظر فحسب. ذلك ان ديكنسون لطالما كانت سيدة الشعر اللامرئية. قبعت في منزلها في امهيرست في ماساتشوستس حيث ولدت في 1830، لتراوح في اعوام مديدة غرفة نومها. توسّدت مكتبا بحجم طاولة صغيرة لتنتج نحواً من الفي قصيدة لم ينشر سوى عشر منها خلال حياتها، اما الباقي فعُثِر عليه في اعقاب وفاتها في جوارير محكمة الاقفال والكتمان. والحال، ان غوردن تطلق رصاصات الرحمة على ديكنسون كمرادف للحياة الساكنة الباهتة، فتسرد كيف لقّبت نفسها “فيزوفيو في المنزل”، في إشارة الى البركان المطل على خليج نابولي في ايطاليا والذي تسببت حممه في عام 79 للميلاد بتدمير مدينتي بومباي وهيركولانوم. تلك كانت شرارات متفجّرة تفشت في ابياتها.
إنه لإنجاز أيضاً، ان تضيء غوردن على منطقة غامضة في شخصية ادبية بسطوع ديكنسون، عندما تلفت الى السبب الحقيقي خلف تواريها عن الأنظار. تفصح غوردن ان الشاعرة عانت الصرع، في زمن كان هذا المرض مصدر نبذ. وفيما كان يحظَّر على المصابين بهذا الداء، الزواج او انجاب الاولاد، ثمة من يشير ايضا الى حظر الفكرة تماما خوفا من أن تحفّز النشوة الجنسية على النوبات المرضية. كان الصرع ارث عائلة ديكنسون، اشتكى منه ابن شقيقها نيد ايضا، وكما يمكن توقّعه في تلك المرحلة، فقد اتى الداء بالعار على النساء خصوصا.
ربما يختزل تجلّي هذه السيرة الحديثة في استيقافها مرات عدة بصمات حال ديكنسون الصحيّة في قصائدها ورسائلها وفي بعض اكثر ألعابها الشعرية فرادة، والمستحوذة على كل اعجاب. عكّزت تلك التلوينات التركيبية على صور، مصدرها النوبات الصرعية، ناهيك بهالة استشرافية رافقتها منذ وقت مديد. وليس من باب المصادفة ان تكتب ديكنسون: “شعرت بشرخ في ذهني/ وكأن دماغي ينفصم/ حاولتُ ان اجاريه طبقة طبقة/ غير اني عجزت عن جعلها كلها تتسق”.
لحسن الحظ، فإن غوردن لا تفرط في اغراق نظريّتها بأبعاد ادبية. تفترض ان النوبات مدّت الشاعرة بصور واضحة، ولا سيما الاستعارات “البركانية”، لتفجر الوحي الابداعي، غير انها لا تصل الى حد جعل الداء تفسيرا وافيا وكاملا لعبقريّتها. تستنجد غوردن في اكثر من مكان بالتاريخ الأسري ووثائق الوصفات الطبيّة والإشارات الشعرية الى “الموت ليلاً” و”الوشوشات في الدماغ”. وفق غوردن تلك كانت علامات الصرع عند ديكنسون، وشكّلت ايقاعاً من ايقاعات تعسة جعلت معيش الشاعرة في مهبّ الريح. في السيرة ملاءمات واحباط كذلك. ففي حين كانت ديكنسون تعزو اوجاعها الى امر خارج على حياتها، على نسق أزياء تخلعها او ترتديها، فإنها سرعان ما كانت تتصالح مع هذه الأوجاع وتعاملها كـ”سقم وجودي”. نظرا الى التلازم بين الصرع والتجارب الاستشرافية، بدا ان غوردن فكرت في مستلزمات الخلود الشعري عندما أعلنت غبطتها لاستيطان ديكنسون حقبة زمنية لم يتم فيها لجم شطحاتها الدماغية بعلاج طبي.
بعيد وفاة ديكنسون عن خمسة وخمسين عاماً، تفجرت الأقاويل والخبريات المشوّهة، لتتداخل في بلورة مشهد سمعتها اللاحقة. تكشف غوردن كيف صارت تلك الحكايات المتداولة سلاحا فتاكا في حرب داخلية كانت تستعر في كنف اسرة ديكنسون. ليس سرا ان ديكنسون ظلّت أحجية كبيرة، لأن صورة العازبة المغتبطة بالكلمة والبائسة في الحياة ظلت متشبثة في المخيّلة الشعبية. انها المخلوق اللطيف الذي وطئ عمل “جميلة امهيرست” المسرحي في عام 1976. الخفرة والمرتعدة. وهي كذلك نسخة الية معدلة من الشاعرة، في قصة جويس كارول اوتس (2008) “نموذج اي ديكنسون المترف”، وقد ابتكرت بغية تعزية ربّات المنازل السئمات.
وترى غوردون أن ديكنسون شخصية لم تعقها متاهاتها الرؤيوية عن المساهمة في نشاطات دنيوية كإعداد الطعام او الحلوى. نشأت ايميلي في وسط حيث تأقلمت على نحو جيد نسبيا، في حين لم تتأخر الشابة في السخرية من الاعراف فيما كان لسانها سليطا الى درجة أنه شكّل صنوا مثاليا لذهنها الحاد. على مر حياتها الراشدة، حضرت قصائدها التي تعاملت مع شتى الموضوعات، كانت شذرات لخطاب كلامي تفجّر طبقات غير ثابتة من الاستكانة والتمرد.
اقامت ايميلي مع والديها وشقيقتها لافينيا العزباء الأصغر سنا في عقار آل ديكنسون الريفي. عندما تزوج شقيقها الاكبر اوستن من صديقتها سوزان، شيّدا منزلا قبالتهم. كانت العائلتان على تواصل يومي فدأبت اميلي ترسل الى سوزان، او سو “قلبها الثاني”، نسخا من قصائدها. كان ذلك في بيئة جنويّة قبل مجيء الحسناء الشابة الطموحة مايبيل لوميس تود، زوجة استاذ العلوم الجديد في امهيرست كوليدج. أقامت الشابة ابن الاربعة والعشرين عاما علاقة بشقيق ايميلي، وسعت في الوقت عينه الى الاستيلاء على جذوة اميلي الشعرية ايضا. استمرت العلاقة خمسة عشر عاما ومزقت عائلة ديكنسون وجعلتها ساحة حرب. رفضت اميلي التأقلم مع وجود مايبيل، المرأة التي ارتادت المنزل قبالتها على نحو يومي تقريبا. اما بالنسبة الى الزائرة المنتظمة مايبيل فكانت ابيات اميلي وفق غوردن “قنابل شعريّة مصغرة”. تفترض كاتبة السيرة ان فكرة “العبقرية” الغامضة الساكنة على بعد امتار من عتبة منزل مايبيل استأثرت بها، فتراءى لها ان مصيرها ان تصبح بدورها كاتمة السر لموهبة ديكنسون المفضلة وقارئتها المختارة. كان طموحها في رأيها ان تغدو “سوزان”، وبغية سلبها هويتها، احتاجت مايبيل الى ازاحتها من طريقها. لكأن لايدي ماكبيث دخلت رواية “بايتون بلايس”.
مشكلة سيرة “حيوات كمسدّسات ملقّمة”، في ان اميلي ماتت في منتصف الطريق الى خاتمتها وبدأت تشحب في الذاكرة حتى صارت ادنى الشخصيات تراجيدية. اما المرأة التي تسبغ الحياة المركبة بأكثر الانماط حيوية، فمايبيل لوميس تود. غير ان هذا لا ينفي ان تأتي هذه القصة الملقمة رصاصا بأشد مختارات الكتاب استحواذا، برواية عن سيدتين متصارعتين على الموت الورقي وعلى حقوق الملكية الفكرية والحقيقة في شأن الشعر.
لم يكن مسوّغ استعادة ديكنسون في الماضي ادبيا وانما سلوكيا. ووجهت الاثواب البيض ورفض مغادرة المنزل بالاستخدام اللااصطلاحي لعلامات الوقف والخطوط اللولبية والصور المركزة والايقاع الموارب. منعت المرويات القراء من لقاء شعر ديكنسون المثير للتحدي والحماسة. علما انه وفي حال ارادت اميلي ديكنسون صاحبة الشعر المبعثر في مكتبات مختلفة في هارفرد ويال وامهيرست، ان تجعل نفسها استعراضا، لجالت منفردة تعرّف عن نفسها كسلعة للبهرجة، وتجلس في حضن اكاديمي لا يتمتع بالمواصفات الدنيا، كما تخيّل جيروم تشارين في روايته الجسورة عن اميلي. ندرك جميعا انها اختارت مشهدية من صنف مختلف، اكثر انطوائية واقل نفاقا لكتابة قصائد لم تقصر في الألق والازعاج.
لاقت ايميلي ديكنسون الحب والابتهال الروحي والازلية بأنماطها الخاصة. بقيت رواية “الجبال العاصفة” لاميلي برونتي نموذجها، غير ان ديكنسون، وعلى نقيض العاشقين الفوضويين في تلك المرتفعات، كانت نموذجا لمبادئ محددة موافقة لطبقة نيوانغلند العليا واخلاقيات امرسون للاتكال على الذات، وقد تكمّشت برجاحة عقلها واحتمت بها تجاه اي قدرة تدميرية كانت لتستأثر بها. دلّلت مرات عدة على سرّ في “وجودها”، كان شعرها بالدرجة الاولى بلا ريب. يمكن النظر الى ديكنسون بمقاربة نيوانغلند الفردية. كانت اكثر غرابة واقل ودّا من الندرة الانكليزية واكثر اثارة للخشية ايضا، حكتها بنفسها عندما قالت “كانت حياتي لكأنها مسدس ملقم”.

مقتطف: رســــالــة الـى مــســــــــاهــم شـــــــاب
شكّل مطلع 1860 احدى اكثر مراحل كتابة اميلي ديكنسون الشعرية خصوبة، حيث بانت صلتها المثيرة للاهتمام بمسيرة التحرر النسائي، من طريق توماس وينتويرث هيغينسون، الذي كان من الشخصيات المحورية في التاريخ الاميركي بسبب دعمه لإلغاء العبودية ومنح النساء الحق في الانتخاب. عُرف في مدونات التاريخ كقائد للواء الجيوش السود خلال الحرب الاهلية الاميركية، وبنتيجة هذا الانجاز استخدم لقب “كولونيل” هيغينسون في خواتم حياته. كان جزءا من النهضة الادبية الاميركية التي عرفت بإسم التيار المتسامي. في 1862 اصدر في “المجلة الاطلسية” ملاحظة مقتضبة بعنوان “رسالة الى مساهم شاب” حيث دعا “شابات وشباناً” الى ارسال اعمالهم المكتوبة، مضيفا: “يتوق كل ناشر ويتعطش لاكتشاف المواهب البازغة”. بعيد وفاة ديكنسون روى في المجلة عينها قصة الرسالة التي تلقاها من ديكنسون في نيسان 1862. في ذاك اليوم مر بمكتب البريد حيث جلب رسالة موجهة اليه، فتح المغلف لتطالعه “كتابة ذات خاصية مميزة، فتراءى له كأن مرسلتها تلقّت دروسها الاولى من خلال دراسة متحجرات الطيور الشهيرة في متحف المدينة”. بدأت الرسالة بالكلمات الآتية: “هل انت منهمك في العمل الى درجة عجزك عن اخباري ما اذا كانت ابياتي الشعرية حية؟”.
من طريق هذه الرسالة بدأ تبادل رسائل طويل الامد بين ديكنسون وهيغينسون. خلال صداقتهما المديدة والخاصة، ذلك انهما لم يلتقيا سوى مرة او اثنتين، حثّها هيغينسون على الإحجام عن نشر قصائدها. وفي حين لا يبرر موقفه على نحو جلي، يتراءى على الارجح انه استشرف ان قصائدها ستعدّ غريبة عن المسار الشعري العام. استنتج كذلك من تلقاء نفسه انها لن تنفتح على تعديلات ظنّها ملحّة لجعل نصوصها مقبولة. لحسن طالع التاريخ الأدبي، لم تنته القصة عند هذا التفصيل. في ما يأتي مطلع من “رسالة الى مساهم شاب” مذيّلة بتاريخ نيسان 1862:
“عزيزي الشاب او الشابة، ذلك ان عددا كبيرا منكم يوقّع مخطوطاته المرسلة بأسماء ذكورية الى اقصى حدّ وبخطّ انثوي الى اقصى حدّ، سيكون من غير الملائم الاّ اردّ على رسائلكم الملحّة من طريق اجابة مفيدة.
اتوقع الاّ يقوم الكاتب بقياس قيمة المجلة وفق التقدير الذي تعطيه لمخطوطه. من المجدي في الاقل الاشارة الى انه ازاء كل مساهمة، تتشابه مواطن اهتمام الناشر والكاتب الحقيقية، وان اي خصام محتمل ليس سوى من باب التقليد، كالعداء المفترض بين فرنسا وانكلترا، وبين انكلترا والعبودية. ليس في وسع اي ناشر ان يتحمل كلفة نبذ نص جيد، كما ليس في وسع اي كاتب نشر نص سيئ. تكمن الصعوبة الوحيدة في رسم خط واضح. تُرسَل الينا دوما مخطوطات تبدو جيدة او سيئة من الوهلة الاولى، ولن يكون ثمة صعوبة كبيرة في تمييزها. اما الارباك فمصدره المروحة الواسعة من النصوص المتوسطة. ان معظم النصوص اكثر سوءا من مستوى منحها البركة، او اكثر جودة من مستوى حظرها، الى درجة ان ليس ثمة سبب منطقي لتبرير احد المصيرين، ناهيك بأن قدر الوف النصوص منوط بقدر نصوص مماثلة. غير انه عند تحديد المعايير، من مصلحة جميع المعنيين ان تطبَّق بالتساوي ومن دون مساومات.
ليس ثمة اساس البتة لأفكار مسبقة مفترضة مناهضة للمتعاونين الجدد او الغامضين. على العكس، يتوق كل ناشر، بل ويتعطش للقاء نصوص جديدة. ان اخذ المبادرة في تقديم عبقرية حديثة ساحرة، امتياز يشبه ما احس به الطبيب الذي قصد السر هنري هالفورد ليتباهى امامه انه اكتشف الكوليرا الاسيوية قبل ان يعرف الجمهور بذلك. ثمة حاجة تفرض على المجلة العودة دائماً الى المتعاونين القدامى، في حين تم قياس اثر منتجهم في السابق. يشبه الامر ما يفعله كل بلد او راع مضطر الى ان يضع سنويا لائحة جديدة من المحاضرات، فينتهي به الامر بالإقدام على فعل لا تتجاوز جسارته ابدال بيتشر وتشابين اللذين حاضرا العام المنصرم بتشابين وبيتشر. لا شك في ان لا وجود لناشر معصوم من الخطأ، وان افضل المجلات تتضمن بين حين وآخر مقالا ركيكا. لا تلوموا الناشر. يدرك الحقيقة مثلكم تماما. بعد وقوع الامر، يبدأ العاملون بإمراره في ما بينهم ويحضرون لكيل المديح المعتاد المخصص لكل مساهم وفريق المجلة. لا ريب أن هناك شخصا مسؤولا يتأمّل النص في متناوله ويتذمر في شأنه في تلك الاثناء خلال الدوامات الليلية. لكن هل تتوقعون منه الاعتراف بالخطأ، عندما تواجهونه به؟ ابدا، يتقبل الأمر بورع لافت. ينتصب مشددا على حسنات النص موضوع النقد، وكأنه سيدة تؤازر ابنها المشوّه، في حين ترجو الله في قرارة نفسها ألاّ تلد طفلا بعاهة مماثلة في المستقبل. لكن تأكدوا ان تذكير الناشر بهذه الكارثة، لن يثينه عن المجازفة بتكرارها.
ان الناشر انسان، ويكفي تذكر هذا الواقع، عندما تدنو منه. ليس طاغية على ظلامية، وانما سيد فاضل وضعيف وقلق الى حد الهوس، يريد تأمين اكبر عدد من المشتركين والمساهمين. لهذا السبب تقرّبوا منه بدماثة كبيرة واقناع هادئ. لا تعاملوه كما الخصم، اصرّوا على قراءة مخطوطكم بصوت عال امامه، مستخدمين الحركات الملائمة. ثمة قيمة لوقته، في حال لم يكن لوقتكم قيمة. درّب الناشر عينيه على تأمل الاشياء الى حد صارتا كالمجهر، وكأنه عالم طبيعي يمكنه تصنيف تسعة نماذج من بين عشرة، من طريق نظرة خاطفة واحدة الى الحجم او الريش. انتم تكتبون للعين العادية، ومن المفترض ان تنصاعوا لحكمها. لا تهتموا للضوء الموجّه على نصكم، ان ضوء الساحة العامة هو ما ينبغي له ان يمتحن قيمة نصكم.
لا تحتقروا اي محاولة مصالحة شريفة خلال التعامل مع ناشركم، ايا تكن ضآلتها. انظروا الى الجانب المادي من مخطوطكم، وحضِّروا صفحاتكم على نحو دقيق لكي تفتن، عوضا من ان تثير النفور. استخدموا اقلاما جيدة وحبرا اسود واوراقا بيضا من النوع الفاخر. مع مر الوقت والخبرة، تصير عين الناشر حسية الى ابعد درجة، وتنجذب بسهولة الى الشكل الخارجي الحسن. في حال اردتم ان تنالوا رضاه عن انتاجكم، فلا ترهقوا وقته من خلال اجباره على فك شيفرة نصكم. بالمنطق عينه، ارسلوا النص في هيئة لا تستلزم ادنى مراجعة ادبية قبل مرحلة النشر. ثمة نصوص عدة جيدة تتعرض للنبذ في حين كان يمكن ان تصير مناسبة بمجرد العمل عليها من طريق اكاديمي قادر يكبّ على جعل هيئتها اكثر وضوحا واقل خشونة واكثر تناسقا.
ان مراجعة النص مسألة تحتمل التوقف عندها. يشير الاسلوب الجيد الى بعض القدرات الطبيعية في الفرد، في حين ان الاسلوب غير الاستثنائي بالكاد هو مسألة ثقافة. وضع الدكتور تشانينغ في نيوانغلند معيارا للاسلوب وصل الى حدود المطالبة بمثالية النقاء والتلوينات. كانت القيمة التنظيمية لهذا المعيار الادبي في امّة فطرية عظيمة. غير ان عيب هذا المعيار انه يتخلى في المحصلة عن كل التقاليد العظيمة السائدة في المجال الادبي والى نكران غموض الكلمات. من الممكن ان تكون اللغة مهذبة ومفتقرة الى القدرة في ذاتها، وقد تواجه معوقات في التعبير بسبب الافكار الكبرى المؤتمنة عليها، ومن الممكن ان تصير متخمة بحيوية الحياة والتزاوج الرائع الذي جعل كل جملة ترتجف مفتتنة بالوقفات الصوتية. وكما يقول رشكين في ما يخص الرسم، يجري ادعاء الخلود في مثالية الخط اللحظوي ودقته. على هذا النحو يمكن ان نفهم ان في وسع جملة واحدة ان تطغى على مكتبة برمتها. ثمة جمل تصير قصورا جاهزة ليتم الحفر في داخلها، تصير منازل تحوي كنوزا جاهزة ليتم التنقيب في كنفها. ربما تكون كلمة واحدة نافذة يمكن عبرها الاطلال على كل ممالك الارض ومجدها كذلك. احيانا في امكان كلمة واحدة ان تبوح بما عجزت عنه المجلدات المتراكمة. ربما نجد سنوات من الشغف المتراكم في كلمة واحدة ونصف حياة في جملة.
هذه عظمة الفن الذين تسعون الى ممارسته، في وسعكم على الاقل اخذ الوقت لتأملها قبل اقدامكم على تلطيخها. تحرروا خصوصا من فكرة الحصول على اناقة في الاسلوب من طريق الكتابة المهرولة. يمكن العجالة ان تجعلكم غير ابهين غير انها لن تجعلكم يوما مؤسلبين. اتأمل افكاري المحدودة ومسار بزوغها وكم يتطلّب مني ترابطها وقتا. ان عملية قطع ثلة من الكلمات، وجمعها، لممتعة ومديدة ومركبة. هل تدرك ايها المتدرب كيف اعتاد بلزاك الكتابة؟ من المجدي تسجيل المسار المفضي بكم الى اسلوب ناجح. خلال عمله على انجاز كتاب جديد، صرف بلزاك بداية اسابيع عدة يمسح الحياة اليومية بحثا عنه، كان يطارده في شوارع باريس ليل نهار، وهو يدوّن ملاحظاته على دفتر صغير. عند حصوله على مواده، اغلق على نفسه في منزله الى حين انهاء الكتاب واحيانا لشهرين كاملين. انعزل تماما عن الجميع باستثناء ناشره. كان يخرج من كهفه شاحبا وهزيلا، وهو يحمل مخطوطا كاملا في يده، ليس مكتوبا فحسب وانما مخطوط اعاد صوغه. كانت النسخة الأصلية في حوزته حيث بانت كل التعديلات والملاحظات في الهوامش.
ر. ر.

بقلم توماس وينتويرث هيغينسون
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى