رغدة الحسن تكتب عن تجربتها في السجن: قراءة أولية لرواية الأنبياء الجدد
حسين عيسو
مآسي المعتقلات في بلدنا سوريا خلال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الفائت أكبر من أن توصف ، وقد تكلم عنها العديد من المعتقلين السابقين أو ممن وثّقوا عنهم سواء في كتب أو مقابلات سميت “أدب السجون” تحكي عن تلك الظروف الرهيبة التي عاشها أولئك الناس والتي تسببت للعديد منهم بعاهات جسدية ونفسية فظيعة ! .
يقول الشاعر فرج بيرقدار والذي أمضى أربعة عشر عاما في السجن في برنامج بعنوان “سجن تدمر وذكرياته” :
” سجن تدمر مثل ما سميت لك مرة مملكة للموت والجنون فعلاً، أنا قلت إنه هي عار مو بس على تاريخ سوريا، مثل ما كثير سجنوا كثير ماتوا، هي عار على تاريخ البشرية فعلاً” !
قرأت العديد من الروايات والمقابلات التي تحكي عن تلك المعتقلات والمعاناة الرهيبة التي تعرض لها معتقلوا الرأي هناك ، ومن خلال ما قرأت عنهم وسمعت بعضهم أرى أنهم ينقسمون الى ثلاثة : قسم دخل السجن وتعذب وخرج وهو نفس الشخص الذي دخل السجن دون أن يستفيد من تلك التجربة الرهيبة ، وآخر خرج ممتلئا بروح الانتقام مقابل عمر ضاع منه هباء ، أما الآخر فقد خرج وقد استفاد من تلك التجربة فلم يفقد توازنه بل استطاع أن يستفيد معرفيا من تلك التجربة نتيجة اختلاطه بنوعيات كثير من البشر حتى من سجانيه العتاة .
يتذكر الكاتب المسرحي غسان جباعي والذي اعتقل لمدة عشر سنوات تلك الفترة قائلا :
أظن الإنسان الأناني ما فيه يعيش بالسجن، الإنسان اللي بيكره الآخرين.. بيكره المجتمع ما فيه يعيش بالسجن، الحب العلاقة لأنه فيه حياة جماعية بالسجن، الحياة الجماعية بتخلق جو كثير جميل، بتحول السجن فعلاً إلى مركز ثقافي !… مثلاً اخترعنا أول شيء أقلام من عظم، نأخذ الضلع هذا تبع اللحمة اللي يجيبوا لنا إياها، نأخذ الضلع نحفه بشكل ونعمل له رأس مدبب ونجيب ورق الميجا تبع السجائر ونكتب عليه بالضغط قصائد وقصص … هذا الاختراع ممنوع….!
هذه المقابلة التي شارك فيها العديد من المعتقلين السابقين وبينهم الكاتب المعروف ياسين الحاج صالح تكلموا جميعا عن تلك الفترة الأليمة بموضوعية يحسدون عليها ، رغم ما تعرضوا له من قهر ، وبالمقابل هناك بعض الروايات التي تحكي عنى تلك الفترة بكثير من الحقد واثارة روح الانتقام ضد كل من شارك في تلك التصرفات اللاأخلاقية وأحيانا حتى من لم يشارك فيها بل وحتى من عانوا مثله ، وأعتقد أن ذلك أيضا مرض يدعو الى علاج نفسي لأن سنين طويلة من القهر والمعاناة قد تؤدي لدى البعض الى خلق آثار سلبية جدا تثير في نفسه روح الانتقام ضد مجتمع بأسره ، فأن تتهم مكونا كاملا بجريمة اقترفتها مجموعة من الأشخاص ، أراها نوعا من التماهي معهم ، وهنا أستطيع القول أن الكاتبة السورية رغدة حسن وبرغم أنها عانت أيضا سنوات في تلك المعتقلات وتعذبت كثيرا الا أنها في مقدمة من كتبوا عن تلك الفترة بموضوعية في سردها لتلك الفترة السوداء من تاريخ سوريا، فقد كتبت عن معاناتها بأسلوب رومانسي في روايتها “الأنبياء الجدد” ونقطة الاختلاف بينها وبين العديد منهم عن تلك الفترة هي أنها لم تفقد توازنها نتيجة فظاعة المعاناة وحولت تجربتها الأليمة الى رواية رومانسية ، حتى نظرتها الى أولئك السجانين هي نظرة طبيب نفسي الى مرضى نتيجة تعرضهم لغسيل دماغ تحولوا معها الى آلة كما هي آلات التعذيب ، فحين تصف أولئك السجانين ب”الكلاب المسعورة” أعتقد أنها تعني أنهم مسعورون أي مرضى تقول : وقع الأقدام كان سريعاً جداً ..لهاثهم الكريه وكأنهم كلاب مسعورة تجرُّ طريدة….يصرخون… يركضون ، والدنيا تدور حولها وكأنها في دوامة .
، فبرغم ما عانته على أيديهم الا أنها لا تعتبرهم مجرمين وأشرارا بالفطرة بل أنهم مرضى يستحقون العلاج ، يقول روسو : “البشر في دخيلتهم طيبون لكن بعض الظروف تحولهم الى أشرار”، وهذا ما قصدته الكاتبة رغدة كما أرى ، تقول على لسان عامر عن بعضهم ،
كان عامر يعرف البعض من العناصر المرافقين، والذين أبدوا مشاعر الحزن والتعاطف معه…، ففي النهاية تطفو الإنسانية فوق كل الترهات التي تحكم العالم !. ليس مستغرباً وجود مثل هؤلاء السجانين، فهم أناس مثلنا، ……
فما تعرضت له ريم من آلام لم يؤدي بها الى اليأس أو الحقد الأعمى لأنها كانت أقوى من كل العذابات التي تعرضت لها فبقيت متفائلة بالمستقبل ولم يخطئ عامر حين سماها بالماردة ، نراها تخاطب الحبيب : اني أزرع حقولي وأسرّح شعر الهضاب كي أحميك من وجع الانتظار وأنّة الوحدة…….وعامر من قتله الشتات والاغتراب وحب الأرض جاء العشق وأحياه من جديد ….. قد يعتقد البعض أن السبب في ذلك هو الحب الذي ربطها مع شريكها في المعاناة ، ولكن من يقرأ الرواية يرى أن الحب حصل حين رأى أحدهما فظاعة ما تعرض له الآخر ، فاستنكر الحالة التي رآها فيه أولا ثم أعجب بقوة احتمالها كامرأة ينظر لها في شرقنا التعيس كمتاع ومكسورة الجناح ، فكان الحب الذي جمع بين قلبين معذبين ، وحاولا معا أضاءة الشمعة لا لعن الظلام فقط ، تقول : ُصدم حين رآها !!….. كانت محمولة من قبل اثنين من السجانين، و قدماها ترسمان خطاً طويلاً من الدماء على الأرض، وهي في حالة إغماء أو شلل ربّما !! قال بدهشة: من هذه الماردة ؟! ولم كل هذا التعذيب لامرأة ؟!
بداية توقعت أن اسم الرواية “الأنبياء الجدد” لا معنى له سوى لأنها بحاجة الى اسم فكان هذا العنوان ، لكني وبعد قراءة الرواية التي تحكي عن قصة الحب التي جمعت شخصين متمردين ينتميان الى حزبين وشعبين وديانتين مختلفتين قاما بكسر كل تلك الحواجز واخترقاها فاستحقا بذلك لقب “أنبياء جدد” ، ألم يكن الأنبياء عبر التاريخ ثوارا تمردوا على التقاليد البالية ووقفوا في وجه مضطهديهم حتى الرمق الأخير ، أليس هذا ما فعله كل من “عامر وريم بطلة الرواية”، ولأنها المتفردة في تمردها والتواقة للشمس و الإبحار،… من اتحدت عيناها مع الأفق، وشربتا أنخاب الذاكرة القادمة،…من امتلكت الجرأة وكفرت بكل القوانين التي وضعت لإلغاء حقنا بإنسانيتنا ! .
وكفنان وشاعرة لم يزدهما العذاب الا حبا للآخرين وتضامنا معهم ، وهذا يبدو واضحا في جزء من روايتها حين تتكلم عن لقاء عامر ببعض المعتقلين الكرد في السجن وما دار بينهم من أحاديث لم تحاول اغفال هذا الجزء من الرواية ، وتكلمت عن الكرد كشعب له من الحقوق ما لغيره من شعوب الأرض وهو للأسف أسلوب غريب عن المثقف السوري الا نادرا ! ، تقول : كان عامر جالسا يستقري الوجوه، حين سمع عزف بزق حزين، نظر إلى مصدر الصوت فرأى ذاك الشاب نيروز، يحتضن البزق ويعزف أغانٍياً لكردستان .
ذهب باتجاهه بلا وعٍي ، بالفطرة والغريزة ،وكأن الآلام تتوحد في بوتقة النغم،وتغفل عن كل شيء، إلا كونك إنساناً عارياً من كل الوثائق والإثباتات والحدود والأقاليم ….. كانت تدور الكثير من النقاشات والحوارات بين عامر وفاضل حول قضية الأكراد كقومية لها مقومات الأمة والحق بالوجود ، كان عامر يجد الكثير من التقاطعات بين القضية الفلسطينية ، وقضية الأكراد وكان متعاطفاً معهم وإن اختلفت الرؤى والأساليب .ولأنه عامر العربي و الأممي ،كان يناصر الأكراد ويؤيد حقهم في تقرير مصيرهم.
أرى أن هذه الرواية تستحق لا أن تقرأ فقط بل أن تمثل كفيلم سينمائي أكثر واقعية من فيلم الحدود “دريد لحام ورغدة” لأن هذه الرواية حقيقية وأبطالها حقيقيون تعرضوا فعلا لما يشبه فيلم الحدود فهي تحكي عن قصة حب حصلت في ظروف قاسية “عشق سجين” عبرت الحدود وربطت “قلبين معذبين” برباط الحب المقدس الذي قهر كل الصعاب ووحد الحبيبين رغم كل محاولات التفريق بينهما فأكثر من مرة تم نفي عامر أو ألقي به خارج الحدود لكنه يعود الى الحبيبة أو تلحق هي به الى أن فرضا حبهما لينجبا أبناء هم حتى الآن محرومون من جنسية أمهم السورية وهنا أيضا يتشابه وضع ريم السورية وأبنائها بوضع الكرد السوريين فالكردي سحبت منه جنسيته التي كان يتمتع به قبل أن يصدر قرار الاحصاء المشئوم بسبب كونه ينتمي الى القومية الكردية ، كذلك “ريم” التي وحسب كل قوانين العالم التي تمنح جنسية الأم لأبنائها ،الا هذه المتمردة حرم أبناؤها من جنسيتها كون أبيهم فلسطينيا ، والأهم هو أن تلك الزنازين التي ضمت مجموعات مختلفة من البشر ، لم تدفعهم الى التناحر والتنافر كما هو حال المضطهَِدين عادة بل نراهم متضامنين تجاه جلاديهم متعاطفين مع آراء بعضهم رغم اختلاف أديانهم وجنسياتهم فهم سوريون وفلسطينيون ولبنانيون وأتراك ، كرد وعرب وترك ، مسلمون ومسيحيون وغيرهم ، مجموعة من الاثنيات والأديان والمذاهب جمعوا قسرا في زنازين لقهرهم وتدمير معنوياتهم فتحولوا الى مردة بالحب ، تواصلوا وتعارفوا وتكاتفوا وأحبوا رغم كل تلك الظروف القاسية فاستحقوا لقب “الأنبياء الجدد” .