أفواه الزمن» لادواردو غاليانو خطوات اللاأحد

عناية جابر

على مدى رواية «أفواه الزمن» لادواردو غاليانو والترجمة لصالح علماني، صادرة عن دار «المدى» يقدم الكاتب، مونولوجاته القصيرة تحت عناوين شتى حول طبيعة الاشياء والشخصيات كما يراها غاليانو. عناوين لموضوعات قصيرة حول الحب والجمال والذات الانسانية والنور والمرجان والقمر والليل.. الخ.
عناوين وموضوعات لا حصر لها تُبدي هوس الكاتب بالجمال، الجمال الداخلي والجمال الخارجي، الجمال المادي والجمال المعنوي، هوس بالجمال يجعل صاحبه يصاب بما يشبه الحمى، فيروح يخوض في جذره عبر أسئلة فلسفية وأدبية يحكمها النظام والتماثل والانسجام، في كتابة ابداعية أغلبها من نتاجات الخيال الأدبي المشتمل على النثر والاعترافات الذاتية، ويصل حد الشعر في مواضيع تعتمد ايقاعها وتكثيفها، كما في «أهل النور».

«كان لكاتالينا كثير من الأصدقاء المرئيين، ولكن لا يمكن حملهم معها. أما غير المرئيين بالمقابل، فكانوا يرافقونها الى كل مكان. هي تقول انهم عشرون. فهي لا تعرف ان تعد أكثر من ذلك. حيثما تذهب، تذهب معهم. تُخرجهم من جيوبها تضعهم على راحة يدها وتتبادل الحديث معهم. وبعد ذلك تقول لهم «تشاو»، الى اللقاء غدا، وتنفخ عليهم باتجاه الشمس. وكان المرئيون ينامون في الضوء».

على غرار نص «أهل النور»، مساحته ودلالاته، يكتب غاليانو نصوصه معتمدا لغة خيالية، صورا، موسيقى، وتضمينات شعرية غير مباشرة، وتعبيرا مكثفا ذا أنماط صوتية وايقاعات، نراها تقترب أكثر ما تقترب في خواصها المميزة، من القصة القصيرة الوثيقة الصلة بالشعر، ثم بالمسرح، ولكنها متميزة عنهما بأنها قص مختصر في شكل نثري.

الفرق بين نصوص غاليانو في «أفواه الزمن» هو ان أحدها يُصيب نجاحا أكثر من سواه في اقترابه من فنية القص الخالص كما في «روح في الهواء» التي تتفوق مثلا على «صفحات الزمن». يتعامل غاليانو في نصوصه مع لحظة أحيانا، او فكرة، او انطباع، او احساس او زاوية من زوايا الحياة ولمحة من لمحاتها. ليست نصوصه من تقديم الواضح وفن المشاهدة والرؤية المباشرتين، بل يتدخل علم النفس أحيانا في نشاط غاليانو الابداعي ليقدم على وجدانية النص، عمليات معرفية وشعورية باطنية، ومن هنا اقترابها من الشعر أحيانا.

أزعم ان كتابا لادواردو غاليانو، لا يُكتب دفعة واحدة، او بتسلسل زمني محسوب، على غرار الروايات او المجموعات الشعرية. بل هو حالات (ابداعية وفلسفية) تُكتب بحسب تجليات قصوى، وفي صورة أولية يعمل عليها الكاتب لتأتي على هيئة أعمال مكتملة، وذلك من طبيعتها التي تستجيب الى الكثير من التنقيح، والمسارات الفرعية الصغيرة التي تخدم فكرة الكاتب في نصه. يقول غاليانو في نصه الأكثر قصرا عن الفقر: «الاحصائيات تقول ان الفقراء كثيرون في العالم، ولكن الفقراء في العالم أكثر بكثير من الكثرة التي يبدون عليها. الباحثة الشابة كاتالينا الفاريث إنسوا أشارت الى وجهة نظر تنفع في تصحيح الحسابات: ـ الفقراء هم من يغلقون أبوابهم ـ قالت. عندما صاغت تعريفها هذا، كانت في الثالثة من العمر. وهي أفضل سن للاطلال على العالم، والرؤية».

يبدو غاليانو في أغلب نصوصه هنا، مثل طائر يهبط الى الأرض بسرعة ليلتقط شيئا لا نراه. على مدى «أفواه الزمن» يلتقط الكاتب صورا نادرة هي في الأصل من حياتنا اليومية، غير انه يعيد تلوينها بقلمه الساحر، فتبدو في صور مدهشة وغريبة كأنها من عالم آخر.

في كتابة غاليانو التأمل، وتحرير القوى الحيوية (الشعورية والعضوية) الخاصة بالغريزة والانفعال والخيال، وكذلك تخلّص او هروب من الأطر المألوفة لكتابة الخبرة الجمالية التي يتمتع بها الرومانتيكيون، مع تشابك الصفات الطفولية المميزة للكاتب التي تمنح كتابته طزاجة وحيوية في الشرط المبكر والأكثر بدائية للجمال والحرية الخاص بالطفولة.

لا تغيب «الأنا» عن نصوص غاليانو في كتابه، سوى انها هنا ثانوية، تابعة لأشياء غامضة، وأقل مرتبة من «اللمحة» المحكي عنها بتدفّق تلقائي لمشاعر قوية. في «الزمن يقول» النص من سطرين اثنين، نجد المعبر الحقيقي الى كافة نصوص غاليانو: «من زمن نحن. نحن أقدام الزمن وأفواهه. وعاجلا او آجلا، مثلما هو معروف، ستمحو رياح الزمن الآثار. عبور اللاشيء، خطوات اللاأحد، أفواه الزمن تروي الرحلة». لكي لا تمحو رياح الزمن الآثار، والأشخاص والأشياء، والخطوات، يكتب غاليانو موثقا كل ما تراه عيناه وما لا تراه، أي ما يُحدسه ويتخيله في رحلة حياته.

«أفواه الزمن» كتابة حداثية وفن لذّي ولا عقلاني الى حد، وكتابة هي نوع من الخبرة في التعبير، يسيطر عليها التأمل والمتعة وتسعى لدى غاليانو الى طمس او إزالة كل أشكال الانفصال بين الذات والموضوع. كتابة تقدم نوعا من النكوص يُشبه ارتداد أنا الكاتب لصالح فكرة ما، عميقة بدرجة كافية لكي تتقدم عن كل ما عداها.