إشكاليات الجمعيات الأهلية ( تمكين وآفاق )
معتز حيسو
عندما تكون بنية الدولة ومؤسساتها وأجهزتها الرسمية، دون المستوى الوطني( المقصود بالمستوى الوطني في هذا السياق، عندما لا تكون الدولة ببنيتها المؤسساتية ممثلة لكافة الشرائح الاجتماعية، و حقوق المواطنة منقوصة…..). فمن البداهة بمكان أن تكون أشكال ومستويات الجمعيات الأهلية وحتى المدنية منها في بعض اللحظات، دون المستوى الوطني. لتكون تعبيراً موضوعياً وحقيقياً عن واقع اجتماعي منقسم على ذاته ومتناقض، نتيجة للتفتت والتهميش الذي تعانيه البنى الاجتماعية في سياق سيرورتها التناقضية،والتوافقية الهلامية الملتبسة، ليتجلى جراء هذا تشكّل وتطوّر وحتى آليات اشتغال جمعيات أهلية بمستويات شكلانية و ملتبسة، وبذات الوقت تكون تعبيراً عن إنزياحات بنيوية في آليات العمل المؤسساتي بمستوياته العامة، الذي من المفترض أن يتشكل ويتعزز وفق أشكال وآليات عمل مدنية وسياسية مستقلة ( نقابات، أحزاب، جمعيات حقوقية ونسويه وطفولة وبيئية …..). لذلك يفترض أن نمايز بين جمعيات أهلية يفترض وجودها الموضوعي واقع اجتماعي يعاني من نكوص لمكوناته الأولية، يترافق مع تخلي مؤسسات الدولة عن دورها الاجتماعي، وبين مؤسسات مدنية. بالتالي فإن هذه الجمعيات تعبّر في وجودها واستمرار تجددها عن خلل بنيوي في آليات الممارسة السياسية الرسمية التي تعمل على تفعيل جمعيات أهلية متخلعة عن جذرها السياسي الذي يشكل محور الأزمة الاجتماعية العامة نتيجة لتهميش العمل السياسي وتجفيف منابعه وارتفاع الضرائب الاجتماعية والنفسية والمادية للاشتغال بالسياسة…..
ــ إن أهمية النشاطات المجتمعية تكمن في ترسيخ فكرة التعاون والعمل الجماعي المستقل، بغية تحقيق أهداف عامة، بعيداً عن استغلالها لتحقيق مكاسب شخصية، ولإدراكنا بأن البنية الاجتماعية المأزومة تنتج موضوعياً أفراداً يتماهون ويعبرون نسبياً عنها،لذلك لا يمكننا أن نطالب بطهرانية مطلقة في سياق تحول الفساد لثقافة عامة، ونرى هذا التحول من خلال السماح لهذه الجمعيات بالعمل شريطة عدم الاشتغال بالسياسية و أن يكون المتقدمين للترخيص ليسو ناشطين سياسيين وليس لهم تاريخ سياسي معارض، ويترافق هذا الميل مع تغييّب الحريات السياسية والحياة الديمقراطية، وزيادة مستوى الضغط على التجمعات ذات الميول اليسارية. مما يعني أنه يتم العمل على تحويل هذه الجمعيات لأدوات وأشكال تعبيرية تتجدد بتجدد الأزمة الاجتماعية العامة، ويتراكب مع هذه الميول تنميط وتنضيد الوعي الاجتماعي القائم بطبيعته على الحدس، لتبقى تحت هيمنة وسيطرة المؤسسات الرسمية، لذلك نميل لترجيح مبدأ التخصص الجزئي في سياقه الأهلي المؤسساتي المتزامن مع تمكين الجمعيات المدنية وتكريس أشكال وآليات عمل مؤسساتي ميكروية / جزئية، مستقلة في سياق وإطار استراتيجي شامل و مدروس وفق منهجية واضحة ومحددة.. ونؤكد بأن الميل الطبيعي للتطور الاجتماعي يقوم على تمكين النشاط المدني والسياسي المعبّر عن التنوع الاجتماعي الذي يفترض ضرورة المشاركة العامة في صياغة القرارات العامة بمختلف المستويات الاقتصادية التنموية والسياسية العامة، يكون من أهدافه المساهمة في الارتقاء بمستوى الوعي الاجتماعي ومستوى آليات مشاركته على مختلف المستويات الاجتماعية.
ــ لكن اللافت والملتبس في إدراكه وتحليله، غض نظر بعض الجهات الرسمية على تأسيس جمعيات دينية أصولية سلفية تعمل على إعادة المجتمع لعصور التخلف والانحطاط ، وتزيد من حدة الانقسامات المذهبية والتي يتمحور عملها في تشكيل أمة إسلامية بديل عن الأمة العربية، منع المرأة من العمل والاختلاط بالرجال والخروج من المنزل، ومنع اقتناء التلفزيون في المنزل.. ) مما يدلل على إمكانية انتقال التناقض الاجتماعي لحقل التناقض والصراع العقائدي والمذهبي يتقاطع مع تكريس الدول الكبرى لهيمنة صراع الحضارات على المستوى الكوني.
ــ ولكون المستوى الثقافي للقاع الاجتماعي لا يزال يسوده وعي ديني / مذهبي يتعايش في ظل تناقض مبطن ومستتر وكامن، فمن الطبيعي أن يكون مستوى وأشكال الجمعيات التطوعية والخيرية بأشكالها الدينية هي الأبرز والأقدر على الانتشار والعمل في القاع الاجتماعي.
ــ مرة أخرى نؤكد على أهمية العمل التطوعي / الجمعي، لكن ليس على أساس تغييب العمل المدني والسياسي المؤسساتي، بل في سياق سيرورة اجتماعية يتضافر ويتكامل فيها العمل الأهلي( كونه ما زال حتى اللحظة يحتفظ براهنيته وضرورته نتيجة عوامل موضوعية) مع العمل المدني الذي يشكل أفق ومستقبل المجتمع السياسي، الذي يجب أن يتشكّل على قاعدة توحيد الجهود الاجتماعية في سياق التزام المؤسسات الرسمية بواجباتها والتزاماتها الاجتماعية،وعلى أرضية توسط الجمعيات الأهلية والمدنية بين المجتمع والمؤسسات الرسمية، لنؤكد بأن تحقيق التطور يقوم على التنوع والاختلاف والتعدد وليس على التوحد والتطابق والتماهي.
ـ وبعيداً عن هيمنة البنى الرسمية الفاقدة لبعدها العام وعمقها الاجتماعي، فإن تسارع انتشار الجمعيات الأهلية يدلل على تراجع وانسحاب مؤسسات وأجهزة الدولة من واجباتها اجتماعية، بذات الوقت الذي يتم فيه تحويل العمل التطوعي الاجتماعي الذي يفترض أن يكون مستقلاً، إلى عمل جمعي برعاية رسمية، دون إدراك لإشكاليات هذه الجمعيات ومدى تفتيتها للبنى الاجتماعية. إن توسّع آليات وأشكال العمل الأهلي بأشكاله العشائرية والطائفية والأسرية و المذهبية السلفية الأصولية يساهم من وجهة نظرنا في اختلال التوازن الاجتماعي،و تكريس الانقسامات الاجتماعية العمودية على قاعدة المكونات الأولية للمجتمع، مما يساهم موضوعياً في تفريغ وتفتيت المجتمع من السياسية في ظل استمرار تجاهل إطلاق الحريات السياسية. وبالتالي تعميم التناقض والصراع الاجتماعي القائم ليتجلى في لحظة الأزمة بصراع الكل ضد الكل، هذا إذا لم تكن بعض هذه الجمعيات هي ذاتها ونتيجة للخلل البنيوي الاجتماعي والسياسي، فتيلاً ووقوداً لهذا التوتر. ونؤكد أخيراً بأن التنوع السياسي وتعميق التجمعات المدنية يشكّل ضمانة في مواجهة الأزمات الاجتماعية، ويحد بذات الوقت من خطورتها في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية والتحلل الاجتماعي والأخلاقي.
الحوار المتمدن