صفحات العالمما يحدث في لبنان

ديناميكية المكابرة

جهاد الزين
تبدو صورة اجتماع “الامانة العامة لـ14 آذار” بعد خروج وليد جنبلاط منها، اقرب الى مشهد قيادة اتحاد طلابي اكثر منها مشهد حركة شعبية! بعض الاسماء ولي بينها اصدقاء حاليون او سابقون، “لا تكذّب خبرا” في هذا التوصيف المبالغ به والواقعي معا… سوى ان بعض اعمار الجالسين تجاوز الخمسين وبعضهم الآخر تجاوز الستين.
لا يكابر الاشخاص فقط. تكابر البنى السياسية اكثر. ففي 14 آذار كما 8 آذار نسيج من المصالح والمشاعر و”الاحقاد الصومالية” يجعل التحول عصياً على الظهور بحجم متغيره الفعلي حتى فترة طويلة. لكن شيئا ما انتهى في بنية 14 آذار مع خروج وليد جنبلاط. وهو خروج فعلي. صحيح ان الزعيم الدرزي لم يتخل عن “البوركا” السياسية السعودية التي ارتداها بعد 2005 وسيظل يرتديها – وإن كان بدون قناع الوجه والفم بما يجعلها حجابا غير كامل – كما انه لم يرتد ولن يرتدي الحجاب “الصاروخي” الايراني، لكن كأي فعل تغييري يعرف وليد جنبلاط ان شيئا ما عميقا انتهى في 14 آذار بصيغته المحلية. فليس هينا ابدا هذا الوليد جنبلاط المتمسكن في اقلاويته عندما يتبين انه الوحيد بين السياسيين اللبنانيين، الوحيد الذي خاض الانتخابات النيابية قبل ان تجري، فنظم مكاسبه وخسائره مسبقا. سمى جورج عدوان ودوري شمعون على لائحته في الشوف كمن يدفع دينا لا بد من دفعه لتبرئة “ذمته” عن مرحلة ماضية وجاء بفادي الهبر في عاليه بالروحية نفسها. وبينما كانت الصحافة السياسية مختلفة على مدى صلاحية مشروع رئيس الجمهورية “الانتخابي” لبناء كتلة وسطية، اذا بخروج وليد جنبلاط من 14 آذار يحول كتلته من الاحد عشر نائبا الى الكتلة “الوسطية” الفعلية التي يكاد يكون رئيس الجمهورية  سياسيا لا بروتوكوليا متماثلاً عملياً معها بعد فشل محاولته المباشرة والتي كان يجب ان لا تحصل ولم يكن صعبا معرفة استحالتها على الطريقة الجبيلية.
بعض الاستدراك الضروري سعيا للدقة:
عندما نتحدث عن “14 آذار” – وهو بهذا المعنى طويل العمر البنيوي من مصالح ومشاعر – فلا نقصد “تيار المستقبل” كتيار قائم بذاته يتقرر دوره ويستطيع ان يستمر حتى لو انتهت لاحقا صيغة 14 آذار. صحيح ان خروج وليد جنبلاط “الوسطي” قد يشكل اول لجم ذاتي من داخل حركة 14 آذار للمد الحيوي اللبناني للسنية السياسية بالمعنى الذي عرفته منذ ما بعد 14 شباط 2005، لكن عناصر توتر او اتساع او تقلص هذا المد تقررها العوامل الاقليمية وبصورة اساسية اجواء المنطقة من العراق الى السعودية فالخليج فايران وما اذا كان جيوبوليتيك الحساسية السنية – الشيعية بين السعودية وايران سيستمر في التصاعد ام انه دخل مرحلة تراجع تحددها الحالة العراقية في ظل الظروف الراهنة للمنطقة. ويجب ان نكون حذرين في حساب مؤشرات التراجع او التصعيد حتى لو تجددت مجازر تفجير السيارات المفخخة في شوارع بغداد والموصل.
بعض أعنف العنف يسبق النهايات السلمية كما علمتنا تجارب حربنا الأهلية.
النقطة الثانية التي تتطلب التوقف هي التي جرى نسيانها حتى الآن في رؤية تأثير خروج جنبلاط.
انها المقارنة بين “خروجه” من “الحركة الوطنية اللبنانية” عام 1977 وبين خروجه الحالي عام 2009.
ففي العام 1977 دخل وليد جنبلاط وبسرعة بعد اغتيال والده في عملية سياسية كانت ترمي يومها الى احياء محور “الدولة” بعد سنتين عاصفتين من الحرب الاهلية اودت بفعالية المؤسسات الدولتية وقسمت الجيش اللبناني، كان الياس سركيس قد انتخب رئيسا، وقامت بين بعض النخب الشهابية الاساسية في مقدمها سركيس وفؤاد بطرس فكرة تعزيز موقع “الدولة” بين الميليشيات المتحاربة، وهي الحركة الوطنية اللبنانية في مناطق المسلمين مدعومة من منظمة التحرير الفلسطينية، وحزب الكتائب وحلفاؤه المسيحيون مدعومين من الاميركيين وكل اعداء منظمة التحرير.
بقي ممثلو الحزب التقدمي الاشتراكي شكلا داخل مؤسسات الحركة الوطنية. لكن المسافة التي اتخذها وليد جنبلاط نحو “الدولة” وكان جوني عبدو يدير “فريق الحوار” اليومي باسم الياس سركيس مع الزعيم الدرزي. هذه المسافة اسست وضعا جديدا للحركة الوطنية، مهد بعد 4 – 5 سنوات متدرجة لنهايتها كصيغة تنظيمية. لكن “الحركة الوطنية” كانت بنية مصالح شخصية وحزبية ولم يكن سهلا تفككها السريع فكيف انها كانت محمية بالمرجعية العرفاتية – الفلسطينية وديناميكيتها اللبنانية على الارض حتى لو ان مخابرات الجيش اللبناني كانت تقوم في ظل الرئيس سركيس بعملية انهاك نفسي وامني لمنظمة التحرير مستندة الى الارهاق الشعبي لدى المسلمين من كلفة الممارسات الفلسطينية.
كانت الحركة الوطنية مستندة الى حزب جماهيري واحد هو الحزب الدرزي. اما الحزب الشيوعي فكان حزب كوادر تمسك – بمساعدة منظمة العمل الشيوعي – بالعمود التنظيمي للحركة الوطنية. اليوم في 14 آذار ليس الحزب الجنبلاطي هو وحده الحزب الجماهيري، بل هناك قبله عدديا الحزب الحريري السني الذي يخرج من انتخابات 2009 “عملاقا” محليا من حيث اكتشافنا لمدى قوته الانتخابية في دوائر قانون 1960، بشكل “طبيعي” في العديد من الدوائر وبشكل تغييري لسجلات النفوس في بعض الدوائر، بينما يأتي الصوت الشيعي بالدرجة الثانية التأثيرية بعده، وإن كانت لم تجر انتخابات فعلية في دوائر الجنوب وبعلبك – الهرمل. ليس فقط بسبب ما آل اليه اخصام الحزبين الشيعيين من هزال شديد بل ايضا بسبب قرار حركة “امل” و”حزب الله” عدم اعطاء اي فرصة تجميع جدي للاصوات الى اخصامهم حتى لو كانت خسارة هؤلاء الاخصام اكيدة، في حين في الدوائر “الحريرية” تم سحق الخصوم فيها ولكن جرت انتخابات جدية على الاقل.
عند الشيعية السياسية الحالية ممنوع اي منافسة جادة ولو خاسرة يمكن ان تتطور مستقبلا.
عند السنية السياسية ممنوع الفوز ولكن عبر منافسة تنتهي بالحسم العددي الانتخابي.
بالنتيجة تغيرت “الحركة الوطنية”… بل تراجعت تدريجياً حتى قضي الأمر في ظروف حاسمة مع عام 1982. لم تنته فورا ولا تنتهي بنية تنظيمية فورا. وستقرر بطء او سرعة التغيير في 14 آذار و8 آذار معا تحولات المنطقة ووتيرة علاقاتها. فلبنان دخل مع “المدرستين” السنية والشيعية الحاليتين مستوى مُحكما من الارتباط بالمنطقة، لا مجرد التبعية لها، ومعهما بلغ النظام السياسي اللبناني المتأزم اصلا درجة من ازمة حكم دائمة… ليس هناك اكثر من وليد جنبلاط معرفة بادارة شؤون موقعه السياسي، لا باعتبار لبنان وضعا مفتوحا على آفاق الاصلاح – فهذه خرافة – ولكن باعتباره بلدا مأزوما من طائفيات مأزومة حتى وهي صاعدة.
خرج وليد جنبلاط في خطاب البوريفاج. تذكرتُ وانا اقرأه في باريس انه ليس كل ما يقوله وليد جنبلاط دقيقا في لغته السياسية. فعكس الرائج، قدرة وليد جنبلاط التعبيرية محدودة رغم معرفته ومتابعته. لكن ما يفعله وليد جنبلاط هو الدقيق، واكاد اقول ما يفكر به هو الادق! اما “اللغة” فغالبا ما هي مزيج مفكك ثقافيا يحمل معاني جوهرية وذكاء سياسيا اكيدا. المثال على ذلك طريقته العشوائية في الكلام عن اليسار، الا ان هذه العشوائية المفاهيمية تعكس حقيقة جدية يشير اليها هي ان الحزب التقدمي الاشتراكي ذهب في السنوات الاخيرة بعيدا في التواطؤ على مصالح اجتماعية للفئات الدنيا كان قد تدرب في عهد كمال جنبلاط نقابيا على يد الشيوعيين في التمرس بالدفاع عنها. بدا الامر بسبب عدم دقة التعبير في خطاب البوريڤاج وكأن الدفاع عن مصالح الفئات الاجتماعية الدنيا هو جزء من مد اليد الى 8 آذار، ناسيا ان القوى الشيعية الرئيسية في 8 آذار، احداها (“امل”) ليست موصولة بهذا الارث اليساري، وانما بإرث شعبوي على يمين الوسط والثاني “حزب الله” المنتمي كاسلام سياسي الى فكر “فيلانتروبي” (اي خيري تبرعي) في فهم العمل الاجتماعي مثل الفكر الاصولي السني ومثل تيار المستقبل نفسه في المجال الاقتصادي. ونشهد الآن كيف تدور على نفسها دون تقدم اوضاع احياء فقيرة بل معدمة مثل باب التبانة في طرابلس وحي السلم في الضاحية الجنوبية لبيروت في ظل هذا الفكر الاقتصادي.
وصلت الى هنا لاني اريد ان اتحدث عن عدم دقة وليد جنبلاط الفكرية وعن دقته السياسية ودقة افعاله المبنية طبعا على قراءات ومعلومات متنورة اكثر مما هي على مفاهيم فكرية متماسكة، عكس والده، الذي بلغ حتى في مجال المغامرة السياسية حد تهور المثقفين الاصيلين الذين تحركهم شمولية الرؤيا مع اقتراف اخطاء مميتة في الحسابات السياسية.

• • •
شيء ما انتهى في 14 آذار. لست مطمئنا الى ان بعض المثقفين اللبنانيين المعروفين – وليسوا ضمن الصيغة التنظيمية لـ14 آذار وانما دعموها طويلا – سيتمكنون بسرعة من تلقف الوضع الجديد (الذي هو بالنتيجة تغيير مع الاتجاه العالي للريح في المنطقة والعالم وبالتحديد حيال نظام سياسي قوي في سوريا تكتشف العواصم الكبرى ان ما تبقى من استقرار في المنطقة مرتبط باستقراره).
لقد صدمني مثلا خلال مجرى العامين 2007 – 2008 اللذين شهدا وصول باراك اوباما الى البيت الابيض، برودة مثقفين لبنانيين لا شك بمعرفتهم العميقة للعالم قياسا بالعديد من مثقفي العالم العربي، حيال ظاهرة اوباما، بدا لي ان تجربة 2005 – 2006 التي قادها الرئيس جورج دبليو بوش دوليا حول لبنان قد جعلتهم – وليس هذا مبررا – غير راغبين بـ”استقبال” ظاهرة اوباما بما تمثل فعلا من تغيير تاريخي داخل اميركا وخارجها. ولا زلت اتساءل، هل يمكن لفئة بهذه الطاقة الحداثية ان تكون مغلقة سياسيا بهذا الشكل؟ وفي عالم معولم لا يستطيع المحلي ان يقرر مزاجك الثقافي على الاقل؟
تحتاج الشخصيات والكوادر المؤتلفة في “14 آذار” الى قدر من اعادة النظر بالوضع القائم، ليس على اساس “المكابرة” بان الامور مستمرة كما كانت، ولكن على اساس مسافة نقدية تسمح – ضمن التمسك الطبيعي بالحفاظ على المصالح المشروعة – باعادة تأمل بما جرى. فحركة وليد جنبلاط ايا تكن حساباته تساهم فعليا في لجم جاد للفتنة السنية الشيعية. لقد بدا للبعض في فترة من الفترات ان اللعب على هذه الحساسية المذهبية يستطيع ان يشكل نقطة قوة للمسيحيين في الصيغة اللبنانية. وهذا وهم كبير قياسا بنوع البدائل التي ستنتج فعليا لا نظريا عن سيناريو صدامي من هذا النوع، لا احد فيه “يهدي” انتصاراته – سيما البشعة في الحروب الاهلية – الى احد.
في لبنان لم تعد هناك قضية تستحق العمل السياسي اكبر من قضية منع الحرب الاهلية في زمن انسداد اي افق اصلاحي في النظام. حتى المسألة الكبيرة المتعلقة بمستقبل “سلاح حزب الله” باتت مرتبطة بانفتاح افق التسويات في المنطقة، وتحديدا بالنسبة الى لبنان ما اسميناه تكرارا منذ عامين “الحل السوري” لموضوع الترسانة الصاروخية في جنوب لبنان في اطار تسوية سورية – اسرائيلية على قاعدة استعادة الجولان المحتل.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى