إدوارد سعيد: وفكرة فلسطين وفضاء أمريكا الشرس
يحيى بن الوليد
تشكّل جبهة ‘نقد الاستشراق’ إحدى جبهات الأكاديمي الأمريكي والمفكر الفلسطيني الأبرز والأشهر إدوارد سعيد الذي انفرد بأسلوب تحليلي اعتراضي وجدالي نادر في سياق ‘مخاطبة الغرب’ وانتقاد سردياته الكبرى التي تتقدّمها سردية ‘الإمبريالية’ التي لا تزال تتواصل بأشكال ‘كلاسيكية’. وهي الجبهة التي كانت وراء تكريس ريادة إدوارد سعيد في مجال نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي، بل ووراء تدشينه لحقل هذه النظرية في امتداداتها المثيرة على مدار العالم ككل، وخصوصا في الهند. غير أنه لا ينبغي أن نشدّد فقط، وضمن هذه الجبهة الأخيرة، على كتابي سعيد الشهيرين: ‘الاستشراق’ (1978) و’الثقافة الإمبريالية’ (1993). فثمة دراسات أخرى صدرت ما بين 1978 و1993، وتندرج بدورها ضمن ‘نقد الاستشراق’ ، مثل ‘مسألة فلسطين’ (1979) و’تغطية الإسلام’ (1981) و’ما بعد السماء الأخيرة: حيوات فلسطينية’ (1986). هذا وإن كان الكتاب الأول والثاني، ومقارنة مع ‘الاستشراق، ‘أضيق تركيزا وأوثق صلة بالسياسة’… في حين أن الكتاب الثالث ‘مقالة وجدانية’ حول الهوية الفلسطينية، تضمنت عناصر قوية من السيرة، وصاحبتها صور فوتوغرافية دالة لجان موهر. فمن الجلي، إذا، أن ‘الاستشراق’، وعلى أهميته، يظل الجزء الأول ضمن هذه الثلاثية أو الرباعية التي كرسها سعيد لدراسة ‘الاستشراق’.
وقد طرح إدوارد سعيد، في ‘مسألة فلسطين’، وهو الموضوع الذي يهمّنا هنا، فكرة ‘الضحية’: ‘فلسطين ضحية’… هذا بالإضافة إلى أن ما فعله الفلسطينيون بالإسرائيليين لا يمكن مقارنته البتة بما فعله الإسرائيليون بالفلسطينيين. على أن الأهم، في الكتاب، هو مسألة ‘الصراع الثقافي الكبير’، حول ‘الحكاية’ و’السرد’ وحول ‘الحق في الحياة’، التي تندرج في صميم نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي. ولا بأس من التذكير، هنا، بمقال سعيد حول ‘السماح أو الترخيص بالسرد’ (1984) الذي أعاد نشره في كتابه ‘سياسات التجريد’ (1994). وكما يلخص سعيد فـ’التاريخ الفلسطيني ممنوع، والسرديات نادرة’. وأما ‘قصة الأصل’، بمعنى البيت والوطن، فتظل هي الأخرى مطموسة، وعندما تظهر تكون متشظية ومنقسمة ومبعثرة. إجمالا فالحياة الفلسطينية منمطة ومختزلة ومجردة من ‘صفاتها الإنسانية’.
فالتأويل الصهيوني، وحتى نلتزم بمفاهيم نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي، يقوم بـ’استبعاد’ الحضور الفلسطيني عن دائرة ‘الخطاب’، وكل ذلك قبل أن يجهز عليه عسكريا في الحرب. ومن ثم منشأ ‘فكرة فلسطين’ التي لا يمكن الوصول إليها إلا عبر تحليل هذا الخطاب ووضعه في إطاره التاريخي الخاص، وكل ذلك في المنظور الذي يفضي بالفلسطينيين إلى صوغ ‘خطابهم النقيض’ الذي يضمن لهم حق ‘بناء وطنهم’ وحق الحفاظ على ‘هويتهم’ و’ذاكرتهم’. وكما يلخص الروائي والكاتب إلياس خوري، فـي قراءة ‘سؤال النكبة بين الحاضر والتأويل ــ إدوار سعيد و(مسألة فلسطين)’ لكتاب ‘مسألة فلسطين’، ففكرة فلسطين هي محور كتاب إدوار سعيد… رغم أن الكتاب لم يحلل أسباب النكبة، بل قرأها كجزء من تاريخ الغزو الكولونيالي أو كنقطة بارزة في ‘خريطة الألم الإنساني’ كما وصفها إلياس خوري نفسه في مقال آخر حول إدوارد سعيد.
على أن ما سلف لا يحول دون التأكيد على أن فكرة فلسطين أصبحت بفضل إدوارد سعيد ‘رواية هامة في العالم’ كما قال محمد شاهين في كتابه ‘إدوار سعيد رواية للأجيال’ (2005)، هذا بالإضافة إلى أن سعيد نفسه ‘رواية عظيمة جميلة’ ستعظم أكثر مع مرور الأيام كما يضيف صاحب الكتاب. فالمقاومة يمكنها أن تتأسس أيضا، وبشكل لا يقل أهمية عن ‘المقاومة المباشرة’، على جبهة ‘السرد’.
فالقضية الفلسطينية، أو ‘القضية المعيار’ على حد تعبيره في ‘تأملات في المنفى’ (ص41)، هي التي ردّته إلى ‘أمته’ وجعلته يلتفت إلى حال العرب بعامة، بل ويتغير جذريا. ‘لم أعد الإنسان ذاته بعد 1967. فقد دفعتني صدمة الحرب إلى نقطة البداية، إلى الصراع على فلسطين. فدخلت إلى المشهد الشرق أوسطي المتحول حديثا بوصفي جزءا من الحركة الوطنية الفلسطينية…’ (‘خارج المكان’، ص356). وكل ذلك في المنظور الذي أفضى به إلى التشديد على ‘السرد’ الذي هو قرين الحصول علي فضاء نقدي وفكري يمكّن الفلسطيني من إعادة ‘سرد الحكاية الفلسطينية’، بل و’تكرارها’، ومن ‘وجهة نظر الضحايا’، وفي إطار من البحث عن ‘تاريخ بديل’. وقد كانت هذه القضية، التي ندب نفسه، و’طوعا’، للدفاع عنها، وراء ‘تفرد’ إدوارد سعيد ووراء ‘خطابه المؤثر’ في العالم. بل لقد كان لها تأثير أعمق في منجزه أو مشروعه الذي جلب له بعضا من ‘التضامن’ على الرغم من ‘العداء’ الذي ناصبه له الكثيرون.
لقد كان ‘رجلا واحدا’، لكنه كان ‘جهازا إعلاميا ثقافيا’ مؤثرا على مستوى التوعية بـ’البعد السياسي’ لـ’المسألة الفلسطينية’ في الغرب وعلى مقربة من ‘اليهود’ وسواء في ‘الجامعة’ (كولومبيا) التي درّس فيها أو في نيويورك التي تستوعبها كما تستوعب أهم تجمع منظَّم لليهود في العالم. وعلى مستوى الوعي بأهمية الذاكرة، والارتقاء بها إلى مصاف الرد على محاولات ‘المحو’ و’الإزاحة’، فـ’قد وضع فلسطين في قلب العالم، ووضع العالم في قلب فلسطين’ و’بدا حضوره انحيازا وتدخلا إلهيا لشعب فلسطين الذي وجد فيه سببا للتباهي’ كما قال عنه صديقه الراحل الشاعر الفلسطيني الأبرز محمود درويش. وفي السياق نفسه، أو من قبل، قال عنه صديقه الناقد الإنجليزي (أو ‘الصديق الرائع والناقد العظيم’ كما وصفه سعيد نفسه) رايموند وليامز (1921 ــ 1988) ‘إنه لا يعرف فردا استطاع بمفرده أن يثبت قضية أمته وشعبه على خريطة العالم إلى الأبد من غير إدوارد سعيد، إنه هبة الحق في كل مكان’. فلسطين التي ليست بـ’الاسم الحيادي على الإطلاق’ كما يقول إدوارد سعيد في ‘القلم والسيف’ (ص23).
ويمكن أن نختم، في هذه النقطة، بأن صاحب ‘الاستشراق’، وكما كان يأخذ عليه بعض منتقديه من العرب، كان نموذج ‘الفلسطيني المنفي’ (أو ‘فلسطينيي الخارج’ لا ‘الداخل’) الذي لم يجرب العيش في ‘المخيم’ ولا حموضة اليومي في هذا الأخير… كان يسكن مانهاتن، ويحب البدلات من كبار محلات المصممين، بل كان ‘يختار بذلته بأناقة ديك’ كما قال محمود درويش في قصيدة ‘طباق’ التي نعاه بها. غير أن هذا ‘الاختيار’، على المستوى المسلكي، لم يبعده، على المستوى النظري الذي لا يقل خطورة، عن دائرة ‘الالتزام’ بـ’قضيته’ كفلسطيني وكمثقف منفي في العالم. هذا بالإضافة إلى أنه ‘كان يمتلك قدرة مدهشة على التقاط الأنين الآتي من هناك’ [من فلسطين] كما قال عنه رائف زريق. والأكثر من ذلك نجح في نقل ‘الرسالة’ الصعبة وغير المحببة عن فلسطين داخل المجال الأمريكي العام كما يصف رشيد الخالدي في مقاله ‘إدوار سعيد والمجال الأمريكي’ المتضمن في الكتاب الجماعي ‘الحق يخاطب القوة: إدوارد سعيد وعمل الناقد’ (ص204). ذلك المجال الذي تبدو فيه ‘العنصرية’ ضد العرب مقبولة، والذي يصعب فيه العثور على يهودي لا يتماهى مع إسرائيل؛ المجال الذي يرادف فيه الفلسطيني، ومنذ مفتتح السبعينيات، ‘الإرهابي’… إلخ. لقد كان بإمكانه أن يرتبط بقضية المرأة والأقليات… وغيرها من قضايا ‘الحداثة’ و’ما بعد الحداثة’ التي تبدو ‘مقبولة ومحبذة’ في أمريكا كما تصف تلميذته الناقدة فريال جبوري غزول.
غير أن ‘مواجهة’ إسرائيل، وعلى أرض أمريكا، لا ينبغي أن تتخذ ‘بعدا سياسيا’ فقط؛ وهنا تكمن خطورة التحليل الموازية أو المضاعفة عند إدوارد سعيد. وفي هذا الصدد يمكن أن نشير إلى كتاب ‘القضية الفلسطينية والمجتمع الأميركي’ الذي هو في الأصل محاضرة كان إدوارد سعيد قد ألقاها في مؤسسة الدراسات الفلسطينية في شهري تموز وآب (يوليو وأغسطس) من عام 1979. وفي الحق لا يزال هذا الكتاب، ومقارنة مع ‘مسألة فلسطين’ (1979)، مهمّشا ومنسيا مع أنه يقف على ‘نظام التمثيل’ الذي بموجبه تتم ‘قولبة’ الفلسطيني داخل الفضاء الأمريكي. وأهم ما يلفت إليه الكتاب هو ‘المجتمع المدني’ الذي لا ينفصل عن ‘المجتمع السياسي’ داخل الفضاء نفسه. وأخطر ما في الأمر أن المجتمع الأول، ويتألف من المؤسسات الثقافة والجامعية والدينية، يلعب دوراً بارزاً في توجيه السياسة الأمريكية. وقوة الصهيونية كـ’إيديولوجيا’ (عنصرية) ترتكز على هذا المجتمع، أكثر مما ترتكز على المجتمع السياسي الذي هو في متناولها. ويخلص إلى أن المجتمع المدني، لا السياسي، هو الذي ينبغي أن يكون هدفا للنشاط الإعلامي للنضال الفلسطيني. وحتى نختم، في هذه النقطة، لا ينبغي أن نرى في الولايات المتحدة إلا ‘قوة صهيونية وحسب’ كما يأخذ على أبناء جيله من الفلسطينيين (‘خارج المكان’، ص182)؛ ومن دون شك داخل المنفى الأمريكي. غير أن الإقبال على هذا الصنف من ‘الاختيار’ أشبه بالإقبال على ‘الألغام’، ولا سيما داخل أمريكا أو بالأحرى ‘أمريكا الأخرى’ التي خلّف بخصوصها إدوارد سعيد مقالا تحت العنوان نفسه (وهو منشور في ‘لوموند ديبلوماتيك، مارس 2003).
قلنا إن القضية الفلسطينية، وخصوصا حرب هزيمة العام السابع والستين، والتي، وللمناسبة، وكما يتصور كثيرون، لا تزال تداعياتها متواصلة حتى الآن، هي التي ستغير عالم إدوارد سعيد الداخلي وبالقدر نفسه ستجعله يلتفت إلى ما يحدث، سياسيا، في العالم العربي، وبالتالي ينخرط، وبجسده أيضا، في الكتابة عن الموضوع… لكن من ‘منظور نقدي’، و’تجريحي’ في أحيان، كما لا ينبغي أن نتغافل عن ذلك. والمؤكد أن هذا المنظور النقدي هو الذي جعل دور نشر عربية تتراجع عن نشر الترجمة العربية لكتاب ‘القضية’ أو ‘المسألة فلسطين’ (1979)؛ وقد كان بإمكان الكتاب أن يجد طريقه إلى النشر، غير أن إدوارد سعيد أصر على عدم ‘حذف’ أو ‘تعديل’ المقاطع ‘الخلافية’. ولا داعي لكي نستعيد، هنا، نقده، اللاحق، و’الأعنف’ كذلك، لمنظمة التحرير الفلسطينية، وسلطة عرفات بخاصة، الذي تجاوز نعتها بـ’الفاسدة’ وتشبيهها بـ’حكومة فيشي’، نحو ربط بـ’المافيا’. هذا بالإضافة إلى ما سجله على الموقعين على ‘اتفاقيات السلام’، أو ‘الاستسلام’ كما نعته، مع الخصم الإسرائيلي، من عدم تمكّنهم من اللغة الإنجليزية. ولم يكن غريبا أن يرد عليه أحد رموز هذه السلطة، ومن ‘حفنة البيروقراطيين السمان الذين يلوكون السجار في أفواههم’ كما وصفهم سعيد في مقال ناري نشر في ‘مجلة اليسار الجديد’ (2001)، قائلا: ‘على ‘سعيد’ أن يقصر اهتمامه على النقد الأدبي’ و’في نهاية الأمر عرفات لن يمكنه مناقشة أمور تتعلق بشكسبير’. بل بلغ الأمر بهذه السلطة حد منع تداول كتبه في فلسطين (غزة والضفة العربية) مواصلة بذلك معزوفة منعها في الأراضي المستعمرة منذ 1967. فقد هجر موقعه في المؤتمر الوطني الفلسطيني أو قدم استقالته من المجلس الوطني الفلسطيني في دورته التي انعقدت في الجزائر العام 1991، وعارض منذ البداية اتفاقيات أوسلو للعام 1993، وقطع مع الزعيم ياسر عرفات وطالب علانية منذ 1994 باستقالته؛ وكل ذلك بعد أن أمضى، وعضوا مستقلا، بالمجلس الفلسطيني، مدة أربعة عشر عاما (1977 ــ 1991)، وبعد أن شارك في صياغة إعلان قيام دولة فلسطين الذي صدر بتاريخ 15/11/1988. ومن قبل كان قد قام بترجمة كلمة الرئيس ياسر عرفات التي ألقاها في اجتماع الجمعية العمومية في الأمم المتحدة عام 1974. ولا بأس من التذكير كذلك برفضه دعوة حضور التوقيع في حديقة ‘البيت الأبيض’ التي سارع نحوها الكثيرون، بل وسخر منها واعتبرها معرض أزياء مثلما اعتبر 13 أيلول (1993) يوما لـ’الحداد القومي الفلسطيني’. وأصدر، في الموضوع نفسه، وعلاوة على المقال السابق، مقالات كثيرة نشرت في كبريات الصحف الأمريكية والعالمية. وقد تمكن القارئ العربي من الاطلاع على الكثير من هذه المقالات في كتاب ‘غزة ــ أريحا: سلام أمريكي’ (1994) الذي قدّم لها محمد حسنين هيكل. وكما قيل عن ياسر عرفات: كان محاطا بعقول فلسطينية مهمة كثيرة؛ وكان ينصت إليها، غير أنه لم يكن يعمل بأفكارها. غير أن هناك من يتصور أن سعيد في موقفه من القيادة الفلسطينية، وحتى من ‘معارضي صدام’، كان يستجيب لـ’صوت المثقف الحالم’ لا تجربة السياسي الذي خبر إكراهات العمل السياسي اليومي.
وقد نال إدوارد سعيد موقعا مرموقا في العالم الغربي، بل وتحول، وهو العارف بتفاصيل الصحافة والإعلام الأمريكيين ومدى صلتهما بصناعة القرار، إلى ناطق باسم الفلسطينيين والعرب عامة في كبريات القنوات الإعلامية الأمريكية. لكن دون أن نتغافل عن المتاعب والمتابعات بل والتهديدات بالقتل التي طالته، ومن جهات سبق لها أن اغتالت رموزا فلسطينية، بسبب من إصراره على هذا النوع من الأداء الذي هو ‘أداء المثقف النقدي’ وداخل فضاء لا يخلو من عداء لكل ما هو عربي، ذلك العداء الذي يتغلغل حتى داخل ‘الثقافة الشعبية’ كما أسلفنا. وفي هذا السياق يمكن أن نشير إلى أليكس عودة (مدير مكتب كاليفورنيا للجنة الأمريكية العربية لمكافحة التمييز) الذي قتل من جراء قنبلة انفجار كانت مربوطة بباب مكتبه في الحادي عشر من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1985 وبعد أن كان قد ظهر في الليلة السابقة على برنامج محلي نفى فيه تورّط ياسر عرفات في قضية [خطف الباخرة] ‘أكيلي لاورو’ (‘السلطة والسياسة والثقافة’، ص98). ولا داعي للتذكير بكليشيه ‘بروفسور الإرهاب’ الذي طال إدوارد سعيد في حياته داخل الولايات المتحدة الأمريكية منذ أن قطع على نفسه الارتماء في قضية فلسطين. وهذا ‘التوصيف’ في الأصل عنوان مقالة ‘هجومية فظيعة’، كما يصف سعيد، نشر صاحبها إدوارد ألكسندر (أمريكي ــ صهيوني، آخر)، وقبل حرب الخليج بفترة وجيزة، في مجلة ‘كومنتري’ (Commentary) الشهرية (الأمريكية اليهودية اليمينية المتطرفة) في غشت/ أغسطس 1989. وكان الهدف منها، وكما يشرح سعيد، استفزازه كي يرفع دعوى تشهير، من شأنها أن تشغله عشرة أعوام، وتمنعه من فعل أي شيء آخر؛ ولذلك لم يرد عليها. ‘لكنك عليك الاستمرار، وهذا هو الأهم’ كما يحسم (ص 250). ولا نظن أن هذا الكليشه سيفارقه في الممات، لأنه من الشخصيات المزعجة سواء في الحياة أو الممات. ومن قبل أحرق مكتبه؛ إضافة إلى أنه كان، ومنذ العام 1971، مراقبا من قبل ‘مكتب التحقيقات الفيديرالي’ (أف بي آي) الذي له تقاليد طويلة في رصد أهمّ المثقّفين الأمريكيين وإزعاجهم.
وثمة هجمة أخرى تعرض لها إدوارد سعيد لاحقا، وكانت ‘مذهلة’ كما قيّمها بعض المهتمين بمنجزه. وقد انطلقت شرارتها الأولى قبل شهر واحد فقط من صدور مذكراته ‘خارج المكان’ في سبتمبر 1999. وقد سعت الحملة، وفي إطار من الصراع على ‘السرد’، إلى التشكيك في ‘مصداقية’ الرواية التي رواها إدوارد سعيد عن طفولته… أو بلغة جامعة: ‘هويته الفلسطينية’. ودون التغافل عن أن فلسطين، وفي إطار ‘جغرافيا الترحال’، لا تشغل إلا ‘جانبا’ ضمن ‘المذكرات’. وقد مهّد للحملة الباحث الإسرائيلي جوستوس ريد فاينر بمقاله (الهجومي) ‘بيتي الجميل القديم واختلاقات أخرى لإدوارد سعيد’ الذي نشر في مجلة ‘كومنتري’ (أيلول 1999)، واقتبس سريعا في مجلات ودوريات أخرى عديدة على رأسها جريدة ‘الديلي تلجراف’ اللندية و’وول ستريت جورنال’ النيويوركية (المعروفتين بانحيازاتهما الإسرائيلية). مما جرف النص، وكاتبه، وقراءه إلى دوامة من ردود الأفعال[…] فإذا بنص ‘خارج المكان’ يجد نفسه هو الآخر، مثل صاحبه، خارج المكان كما قالت سامية محرز في ‘قراءتها التنقيبية’ في ‘خارج المكان.
غير أن دفاع إدوارد سعيد عن الفلسطينيين أبعد عن أي نوع من ‘التعصب القومي’. فالرجل كان ينخرط ضمن تلك ‘المجموعة العلمانية’ التي ضمّت الشاعر محمود درويش والكاتب حسن خضر والبروفيسور أحمد حرب والمحامي رجا شحادة والدكتور حيدر عبد الشافي… وغير ذلك من الأسماء التي يعرض لها فوزي البدوي (وهو بدوره أحد أعضاء المجموعة) في مقاله ‘أرض بلا شعب لشعب بلا أرض’ إسرائيل والصهيونية في فكر إدوارد سعيد (‘المجلة العربية للثقافة’، ص126). وهذه المرجعية العلمانية، الصريحة، هي التي أفضت بإدوارد سعيد إلى التشديد، وفي سياق الصراع العربي الإسرائيلي، على ‘دولة علمانية’ أو ‘دولة ديمقراطية واحدة ثنائية القومية’ (Binational State). فهو لم يكن يؤمن بـ’حل الدولتين’، وإنما بـ’دولة ثنائية القومية’ يعيش فيها الفلسطينيين جنبا إلى جنب الإسرائيليين. وتجدر الإشارة إلى أن هناك من نادى بهذه الدولة من قبل، وسواء من داخل فلسطين أو خارجها، غير أنها مع إدوارد سعيد أخذت منحى آخر بسبب من تأثيره أو انتشاره العالمي الواسع.
وكم تمنينا لو أن إدوارد سعيد، أو بالأحرى إدوارنا، ودون أي نوع من السخرية، كان العمر قد أمهله، حتى أيامنا هاته، ليرى في أمر هذه الدولة؟
ناقد وباحث من المغرب
القدس العربي