قضية إدوارد سعيد
صبحي حديدي
صدرت في باريس، قبل أيام، الترجمة الفرنسية لكتاب الراحل إدوارد سعيد ‘قضية فلسطين’، الذي كانت طبعته الإنكليزية الأولى قد صدرت سنة 1979، وشكّلت إسهام سعيد الأبرز في تصحيح حقائق المسألة الفلسطينية أمام الرأي العام الأمريكي، والقارىء الغربي عموماً. وبصدور هذا المؤلف الرئيسي، تكون دار النشر الفرنسية Actes Sud قد قطعت شوطاً نوعياً على طريق استكمال ترجمة أعمال سعيد، بعد صدور ‘تأملات حول المنفى’ عن الدار ذاتها؛ و’الإستشراق’ و’الثقافة والإمبريالية’ و’خارج المكان’ وسواها، عن دور نشر أخرى.
ولعلّ هذا العمل بالذات هو الذي أطلق صورة سعيد كمدافع أوّل، إذا لم يكن الألمع، عن الحقّ الفلسطيني داخل أشدّ المؤسسات الأكاديمية والإعلامية الأمريكية انحيازاً إلى الدولة العبرية؛ كما صنع ـ بعد ‘الإستشراق’ وإلى جانب ‘تغطية الإسلام’، التتمة الثانية الكبرى لشخصية سعيد الإنشقاقية التي تنحاز إلى الحقّ البسيط والحقّ اليومي والحقّ الثابت، وتُبقي التاريخ نصب الأعين. والأرجح أنّ هذا العمل هو الذي أكسب سعيد لقب ‘بروفيسور الإرهاب’، الذي ‘يريق الحبر دفاعاً عن إراقة الإرهابي الفلسطيني لدماء الأبرياء’.
وفي عام 1989 نشر إدوارد ألكسندر مقالته الشهيرة ‘بروفيسور الإرهاب’ في مجلة ‘كــــومنتري’ الأمريكية، اليمينية الصهيونية المتعاطفة مع الشطر الليكودي من الدولة العبرية، وقال فيه: ‘يجب أن نتذكر على الدوام أنّ إدوارد سعيد ليس فقط مجرد بروفيسور وإيديولوجي، بل هو أيضاً عضو في المجلس الوطني الفلسطيني، والناطق الأبرز باسم منظمة التحرير الفلسطينية في وسائل الإعلام الأمريكية، وواحد من أقرب مستشاري عرفات. مَنْ ينسى الصُوَر التلفزيونية لشهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، والتي تُظهر هذا المثقف وهو يدنو من ملك الإرهاب، ويهمس (مَن يعرف ماذا؟) في أذن سيّده عند اختتام اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر’!
ورغم أنّ سعيد كان من أشدّ المعارضين لاتفاقات أوسلو، وكانت تحليلاته لآثارها المستقبلية المدمّرة بمثابة الكاشف الأحدث عهداً لذلك النوع الدؤوب من الانشقاق الشريف والشجاع والنبيل، فإنّ المؤسسة الصهيونية لم تتوقف عن محاولات تهديم سعيد بالمعنى المادّي الحرفي للكلمة. ولعلّ آخر أشهر الوقائع في هذا الصدد جرت أواسط العام 1999، حين نشرت مجلة ‘كومنتري’ ذاتها مادّة مطوّلة لـ ‘الباحث’ الإسرائيلي جستس رايد فاينر، الذي صرف ثلاث سنوات وهو ينقّب في أرشيف فلسطين أيّام الإنتداب البريطاني، وفي قيود الأحوال المدنية، والصكوك العقارية، وسجلات مدرسة سان جورج في القدس، وسافر لهذا الغرض إلى عواصم عديدة بينها القاهرة وعمّان، لكي يبلغ النتيجة التالية: إدوارد سعيد لم يعش في القدس، ولم ينتسب إلى أيّ من مدارسها، وهو ليس لاجئاً!
وبالطبع، كان مطلوباً من هذا ‘الإكتشاف’ أن يقوّض حكاية سعيد بوصفه ابن المنفى الفلسطيني، وبالتالي فهو لم يعد رمزاً للظلم الإسرائيلي كما كتب ألن فيــــلبس مراســـل ‘الدايلي تلغراف’ في القدس. وأمّا ‘حكايته المؤثّرة’، التي كانت تُروى وتقتبس في الصحف والمجلات وأقنية التلفزة، فينبــغي أن تُطوى اعتــباراً من تـــاريخ ذلك ‘الإكتشاف’. أخيراً، ‘هـــذا الرجــــل الذي حظي بموقع مدلّل اليسار الأمـــريكي طــــيلة زمـــن مديد، لا يمكن أن يستأثر بعد الآن بموقع الرمز الحيّ للشتات الفلسطيني’.
والحال أنّ نفوذ إدوارد سعيد الفكري والأخلاقي لم ينهض، في أيّ يوم، على استثمار حكايته الشخصية، ونهض في المقابل على توظيف عبقري ذكيّ ودؤوب ومبدئي لكلّ ما في القضية الفلسطينية من أبعاد إنسانية وتاريخية وثقافية وجيو ـ سياسية. وفي إحدى صفحات كتابه ‘خارج المكان’، الذي يروي بعض محطات حياته، يكتب سعيد: ‘ما يستولي عليّ الآن هو مقدار الإقتلاع الذي حاقَ بأسرتي وأصدقائي ولم أدرك سوى القليل منه، إذْ كنت في الجوهر شاهداً على العام 1948 دون أن أعرفه (…) أبصر الحزن والفقدان في وجوه وحيوات الناس الذين عرفتهم من قبل، وفي الآن ذاته أعجز عن فهم المأساة التي حلّت بهم’.
والحال أنّ الكثير من آراء سعيد السياسية، فضلاً عن تلك الإيديولوجية والفكرية، التي انطوت عليها فصول كتابه الرائد ‘قضية فلسطين’، سوف تتبلور أكثر، وبعضها سوف يتخذ مسارات مختلفة في قليل أو كثير، على امتداد الأعوام التي أعقبت صدور الكتاب. وكان أمراً حسناً أنّ الترجمة الفرنسية حملت المقدّمة الخاصة، وكذلك التعقيب، اللذين كتبهما سعيد لطبعة 1992، وسعى فيهما إلى ربط الكتاب بما كان العالم يشهده من تطورات فاصلة، على صعيد الولايات المتحدة وإسرائيل والعالم العربي ومنظمة التحرير الفلسطينية ذاتها، وما كان يجري على الأرض بعد عمليات ‘عاصفة الصحراء’ ومؤتمر مدريد، وكيف انعكست تلك المستجدات الجيو ـ سياسية على واقع الشعب الفلسطيني، في الشتات وفي الوطن. صحيح أنّ ظروف ذلك الشعب المعيشية، ثمّ السياسية والوطنـــــية والاجتـــــماعية، كانت تسير من سيئ إلى أسوأ بسبب استمرار الإحتلال الإسرائيلي، لكنّ حسّ المقاومة لدى هذا الشعب ظلّ يتعاظم، وتشبثه بحقّ تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة صار خياراً نهائياً وحاسماً.
وإذا كان صدور الترجمة الفرنسية قد انتظر 21 سنة، فإنّ الكتاب ليس البتة متأخراً عن أزمنة فرنسية ما تزال تتسيدها عشرات التنميطات الخاطئة، أو القاصرة، أو الخبيثة عن سابق قصد، حول الحقّ الفلسطيني وجوهر الصراع.
خاص – صفحات سورية –