ماذا يريد الحاكم ولماذا يخشى الحرية…؟
ما الذي يجعل الحاكم العربي يخشى الحرية ويعاقب عليها بالسجن أو القتل أو قطع الرزق في أهون الحالات..؟
ثمة ما يخشاه هذا الحاكم العربي لا شك . ثمة ما يخشى انتشاره وذيوع خبره . إنه الظلم ، أو النهب ، أو الخيانة . وكثيراً ما تجتمع هذه المفاسد الثلاثة في الحاكم بقدر – أو بسبب .. – ما يجتمع بين يديه من سلطات الأمر والنهي والقضاء والقدر.! . ألا ما أعجب القدر وأكثر عبثه.
على امتداد العالم العربي وتعدد نظمه نماذج تتكرر لهذا الحاكم الفاسد . وبالرغم من اتساع المعرفة وأدواتها وتواصل العالم وما يثيره الفساد من ردود فعل ، فإن الحاكم العربي لم يَخَفْ وما زال يمارس فساده بالوسائل الحديثة حتى ليُظن بأن هذه الوسائل اختُرعت له أو وُجدت لتمنحه قدرة أكبر على ممارسة الفساد .. والقهر.
ليس الموضوع خاصاً ببلد ، أو قُطْر كما يحلو لبقايا البعث والعروبيين من ذوي الفكر القومي أن يسموا هذا العالم مترامي الأطراف متعدد الأنظمة متسع الجغرافيا عظيم الموارد عظيم الفقر والجهل والتخلف والغيبوبة . إنه صفة ذات شمولية تسقط معها ، الحدود وتتوحد ، الأنظمة . كلنا في الهمّ شرق . كلنا في الفساد عرب يوحِّدنا الفساد والقمع وإن فرّقتنا جغرافيا الأنظمة المقسّمة ، وتختلف نسبة الفساد باختلاف الموارد شُحّاً أو غَدَقاً . نفطاً أو غازاً أو موارد أخرى . حتى أنظمة هذه المزق الجغرافية تقاربت في التسميات . فهنالك ملَكيّات وراثية وجمهوريات وراثية وفساد وراثي . أما القهر وتغييب الحرية فموروث تاريخي يعززه رجال الدين بالفتاوى والقراءة الخاصة للنص وتختلف الوسائل بقدر ما تتفق الأغراض.
ماذا يريد الحاكم العربي..؟
سؤال مطروح للبحث السياسي جوابه طويل طويل .. ومختصر جداً.؟ إنه يريد الحكم بقوانين يتم تفصيل نصوصها على قدر علمه مهما قلّ ، وعقله مهما ضاق ، وحاجاته مهما اتسعت . وبطنه مهما ضَخُم وتَخِم . قوانين تمنحه الحرية في العقوبة وتمنع عنه المساءلة . تعطيه ولا تأخذ منه . تعتبره وارثاً مؤتمناً لتراث الشرع والشريعة ، رجالها وأئمتها وتاريخها . ماضيها وحاضرها ومستقبلها . يحكم باسم الله فإذا تواضع فباسم الشعب ، وهو وحده الذي يعرف ما يريده الشعب وأين مصلحته.
يريد الحاكم العربي أن يؤمن الناس في الأرض التي يحكمها بالوراثة أو بالاغتصاب الانقلابي الذي يبدأ منه التاريخ . يريد أن يؤمنوا بشيء من الألوهة فيه ومن صلاحياتها وقدراتها . أمره لا يُرد وعقوبته للتنفيذ ، وقضاؤه صارمٌ كقدره . أما البلد وخيره ، فله أولاً ، ولأهل بيته ثانياً ، وللزبانية ثالثاً ، وما تبقى من الفتات للمقربين ، فإن بقي شيء بعد ذلك من فتات الفتات فلشعبه الوفي منحةٌ منه له جزاء صمته وخضوعه.
يريد الحاكم العربي أخيراً من كل أهل الجوار وجوار الجوار أن يؤمنوا بهذه الحقوق وأن ينشروا في الأرض نبأ عدله واستقرار حكمه . ولأن هنالك شيئاً اسمه الصحافة وأجهزة النشر وهي فضّاحة وتريد حصتها ، فإن ولي الأمر الحاكم بأمر ذي الأمر هناك في عاصمة النهي والأمر ، يتفضل عليها بالصدقة . يلقي إليها من بقايا الفتات ما تستحق ، ولكل منها حصة تختلف باختلاف قدرتها على النباح .. فتصمت! .. عجيب هذه القصة في مقطعها هنا هو أن الحاكم يوكل أمر توزيع هذا الفتات لأحد خدمه المستبعثين أو المستأمنين فيستكثره هذا عليهم ويأخذ من ذاك الفتات حصة النصف ليوزع ما تبقى منه على من يعتبرهم غير ذوي شأن .. وتتكرر قصة »تنوير بكين« وقد سبقت روايتها ولا بأس من تكرارها.
يروى أن إمبراطور الصين زار أوروبا في بدايات عصر النهضة وعاد منها معجباً بإنارة عواصمها ليلاً . استدعى رئيس وزرائه وأمره بتنوير بكين وأمر له بخمسة ملايين ين (الين عملة صينية) . استدعى رئيس الوزراء وزيرَ الداخلية وأبلغه أمر الإمبراطور وقال له إنه خصص لهذا الغرض مليونين ونصف المليون ين . بلع رئيس الوزراء النصف . استدعى وزير الداخلية مدير الشرطة وأبلغه أمر الإمبراطور وأنه خصص لهذا الأمر مليوناً ونصف المليون ين . بلع نصف النصف . استدعى مدير الشرطة رؤساء المخافر وأبلغهم أمر الإمبراطور بتنوير بكين وأنه خصص لهذا مبلغاً قدره ثلاثة أرباع مليون ين . أكل النصف أيضاً . ذهب رؤساء المخافر فتقاسموا ما تبقى وأرسلوا الحراس يدقون الأبواب ليقولوا لكل صاحب بيت: بأمر مولانا الإمبراطور يجب أن يعلق كل منكم على باب بيته فانوساً للإضاءة ليلاً . وهكذا أنيرت بكين . ما يحدث في العالم العربي ، وبخاصة عوالم النفط ، هو هذا تماماً . يأخذ كلّ مسؤول نصف المخصص لعمله لجيبه وينتهي الأمر بتعليق الفانوس مجاناً.
ما يريده الحاكم العربي ليس كثيراً ولا كبيراً ولا هو مخالف للشرع . أليس الشرع هو القائل »وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم« . وهو لا يطلب أكثر من هذه الطاعة بما هو وليّ الأمر .. ويدفع ثمنها من فتات الغَدَق..؟
تنتقل هذه الصفات وصلاحيات الأمر والنهي والصمت من الحاكم إلى آمر الجماعة . فلكل جماعة ذات مشروع آمِرٌ مُشرِّع . آمر قد يكون بشرياً عند العرب وقد يكون إلهياً في فارس . عدوى الأمر والطاعة تنتقل . يصبح الأمين مؤتمناً على كل شيء ، مطاعاً في كل شيء ، الطاعة مفتاح النجاح والفلاح والجنتين: جنة الدنيا بدفعها المعجّل ، وجنة الآخرة بوعدها المؤجل.
وتتسلسل حالة الخضوع والصمت والطاعة من الأعلى حتى تبلغ مداها في الأسفل..
وينتهي الأمر أخيراً عند واقع مجتمعات هذا القطيع العربي الذي ننتمي إليه ونشارك في صمته وثغائه..؟
طبعاً لا أحد يجهل من يتقدم القطيع عادة!!
المحرر العربي