مآلات الدولة العربية الحديثة
د. عبدالله تركماني
تتعرض العديد من الدول العربية إلى أزمة بنيوية عميقة تطال أسس النظام الرسمي العربي ومستقبله، خاصة تلك الدول التي تفتقد سلطاتها للشرعية الدستورية. ففي حالات عربية ليست قليلة يتفكك كيان الدولة الموحدة بفعل الهويات المتصارعة داخلها، مما يضع مستقبل هذه الدول على المحك ويعرّضها لافتقاد مجتمعاتها للحماية وتحوّلها إلى دول فاشلة.
ويبدو أنّ الدولة العربية ‘ الحديثة ‘ قد انحلت إلى مجرد أجهزة إدارية تابعة للفئة المتسلطة على الحكم، بمعنى أنه لم يتح للمجتمعات العربية أن تفرز سلطاتها القادرة على إدارة دولة حق وقانون، بل بقي هذا الأنموذج غائباً إجمالاً، ليس لانعدام تقاليد الديمقراطية أصلاً من المجال العام، بل بسبب تلك الحالة من فقدان الجماعة حس الأمان العام في ظل سلطات استبدادية اعتادت على منهج الخوف والتخويف كأساس لكل علاقة بين الحاكم والمحكوم.
كما أنّ هذه السلطات أحكمت بيدها عزلتها عن مجتمعاتها، عندما انغلقت نخبها الحاكمة على مصالحها الخاصة، وحررت نفسها من أبسط وعود التنمية الشاملة، وأغرقت البلاد والعباد في المزيد من التخلف والفقر والجهل، حتى أصبح العالم العربي مضرب المثل في تمتعه بأدنى المقاييس الدولية من حيث النمو والتقدم، وعجزه المضطرد عن اللحاق بحركة التطور العالمي من حوله.
وفي الواقع، لا أحد ينكر أنّ العالم العربي قد ابتلي بنخب حاكمة هي مزيج من كواسر باحثة عن فريستها في جسم مجتمع مجوّف ومختل التوازن، ومن قطّاع طرق مختفين وراء ألقاب ورتب سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية، ومهربي مخدرات وتجار سلاح ومختلسين لأموال الدول، ولصوص ومرتشين، لا مبدأ لديهم ولا مثال غير إرضاء الشهوة البدائية في السيطرة والقوة والثروة المادية. لا يسري ذلك على الكثير من العاملين داخل حقل سلطة الدولة ومؤسساتها فحسب، ولكن بشكل أكبر أحياناً على المتحكمين بمؤسسات المجتمع الخاصة، ونخبه الأهلية، من أصحاب مشاريع صناعية وتجارية وثقافية وفكرية أيضا.
وكانت النتيجة النهائية لكل تلك المقدمات المأزومة أنّ الدولة العربية ‘ الحديثة ‘ فشلت فشلاً ذريعاً في إيصال المجتمعات العربية إلى شاطئ وبر الأمان والاطمئنان الذي سبق أن وعدت الجماهير به، وتفرّغ القائمون عليها للتحكم بموارد الأمة، والسيطرة على مفاصل السلطة والثروة والقوة والمعرفة في كل مواقعها، محتكرين بذلك كل الرأسمال المادي والمعنوي المتبقي لأفراد المجتمع والأمة.
والشيء الذي ينــــبغي ألا يغيب عن أذهاننا هنا هو أنّ خطورة هذا الوضع المأساوي العام، الذي يرزح تحته عالمنا العربي الآن تتزايد على مستوى عدم استجابة معظم النخب العربية السياسية الحاكمة لاحتياجات الناس، ومتطلبات التنمية الحقيقية، وهذا ما يؤسس باستمرار لأجواء ضعف، أو عدم وجود المساءلة والنزاهة والشــــفافية المطلوبة، والتي لا يمكن النهوض والارتقاء من دونها، مما يجعل من تلك المجتمعات مرتعاً خصباً لانعدام الفاعلية والنشاط والكفاءة.
وعلى صعيد آخر لم تنجح الدولة العربية أو لم تحاول العمل على حل مشكلة التعددية الإثنية والمذهبية والدينية متى وجدت هذه التعددية، لا بل زادتها حدة بعدما تجاهلتها أو حاولت توظيفها في لعبة داخلية، انقلب في نهايتها السحر على الساحر.
أما واقع المجتمعات العربية فهو ليس أحسن حالاً، فهذه المجتمعات تبدو في غربة أو غيبوبة، وهي مغيبة، بفعل القيود الكثيرة المكبلة لحركتها وحراكها، وغائبة بحكم ارتهانها للهموم اليومية التي تكابدها، لتحصيل لقمة العيش، ومعها تأمين الحد الأدنى من التعليم والصحة والسكن وباقي مستلزمات الحياة الكريمة، إن أمكن.
هكذا عرّت تجربتا الصراع العربي – الإسرائيلي واحتلال العراق حقيقة الواقع العربي، ففي معترك هاتين القضيتين انكشفت سياسات وتكسرت شعارات وبانت حقائق مريرة، ولكن بعد فوات الأوان.
وهكذا تتكرر صورة المفاضلة الإجبارية بين الخيارات السيئة لتطال معظم الدول العربية، فإما استقرار للدول والأوطان تحت ظلال سلطات مستبدة، تمارس البطش والعنف الداخلي، وتمسك اقتصاداً ريعياً، وتشرف على توزيع ما تستغني عنه لبعض الفئات الموالية لها، وتهمّش في الوقت عينه أوسع فئات شعبها، بعيداً عن أية مشاركة سياسية أو خارج أية مساهمة في التنمية والتقدم الاقتصادي، خالقة بذلك الحاضنة الاجتماعية والاقتصادية لحركات التطرف. وتسعى سلطات الاستبداد هذه مقابل ديمومة حكمها، وغض الطرف عن ممارساتها، إلى إرضاء القوى الدولية الكبرى وعقد صفقات معها تؤمن المصالح الاقتصادية لهذه القوى.
أو سيادة منطق الجماعات السياسية الدينية المتطرفة، التي تدعو إلى القطيعة مع العالم، ومعاداة قيم حقوق الإنسان ورفض مجاراة العصر.
وفي الواقع، ما كان من الممكن لنا أن نتوقع، حسب الدكتور برهان غليون، سوى تفاقم الأزمة الكبرى التي تعصف بمجتمعاتنا منذ سنوات طويلة، وتزايد مظاهرها الخطيرة، من الاحتلالات والتدخلات الخارجية، إلى الحروب والنزاعات الداخلية المسلحة، مروراً بالانقسامات داخل الأحزاب السياسية، والاحتقانات والتوترات في العلاقات العربية – العربية، والخصومات الطائفية والمذهبية والعشائرية المهددة لوجود الدولة نفسها، وفي موازاة ذلك تراجع مستوى حياة السكان، وزيادة الفقر والبطالة، وتزايد عدد البؤر المتفجرة للمطالب والاحتجاجات الاجتماعية في أكثر من مكان.
ومن المؤكد أنه لا يفيد هنا الحديث المعتاد عن العامل الخارجي، حتى لو كانت مسؤولية الدول الغربية رئيسية في ما نحن فيه من مآسٍ وما نواجهه من تحديات. فالمطلوب هو، بالعكس، تفسير الأسباب التي تجعل هذا التدخل الأجنبي ممكناً ودائماً وحاسماً في المنطقة العربية، أكثر من مناطق العالم الأخرى، ولماذا لا ننجح في الحد من أثره على الأقل، إذا كنا غير قادرين على وضع حد له ؟
إن الإشكالية التي تعيشها الدولة الوطنية في العالم العربي هي أنها لم تتمكن من خلق نوع من التوافق بين السلطة والحرية، فإيجاد هذا النوع من التوافق يتوقف عليه القدر من رضى المواطنين عن الحكومات، مما يسهم في إضفاء الشرعية عليها وإلى بقاء واستمرارية الدولة الوطنية. لذلك بات من واجبها أن تبحث عن السبل التي تستطيع من خلالها تأمين القدر المعقول من الحرية في سبيل ضمان مصالح المواطنين.
إنّ الواقع، الموصوف أعلاه، يدعونا جميعاً للتعاطي المجدي مع التحديات الكبرى، مما يفرض ضرورة انفتاح الأنظمة على شعوبها، واعترافها بالتقصير عن تحقيق أهدافها وتطلعاتها والتزاماتها التي سبق أن وعدت بها. كما يفرض أن تتجه جهود أبناء مجتمعاتنا كلهم – حكاماً ومحكومين – إلى تركيز الطاقات باتجاه العمل والتنمية والسعي للنهوض بواقع دولهم، في محاولتها الرامية لاستيعاب المعرفة بمختلف جوانبها، والعمل على اكتسابها، ونشرها، وتعميمها، وذلك من أجل الارتقاء بواقعها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في مواجهة عالم كبير يتحكم فيه منطق القوة والمصالح.
فلم يعد عيش المواطن العربي تحت وطأة الإقصاء السياسي أو البطش المنهجي هو القدر المحتوم أمامه، بل لابد من إجراء تغيّرات عميقة في دولنا العربية كي تصبح دول حق وقانون، دول كل مواطنيها بدون تمييز طائفي أو عرقي أو جهوي.
‘ كاتب وباحث سوري مقيم في تونس