مسألة الإسلام في فرنسا
حازم صاغية
من يعرف شيئاً قليلاً عن تاريخ فرنسا وطباعها العامّة، يستغرب أموراً كثيرة فيها كما يقلق من أمور كثيرة. فاليوم يستعدّ الفرنسيّون لانتخاباتهم المحليّة التي ستُجرى على دفعتين، في 4 و21 مارس الجاري، والتي تُعتبر المرآة الأدقّ للرأي العام واتّجاهاته. وثمّة إجماع على أنّ الحزب الديغوليّ الحاكم بقيادة ساركوزي، رئيس الجمهوريّة، سوف يحصد نتائج بائسة فيها.
هكذا يغدو تسخين الجبهة المزعومة ضدّ “أعداء الأمّة” شرطاً للتعبئة العامّة في الانتخابات، أو لتحويل الأنظار عن نتائجها المتوقّعة باتّجاه ما هو “أهمّ وأكثر مصيريّة”.
والإسلام والمسلمون هم اليوم الهدف السهل، خصوصاً أنّ الإشارات والإيحاءات المتعلّقة بهم تربط بينهم وبين تنامي أرقام الجريمة في المجتمع الفرنسيّ، فضلاً عن المخاوف المتعاظمة من الهجرة ومن أثرها “السلبيّ” على فرص عمل الفرنسيّين.
ففي أوقات الأزمات، تحضر “الأمّة والهويّة” على نحو يشبه حضورهما في السياسات والثقافة العربيّة. في هذا المعنى، ومع بدايات الأزمة الماليّة- الاقتصاديّة الراهنة، بادر ساركوزي نفسه إلى افتتاح “نقاش عريض حول الهويّة الوطنيّة” طنطن به الإعلام يومها. ولم تكن الأزمة وحدها تملي ذلك الاهتمام المصطنع، بل تفاقُم وذيوع أخبار بعض الفضائح التي تخصّ أشخاصاً هم من أقرب المقرّبين إلى رئيس الجمهوريّة.
وللذين يعرفون أكثر من سواهم، بدا مضحكاً اختيار أحد المواقع الرمزيّة للمقاومة الفرنسيّة للنازيّين كي يكون المنصّة التي تشهد إطلاق “النقاش العريض”. ذاك أنّ كلّ من قرأ تاريخ الاحتلال الألمانيّ لفرنسا في الحرب العالميّة الثانية عرف قصّة حكومة “فيشي” المتعاونة مع النازيّين وانتزاعها تعاطف أكثر من نصف الشعب الفرنسيّ. إذن، كان الأحرى فتح ملفّ التصدّع الذي أصاب فعلاً هويّة الفرنسيّين حينذاك!
والآن، في زمن العولمة، باتت الحملات التي تُشنّ على الأجانب موضوعاً للتندّر كما للشفقة على أصحابها. وهذا ليس عائداً فحسب إلى درجة التعولم التي بات الاقتصاد والاجتماع الفرنسيّان يخضعان لها، بل أيضاً إلى تركيب الشعب الفرنسيّ ذاته: ذاك أنّ 23 في المئة من فرنسيّي يومنا الراهن لديهم جدّ أو جدّة أجنبيّان. لا بل إن ساركوزي ذاته، وهو الباحث بحماسة عن صفاء الهويّة وأصالتها، مولود لأب وُلد في هنغاريا، ولأمّ ذات أصول يونانيّة ويهوديّة.
وقد جاءت المعركة ضدّ البرقع لتكون آخر تجلّيات الوضع المأزوم هذا، علماً بأنّ عدد النساء اللواتي يضعن البرقع في فرنسا يقلّ عن ألفي امرأة. هكذا شُكّلت لجنة برلمانيّة برئاسة محافظ شيوعيّ، كتدليل على لحظة إجماع يساريّ – يمينيّ، ثم توالت اجتماعاتها طوال أشهر لمناقشة المسألة، قبل أن تنتهي إلى المطالبة بمنع البرقع في الأمكنة العامّة. ولم يخلُ الأمر من إشارات وإيحاءات بأنّ الجمهوريّة الفرنسيّة نفسها مهدّدة بغزو إسلاميّ! وفي الاتّجاه ذاته صبّت نتائج الاستفتاء الشهير في سويسرا لصالح منع المآذن التي يقلّ عددها عن عدد أصابع اليد!
والأمر، هنا وهناك، لا تخفى ديماغوجيّته وتوظيفه السياسيّ المباشر والجلف. فمسلمو فرنسا يحملون، في أغلبيّتهم الساحقة، مطالب محقّة في السكن والعمل لا يتأدّى عن تلبيتها إلاّ تعزيز النسيج الوطنيّ الفرنسيّ وإنشاء فرص أخرى أمام اندماجهم المطلوب. وكانت أكثريّتهم قد تقبّلت، في 2004، منع لبس الحجاب في المدارس والمؤسّسات الذي أُقرّ حينذاك.
بيد أنّ ما سبق أعلاه لا ينهي المشكلة بل يزيدها تعقيداً، طارحاً على مسلمي المجتمعات الغربيّة، لا فرنسا وحدها، أسئلة وتحدّيات يصعب تجاهلها.
ذاك أنّ غلبة الريفيّين وقليلي التعلّم في بيئة المهاجرين يسهّل تحويل قضايا تافهة كالبرقع أو منع المآذن إلى قضايا معبِّئة لأوسع الرأي العامّ الأوروبيّ. والمقصود بذلك أنّ هؤلاء المهاجرين، لاسيّما في ظلّ تصاعد مسائل الأصوليّة والهويّات والعنف، يُبدون عجزاً متنامياً عن تطوير صوت خاصّ بهم يميّزهم عن المتعصّبين وضيّقي الأفق من المسلمين. وهكذا تطغى الرمزيّات على السجال (البرقع، الحجاب، المآذن) بدل أن تُطرح المسائل الفعليّة (العمل، السكن، التعليم) على طاولة النقاش الوطنيّ العامّ. فحينما يصطبغ الصوت المسلم بالدعوة الرمزيّة وحدها، فإنّه يسهّل على الأوروبيّ الكاره للأجانب أن يصادر هذه المسألة وأن يستخدمها ضدّ المسلمين أنفسهم. ومن هذا القبيل، يصير من السهل القول إنّ هؤلاء الأخيرين بتشدّدهم في أمور المظهر والمأكل والمشرب إنّما ينمّطون أنفسهم ذاتيّاً قبل أن ينمّطهم غيرهم. وهم، بقيامهم بهذا، إنّما يعملون على إضعاف النسيج الوطنيّ الجامع. فكيف حين لا تظهر في أوساطهم أصوات قويّة تدين العنف الأصوليّ والإرهابيّ، وتبدي اهتماماً معلناً بالعيش في ظلّ نموذج علمانيّ هو تعريفاً أكثر تقدّماً (وإلاّ فلماذا كانت الهجرة إليه أصلاً؟).
والواقع أنّ فرنسا تحديداً، من بين سائر الدول الأوروبيّة، تتطلّب عناية خاصّة مصدرها كامن في خصوصيّة الحساسيّة الفرنسيّة. فهنا، في هذا البلد، لا تقتصر العلمانيّة، في حدود تعريفها كفصل للدين عن الدولة، على كونها رأياً ووجهة نظر. إنّها، في المقابل، تكاد ترقى إلى مكوّن للهويّة الوطنيّة ناضلت الأجيال، جيلاً بعد آخر، لبلوغه. وهكذا قد يغدو من الصعب مطالبة الفرنسيّين، الذين يعتبرون أنّ وطنيّتهم الحديثة تحقّقت بالصراع مع المسيحيّة والكنيسة، بالتعاطف مع الإسلام كدين، أو مع أيّ دين آخر. ذاك أنّهم سبق أن وضعوا مسألة الدين نفسها خارج الشأن العامّ حاصرين إيّاها بالشأن الخاصّ.
وأغلب الظنّ أنّ نقل المشكلة من نطاق الرمزيّ إلى نطاق الفعليّ، يستلزم نقلها من مساحة النقاش في الدين إلى النقاش في البشر ومصالحهم. فالموضوع، في بلد كفرنسا، ليس الإسلام (ولا أيّ دين آخر) بل هو المسلمون كمواطنين أفراد لهم حقوق ومصالح وعليهم واجبات. والراهن أنّ كلّ تلكّؤ في طرح المسألة على هذا النحو هو دعم وتعزيز للقوى الفرنسيّة الأشدّ تعصّباً وشعبويّة وكرهاً للغريب.
الاتحاد