السير الذاتية في بلاد الشام
عمر كوش
يدرس هذا الكتاب السير الذاتية، بوصفها موضوعاً للدراسة ومصدراً للبحث في العلوم الإنسانية، ويحاول مؤلفوه سد الفجوة الكائنة بين ندرة الدراسات العلمية حول موضوع السير الذاتية وبين وفرتها، سواء على شكل مذكرات شخصية، أم روايات سيرة الذاتية، أم بشكل أوراق خاصة منشورة باللغة العربية. والهدف من ذلك هو تعميق البحث في تاريخ هذا الجنس الأدبي ودراسة التحوّلات التي طرأت عليه في كل من سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، مع التركيز بوجه خاص على المرحلة المعاصرة التي انطلقت مع حركة النهضة العربية، وشهدت تطوّراً غير مسبوق لكتب السيرة الذاتية.
ويتناول الكتاب نشوء جنس السيرة الذاتية وتعريفها، ودراسة حالات من كتابة السيرة الذاتية، والسير الذاتية بوصفها مصدراً للدراسات التاريخية، إلى جانب تناول قصص حياة معاصرة، من خلال ممارسات واستخدامات معينة، وكيفية حفظ المذكرات والأوراق الخاصة وإصدارها. وطرحت فيه أسئلة عديدة تخص هذا الجنس الأدبي وظروف كتابته، مثل: ما هو تعريف السيرة الذاتية؟ وما هي نقاط التقاطع بينها وبين المذكرات اليومية؟ وما هي أصول تشكل هذا النوع الأدبي في بلاد الشام؟ وما تأثير المصادر الأجنبية على نشوئه وتطوره؟ وما الفرق بين السيرة الذاتية لدينا والسيرة الذاتية عند الغرب؟ وهل يكتب المرء سيرته الذاتية وما هي بواعثها وسيرورة كتابتها وشروط إنتاجها وطبيعة الصعوبات التي تواجه كتابها؟.
والواقع هو أن جنس السيرة الذاتية قديم في ثقافتنا العربية، لكنه اتّخذ أبعاداً جديدة في العصر الحديث، الذي عُرف باسم عصر النهضة، وصار اليوم يتمتع باستقلاليته كجنس أدبي، وأن كاتب السيرة الذاتية في بلاد الشام قد نهل من مناهل متعددة، غربية وعربية على السواء. وكانت السيرة الذاتية العربية القديمة تتصف بالخارجية، بمعنى أنها تتحدث عن الظروف الخارجية للشخص، أما السير الحديثة فتتميز بكونها تغوص في دواخل الشخصية وتعري النفس وتقدم انعكاس الخارج وأحداثه على النفس، وبالإمكان القول إنه من الصعب كتابة سيرة ذاتية جوانية في ثقافة لا تميل إلى تعرية الذات والاعتراف بأفعالها غير المستحبة اجتماعياً.
وتلتقي السيرة الذاتية، التي يصعب تعريفها بدقة، مع المذكرات، من جهة، وتفترق عنها، من جهة أخرى، ولا شك في أن هناك تعدداً في أشكال السرد، حيث تكتب السيرة الذاتية أحياناً بضمير المتكلم وأحياناً أخرى بضمير الغائب. وبرزت، في السنوات الأخيرة، أشكال جديدة لكتابة السيرة الذاتية كالمدوّنة الالكترونية.
ويطرح الكتاب أسئلة تطاول خصوصية السيرة الذاتية، سواء تلك التي تكتبها المرأة، أم السيرة الذاتية التي يكتبها الفلسطيني، وتطاول كذلك علاقة السيرة الذاتية بالزمن الذي كتبت فيه، وصلتها، على الرغم من كونها مرآة لصاحبها، بالمجتمع الذي ينتمي إليه كاتبها. وهناك أسئلة أخرى تتعلق بالتوافق بين المشروع الذي وضعه كاتب السيرة الذاتية لنفسه وبين النتاج الذي أنتجه، وكذلك بالميثاق الذي أقامه مع القراء، وبطبيعة المسكوت عنه في السير الذاتية والمذكرات، وبالحق الذي يمتلكه الكاتب، الذي يتجنب تعرية نفسه، في تعرية الآخرين.
ويمكن للسيرة الذاتية بوصفها جنساً أدبياً، وخلافاً للنظرة التقليدية التي ترى فيها مصدراً ثانوياً للباحث، أن تشكل مصدراً أولياً له، شريطة أن ينجح الباحث في أن يجعل المعلومات التي يستقيها منه تتقاطع مع معلومات المصادر الأخرى التي اصطُلح على تسميتها بالأولية. كما يمكن للسير الذاتية، أو المذكرات أو الأوراق الخاصة، أن تكتسب أهمية خاصة في ظل غياب أو ندرة وثائق المحفوظات.
ويتخذ كاتب السيرة الذاتية أحياناً موقف الراوي العالم الذي لا تغيب عنه شاردة ولا واردة، أو قد يلجأ إلى تعدد الأصوات، وينطلق من الواقع ويحاول تجاوزه وإعادة صياغة الأنا من الناحية الأدبية، وقد تأتي كنتاج إنساني بالرغم من الفردانية التي تنتج السيرة الذاتية.
وازداد في العقود الأخيرة الانشغال بكتابة السير الذاتية من طرف قطاعات واسعة ومختلفة من المثقفين والكتاب، وهي سير، إما كتبت بضمير المتكلم مثل رشاد رشدي، أو أتت على شكل حوارات مطولة كما في الحوارات التي أجراها صقر أبو فخر مع صادق جلال العظم وأدونيس، وكأن صاحب هذا النوع من السيرة – الحوار يريد أن يضع تاريخه وأفكاره ونتاجه موضع مسائلة. وقد روى سامي الدهان سيرته على لسان صديق. وهناك السير التي تعرض تجارب سياسية محددة مثل التجربة السياسية الإخوانية للسيدة زينب الغزالي، وثنائية عبد السلام العجيلي ذكريات أيام السياسة، وسيرة لويس عوض أوراق العمر، التي تمزج بين الشخصي والعام. ويُعيد الإقبال على كتابة السير الذاتية في الأدب العربي السؤال عن التعريف والتحديد غير الممكنين لهذا الجنس الأدبي، وعن محتوى السيرة ودلالاتها، على الأقل، هل تكون السيرة الذاتية مجرد استرجاع لسنوات مضت أم هي آلية دفاع نفسي أو تسجيل للمرحلة الحياتية.
ويدرس ماهر الشريف مذكرات أحمد الشقيري التي كتبها بعد أن استقال من رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية في كانون الأول/ ديسمبر 1967. ويظهر من خلالها أنه كان يدوّن، أولاً بأول في يومياته، ما يشهده من أحداث، أو ما يدور بينه وبين الآخرين من حوارات. وقد خلّف مذكرات سياسية غنية، حيث لم يقتصر على رواية الأحداث، بل عرض أيضاً وجهة نظره فيها، وعالج قضايا سياسية مهمة، كما عرّفنا على الشخصيات التي ارتبطت بهذه القضايا، ولا سيما من ملوك ورؤساء عرب؛ فكانت مذكراته تؤرخ حقبة كاملة من خلال شخص شارك مشاركة فعالة في أحداث تلك الحقبة التي كتب عنها. واعتمد منظوراً كرونولوجياً في كتابة مذكراته، التي بدأت مع طفولته الباكرة وانتهت بانسحابه من العمل السياسي القيادي.
ويرى الشريف أن مهمة دارس السيرة الذاتية أو المذكرات تكمن في تحليل العلاقة التي يزعم الكاتب أنه يبنيها مع قرائه، وفي تحديد طبيعة الجمهور الذي يستهدفه. وقد طمح الشقيري إلى أن تكون مذكراته سجلاً لأعظم أحداث وقعت للأمة العربية بعد الحملات الصليبية وغزوات التتار في القرون الوسطى، وتوجه، أساساً، إلى الأجيال العربية الصاعدة والوافدة، كونه كتب كتابه ليقرأه المواطن العربي الذي شهد الكوارث الثلاث: قيام إسرائيل في عام 1948 والعدوان الثلاثي في عام 1956 وحرب حزيران/ يونيو في عام 1967، وليقرأه المواطن العربي من جيل الثورة والتحرير، سواء من يدب اليوم على الأرض العربية رضيعاً، أم من تختزنه الأصلاب، وتحمله البطون. كما دعا الشقيري في كتابه المعنون “على طريق الهزيمة مع الملوك والرؤساء”، القارئ العربي إلى قراءة الصفحات التي كتبها قراءة واعية عميقة، كي يرى كيف نجحت السياسة العربية في قيادة الأمة العربية إلى الهزيمة، في وقت تردد فيه أجهزة الإعلام العربية الرسمية شعارات التحرير، وتلعلع بأناشيد النصر. ومع أنه قدّر أن أجهزة الرقابة في عدد من الدول العربية ستقوم بمنع كتابه، كما منعت كتبه السابقة، إلاّ أنه توقع أن الكتاب سيصل إلى المواطن العربي في الوطن العربي بأسره، ورغماً عن الدول العربية نفسها، وسيتبادله المواطنون من بيت إلى بيت ليعرفوا الحكم العربي على ضآلته وضحالته.
وتحفل مذكرات أحمد الشقيري بمعلومات غنية عن حيثيات تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في أيار/ مايو من العام 1964، ويروي بالتفصيل كيف تم اختياره في أيلول/ سبتمبر 1963 ممثلاً لفلسطين في جامعة الدول العربية، ويتطرق إلى المشكلات التي صادفته كي يضمن مشاركته، كممثل لفلسطين، في مؤتمر القمة العربي الأول، الذي عقد في القاهرة في كانون الثاني/ يناير 1964، ويتحدث مطولاً عن اللقاءات الحاشدة التي أجراها، في سياق تحضيراته لعقد المؤتمر الفلسطيني، مع الفلسطينيين في عمّان وإربد والزرقاء، وفي القدس وبيت لحم وبيت جالا والخليل ورام الله والبيرة ونابلس وجنين وطولكرم وقلقيلية. ويعترف بأنه هو الذي صاغ مشروع “الميثاق القومي” و”النظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية” في القاهرة في شباط/ فبراير 1964، وبأنه لجأ إلى “الدكتاتورية” وفرضها على الملوك والرؤساء وعلى الشعب الفلسطيني، عندما بدأ التحضير لعقد المؤتمر الوطني الفلسطيني. ويذكر كيف أن المؤتمر انتخبه رئيساً، وأقر الميثاق والنظام كما قدمهما، وأعلن قيام منظمة التحرير الفلسطينية، وانتخبه رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وخوله اختيار أعضاء اللجنة التنفيذية.
وتشكل مذكرات أحمد الشقيري نموذجاً للدراسة ومصدراً تاريخياً، ويرى الشريف أن كاتب المذكرات يختلف عن المؤرخ في أنه لا يستطيع المباعدة بينه وبين الحدث الذي يرويه، ويطالبه بأن يؤنسن الحدث، برصده حركة صانعيه بنوازعهم المختلفة.
[ الكتاب: السير الذاتية في بلاد الشام.
[ تأليف: مجموعة من المؤلفين، تنسيق ماهر الشريف وقيس الزرلي.
[ الناشر: المعهد الفرنسي للشرق الأدنى والمدى، دمشق، 2009.
المستقبل