تفكير ألبيـر كامـو
كارلوس فوينتس
ترجمها عن الإسبانية : محمد أحمد بنيس
كان الجيل الذي أنتمي إليه، رجالا ونساء، يقرأ بنهم كاتبين فرنسيين اثنين: ألبير كامو، وجان بول سارتر. فهما، كمعاصرين لبعضهما، كانا يمثلان بالنسبة لكثير منا ” حداثة مضطربة’. لعل كامـو كان أفضل كتابة من سارتر، رغم أن هذا الأخير، قد ترك لنا أعمالا مثل ‘ الغثيـان’، و’ الكلمات’، وسلسلته النقدية حول المواقف، ودراسته الكبيرة حول جان جينيه، هذا إلى جانب أعمال مسرحية، كان أندري مالْـرو يعتبرها مندرجة في إطار ” مسرح الشارع”، وكتب فلسفية عميقة. غير أن كامو، بالمقابل، كتب روايات ذات طابع شفاف مثل (‘ الغريب’، ‘الطاعون’، ‘ السقوط’)، ومسرحيات مثيرة للنقاش،وكتابات نقدية رائعة (أسطورة سيزيف، الإنسان المتمرد). وهي كلها أعمال جعلته يتميز عن سارتر، رغم إدانة هذا الأخير غزوَ السوفييت للمجر، والستالينية، في سياق اقتراحه ماركسية ” خاصة” تلائم واقع كل بلد. بالمقابل، عمل كامـو على تطوير فكر معارضٍ لكل ” لاهوت كليـاني”، واعٍ بالعبث الإنساني، وبأشكال التمرد التاريخية، وذلك في أفق الوصول إلى تفكير حول الإرهاب، كموضوع له راهنيته الكبيرة.
كانت علاقة سارتر وكامـو جيدة، خلال الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. غير أن هذه العلاقـة سرعان ما تحولت إلى علاقة صدام خلال الحرب الباردة. وأودُّ أن أؤكـد هنا، أن كامـو، قبل كل شيء، كان صحافيا منغمسا، بشكل كامل، في إعادة بناء أجهزة الرأي العام الفرنسي، بعد نهاية الحرب وتحرير فرنسا من الاحتلال النازي. وباعتباره رئيس تحرير يومية ” الكفاح ” ( الجديرة باسمها)، فقد كان كامـو يرفض اعتبار الصحافة ملاذا للكتاب المضطهدين، والفلاسفة المتحسرين، والأساتذة النادمين.
لم تكن الصحافة منفى؛ كانت مملكة. وفي مملكة الصحافة، فإن الزائل هو الذي يحدد الشرط الإنساني. فقد كانت مخاطر الصحافة، حسب كامـو، هي الخضوع لسلطة المال، والتملق، والابتذال، وتجاهل الحقيقة بذرائع إيديولوجية. وكل ذلك يؤدي إلى احتقار القارئ. بالمقابل، فإن صحافةً حرة، ذكية، خلاقـة، هي التي تحترم الناس الذين تتوجه إليهم. وحينما تفعل ذلك،فإن تلك هي المهنة الأكثر جاذبية. كان ما يثير حفيظة كامـو هو أن يصبح أحد مـا صحافيا ويسيء إلى المهنة. بالطبع، أن تصبح صحافيا، معناه أن يكون لك خصوم. ولكن، أليس ممكنا تجنب هذا في مجتمع، يصبح فيه الخبث والرداءة والكذب أشياء منتظمة؟
كان كامـو قريبا جدا من فائز آخر بجائزة نوبل للآداب،وهو فرنسوا موريـاك، حين صرح هذا الأخير بأن ” الصحافة هي النوع الوحيد الذي يناسبه تعبير الأدب الملتزم”. وقد أضاف موريـاك، بأنه لا يفصل القيمة الأدبية عن الالتزام. بالنسبة لكامـو، فقد كانت الصحافة ثقافـة. وما يحط من قيمة الثقافة يؤدي إلى العبوديـة.
لقد أوردتُ ما سبق للوصول إلى موضوع كان يؤرق كامـو،و يعتبر اليوم في قلب الاهتمام السياسي الوطني والدولي؛ إنه الرعب. وانطلاقا من تطبيقه في السياسة منذ الثورة الفرنسية ما بين عامي 1793 و 1794، فقد كان ألبير كامـو ينظر إلى الرعب باعتباره رابطا للتاريخ. وقد أوضح كامـو بأن الإنسان لم يولد من أجل التاريخ، لكن التاريخ يفرض علينا واجبات لا نستطيع رفضها. وأحد هذه الواجبات هو معارضتنا للذين يعتقدون أنهم يمتلكون، بشكل مطلق، العقل، أي للمتعصبين فكريا، الذين يحاولون فرض هذا العقل باسم الحقيقة. غير أن كامـو كان يتساءل؛أليست الحقيقة غامضة، ومنفلتـة، وتجب استعادتها دائما؟.
إن التفكير الكُليـاني يجيب بـ ‘ لا’. فالحقيقة توجد، وأنا باعتباري ( الكنيسة، الدولـة،الشركة،الحزب) أمتلكها. فمن يعاني منها إذن؟. لا يقرر كامـو الوقوف بجانب الذين يصنعون التاريخ، ولكن بجانب الذين يعانون منه. إن الإرهاب هو طريقة متطرفة في إعطاء الموت وتبريره، وهو ما يؤدي إلى عرس دموي من الرعب والقمع. فباسم العقل، يتخلى الإرهاب عن العقل، ويضع القوة في خدمة الاستعمال السيئ تجاه الآخرين، ويمثل طاقة منحرفة وقاسية. إن الإرهاب يقتل الذي يقوم به، وأيضا الضحية التي تعاني منه. ولذلك فإن كامـو لم يكن يجانب الحقيقة، حين ميز بين الإرهاب الفردي، والإرهاب الإيديولوجي، والديني، وإرهاب الدولة.
ينبهنـا كامو إلى أن هناك توترا مستمرا بين الذي لا يمكن تجنبه، والذي لا يمكن تبريره. فمن الممكن أن تبرر الغايةُ الوسيلة. لكن، من الذي يبرر الغاية نفسها؟. هذه المسألة السياسية الكبرى لم يستطع حلها. فقد طرحها انطلاقا من موقعه ككاتب صحفي، ومفكر، وروائي، ومسرحي. وقد كان في ذلك حائرا، مثل الجميع، بين إرادته في أن يكون أخلاقيا، وبين كل ما يمنعه من أن يصبح كذلك، بين الرغبة في أن يكون سعيدا، واستحالة أن يحظى بسعادة غامرة.
فاز كامـو بجائزة نوبل للآداب في سنة 1957، وهو في الرابعة والأربعين من عمره،كما لو أن أكاديمة ستوكهولم، وهي تعلن فوزه بالجائزة، كانت تتوقع موته القريب. فابتعاده، آنذاك،عما كان سائدا،بشكل أورثوذوكسي، سواء داخل اليمين أو اليسار، أكسبه كل مظاهر الاحترام (فتى الكشافة،أخلاق الصليب الأحمر، الكاتب المثالي،القديس بدون إله، خبير تضميد الجراح.) ولم يتوان سارتر عن تأكيد أنّ: ‘كامـو يكتب بشكل رائع” .
كان كامـو يجيب بأن العدالة لن تتحقق ما دمنا نحكم على أجيال كثيرة بالظلم. فهناك، في نفس الوقت، الجمال والمضطهدون؛ كيف يمكن إذن أن نكون أوفياء لكليهما؟. فلا يبدو جيدا اعتبارالخضوع ثمنا لراحة البال. إن المجد هو موت مبكر، لأنه يُنكر المستقبل والحق الذي نملكه، جميعا، في التغيير. فلا يهم مقدار الزمن الذي تخصصه لنا الحياة، بقدر ما يهم كيف نستثمر هذا الزمن. نحن لا نستطيع الانفصال عن التاريخ، لكننا نستطيع مواجهته بشكل نقدي.
أثار موقف كامو من موطنه الأصلي ” الجزائر”، الكثير من النقاش. فقد هوجم هجوما شديدا لقوله بأن الجزائر ليست فقط بلدا مسلما،بل أكد على ضرورة عدم الاستسلام أمام المتعصبين. وفي نهاية الأمر، كان ضروريا، بالنسبة للجزائريين والفرنسيين، العيش معا بسلام، أو الموت معا في الحرب، تأكيدا من كامـو، على وحدة الشعبين في السراء والضراء.
إن تجاوز التاريخ المليء بالبدائل، يفرض طرح نفس السؤال على الإسرائيليين والفلسطينيين، ما دامت فرص التعايش، والتفاهم، والتخلي عن الكراهية والعنف هي خيارات ثابتة للتاريخ. وهذا الأخير،كما أكد لنا كامـو، هو التوتـر بين الذي لا يمكن تجنبه، والذي لا يمكن استبداله.
ـ نقلا عن صحيفة إلْبـاييس الإسبانية: عدد 20 شباط/فبراير 2010.
‘ كارلوس فوينتس: كاتب وروائي مكسيكي بارز، من مواليد 1928. أصدر العديد من الأعمال التي تتوزع بين الرواية والقصة والمسرح والفكر. منها : ‘ الأيام المعلقة’ ( قصص) ‘ موت أرتيميو كروث’ ( رواية)، ‘ نشيد العميان’ ( قصص)، ‘ غرينغو العجوز’ ( رواية)، ‘ الحملة’ ( رواية)، ‘ آدم في عدن’ ( رواية)، ‘ المرآة’ ( مسرحية)، ‘ الشموس الخمس للمكسيك’ ( مقالات)، ‘ ضد بوش’ (مقالات).
” محمد أحمد بنيس: شاعر وكاتب من المغرب.
القدس العربي