تغيّر لبنان ويتغيّر بالحرب أو التطور السلمي
سليمان تقي الدين
خلافاً لما هو شائع عن استحالة التغيير في لبنان علينا الانتباه لحجم ومحطات التغيير وطبيعتها . لبنان القديم منذ الاستقلال لم يعد موجوداً بنمط حياته كلها بما فيها الدولة والنظام والمكونات السياسية والسوسيولوجية . حكم هذا التغيير تفاوت وتباين بين المناطق والطوائف فكان مساراً متعرِّجاً .
لكن النخب الاجتماعية والسياسية تغيّرت في جميع الطوائف وديناميات المنافسة والصراع تبدّلت، ومشاريع الجماعات وكتل الضغط تبدّلت، ومنظومة العلاقات ووسائل الفعل وأدواته وأهدافه تغيّرت وكذلك التوازنات الاجتماعية والسياسية . حصل ذلك بتقاطع وتفاعل ثلاثة عناصر، ديمغرافي له مضاعفات اجتماعية، واقتصادي له مفاعيل في عمق البنية الطبقية، وإقليمي يدفع بهذه التطورات ويتجلّى على المستويين السياسي والأمني .
تصدرت المارونية السياسية في الماضي والحاضر قوى المحافظة على النظام بذريعة حاجتها إلى الضمانات والمحافظة على “التوازن الوطني”، وبعد كل مواجهة خسرت الكثير من عناصر هذه “الضمانات” المزعومة، وأخذت البلد كله إلى المزيد من “الطائفيات المضادة” على حساب مناخ الإصلاح .
في اتفاق “الدوحة” قادت معركة العودة إلى قانون انتخاب “الستين” وفي معركة تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية قادت حملة رفض تشكيلها، وفي إقرار قانون حق التصويت للشباب قادت معركة تعطيله . ولا نريد العودة إلى مرحلة الستينات والسبعينات حين تصدت للتجربة الشهابية في بناء الدولة وانقلبت عليها . تتحمل المارونية السياسية المسؤولية الأولى عن لجوء الطوائف الأخرى إلى التشكل في “نظام دولتي طائفي” . عقلية استئثارها بالسلطة قادت تلك المجموعات إلى منافستها في المؤسسات الطائفية الأهلية . وعقلية انطوائها على مصالحها الطائفية قاد إلى بناء مؤسسات رديفة بما في ذلك “الجيش الطائفي” أو الأمن الطائفي . فشلت المارونية السياسية في الاحتفاظ بقيادتها الوطنية وبمشروعها الوطني وتراجعت عن الفكرة اللبنانية لصالح الفكرة الطائفية . هي من تقود جمهورها من إحباط إلى إحباط ومن خوف إلى خوف أكبر . نشأت قطيعة بينها وبين نخبتها الثقافية التي حاولت تركيز الفكرة اللبنانية ورعايتها . لم تسر في خط الدولة منذ كانت أكثرية حاكمة مرَّة بذريعة الوقوف بوجه القومية العربية ومرَّة بذريعة الوقوف بوجه المد الإسلامي . لم تكن هذه الخيارات في صالح جمهور الموارنة والمسيحيين عموماً، ولم تكن منسجمة مع تاريخهم وتراثهم . العروبة كانت أفق المسيحيين قبل أن يتحولوا إلى سلطة محلية ذات مصالح اجتماعية نسجوا حولها اسطورتهم الطائفية الخاصة . لم يتخلَّ الارثوذكس والكاثوليك عن تفاعلهم مع قضايا العروبة، لكن الموارنة فصلوا تاريخهم الديني عن انطاكيا والسياسي عن العروبة ومزجوا بين الكنيسة اللبنانية والطائفة وفكرة الدولة والكيان . كلما انفتحت امام الموارنة فرصة للخروج من ثقافة الأقلية جاء هم زعيم أو زعماء يتنافسون على القيادة باستخدام الخوف الطائفي والدفاع عن موقع الطائفة . هناك جاذبية خطيرة وحنين مرضي لدى زعماء الموارنة نحو زمن اللحظة التأسيسية للكيان وأرجحيتهم فيه . ولأن هذا مستحيل في الواقع يشدهم إلى تطلب الزعامة الطائفية ومقاومة خطوات الإصلاح في البلد . وما أكثر ما يجدون من شركاء على الطرف الآخر لأن الإسلام السياسي المحافظ بطبيعته التاريخية يجد في النظام الطائفي مصدر قوته لمواجهة قوى التغيير والحداثة وهو يبزّ المارونية السياسية اليوم في فلسفة تبرير النظام الطائفي بشعار “الديمقراطية التوافقية” .
المارونية السياسية ليست كل الموارنة والإسلام السياسي ليس كل المسلمين . غير أن آليات تشكّل الطوائف وصعودها وهبوطها هو نفسه، والمأزق الذي تقود إليه مشاريعها هو ذاته . لن تستقر هيمنة طائفية، ولن يختصر لبنان بطائفة ولن يعرف لبنان النهوض من أزماته في ظل أية صيغة طائفية . لم تعد الطائفية إلاّ الوجه الآخر من انتاج الاستبداد والشموليات والأصوليات والتخلّف والموت الحقيقي لكل معاني الحرية والديمقراطية والتقدم . هذا المجتمع المريض لا يعالج بإصلاح من هنا وإصلاح من هناك أو بمطلب أو شعار أو ملف . يتغيّر بالحروب الأهلية نحو الأسوأ . كانت للطائفية مرجعية وكان لها النموذج الملهم . الطائفيات صارت متكافئة متقابلة . تعطيل الدولة والنظام سائر نحو انفجار الصيغة فهل يفرز المجتمع كتلة الفصل والوصل بما تراكم لديه من مشتركات ومصالح أم هو بمستوى عجز الدولة ويستدعي الوصاية مجدداً؟
تم تجديد النخبة السياسية في الانتخابات الأخيرة . تغيرت الكثير من الوجوه وأعيد بناء المرجعيات الطائفية . تلتقي هذه المرجعيات في المؤسسات الدستورية (الحكومة والبرلمان) وخارجها في (هيئة الحوار الوطني) . إطمأنت هذه القوى لاحتكارها تمثيل جماعاتها الطائفية . انتجت الانتخابات زعامات قوية . يقال إن الأقوياء يصنعون السلام والتغيير . يفاوضون بصورة أفضل . يقال إن التوازن الطائفي يفتح باب الإصلاح . في واقع الأمر سقطت مطالب إصلاحية عديدة (تخفيض سن الاقتراع- انتخاب المغتربين- تعديل قانون البلديات إيجاد آلية للتعيينات الإدارية . .) خرج أحد النواب ليقول: إن النظام الطائفي عصي على الإصلاح . هو نفسه من كتلة تدعم “التوافقية الطوائفية” . لم يكن ممكناً لقوى المجتمع المدني الناشطة منذ سنوات حول هذه المطالب ان يفعلوا شيئاً . مطلب الشباب وهم الكتلة التي يجب أن تتضامن من كل التيارات السياسية فشلت في مواجهة تهريب الإصلاح . لا يستطيع المجتمع المدني العمل المؤثر من دون هوية سياسية . لم يشكل نقيض سياسي للنظام . لا أفق بعد للتغيير السلمي الديمقراطي .
الخليج