المقاومات المنتصِرة عبر التاريخ: بعضها تسلم السلطة وبعضها سلم سلاحه
رلى بيضون
أي منها لم “يتعايش” مع الدولة… باستثناء نموذج “حماس” في غزة ؟
لم يسبق ان طُرح ملف العلاقة بين الدولة والمقاومة، وخصوصا ما يتعلق منه بسلاح “حزب الله”، في شكل واضح وعلني كما هي الحال اليوم.
فبعدما خرق هذا السلاح “المحظور” واستُخدم في الداخل، تخطى السجال في شأنه اطاره المحلي، وبُحث الموضوع علنا في اجتماع الدوحة، تحت المجهر العربي وبرعاية دولة قطر. وقد خصص له الاعلان الصادر عن هذا الاجتماع -والذي وقعه ممثلو كل الاطراف ومنهم “حزب الله”- بندا هو الاوسع والاكثر تفصيلا، لحظ “حظر اللجوء الى استخدام السلاح او العنف او الاحتكام اليه في ما قد يطرأ من خلافات، اياً تكن، وتحت اي ظرف كان”، و”حصر السلطة الامنية والعسكرية على اللبنانيين والمقيمين في يد الدولة”، على ان تتم “معاودة هذا الحوار برئاسة رئيس الجمهورية فور انتخابه، وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، وبمشاركة الجامعة العربية، وبما يعزز الثقة بين اللبنانيين“.
والمطالبة بايجاد “استراتيجية دفاعية”، التي بدأ البحث فيها خلال “الحوار الوطني” عام 2006 قبل ان تقطعه حرب تموز، عادت اليوم الى الواجهة. فقد اشار رئيس الجمهورية ميشال سليمان في خطاب القسم الى “استراتيجية دفاعية تحمي الوطن، متلازمة مع حوار هادىء للافادة من طاقات المقاومة خدمة لهذه الاستراتيجية“.
ووردت عبارة “استراتيجية دفاع وطني” ايضا في خطاب الامين العام ل”حزب الله” السيد حسن نصر الله في ذكرى التحرير قبل ثلاثة أيام. وفي هذا الاطار، برزت اشارته الى المقاومات التاريخية، بقوله: “عندما ينظّرون علينا بالمقاومة الفرنسية والمقاومة الفيتنامية والمقاومة الهندية يقولون لنا ان المقاومات بعد انجاز التحرير سلمت سلاحها، وانا اقول لهم كل المقاومات المنتصرة في التاريخ اما تسلمت السلطة بعد انتصارها واما طالبت بالسلطة، ونحن لم نطالب بالسلطة اصلا”. وطرح نموذجا لبنانيا للعلاقة بين المقاومة والدولة، يقوم على الآتي: “نحن نستطيع ان نقدم للعالم بلدا يقوم فيه الاعمار والاقتصاد والدولة والشركات والمساهمات والقطاعات الانتاجية والى جانبه مقاومة لا تمارس مهمة الدولة ولا تنافس السلطة في سلطاتها بل تتحمل بجانب الدولة المسؤولية عن تحرير الارض والدفاع عن الوطن. هذه هي الصيغة التي تعايشنا من خلالها كمقاومة مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ومن كان وفيا لارث هذا الشهيد الكبير عليه ان يعمل على احياء هذا النموذج“.
وبطرحه العودة الى التعايش بين الدولة والمقاومة، يتجاهل السيد نصر الله كل التطورات التي حصلت في لبنان منذ تحريره، بفضل المقاومة، من الاحتلال الاسرائيلي عام 2000، وخصوصا في ما يتعلق بالرعاية السورية لهذه “المساكنة”، التي في كل الاحوال لم تعد بعد التحرير موضع التفاف وطني، وان رأى السيد نصر الله في خطابه الاخير ان “المقاومة لا تنتظر اجماعا وطنيا ولا شعبيا“.
ومن يعد الى التاريخ ويدقق في مسيرة المقاومات التاريخية، يلاحظ امرين: اولا، صحيح ان بعض المقاومات المنتصرة تسلم السلطة، كما هي الحال في فيتنام او الجزائر، حيث تحوّلت القوى التي قاتلت الاحتلال سلطات حاكمة بعد رحيله، لكن صحيح أيضاً ان مقاومات اخرى لم تتسلم السلطة، ولم تطالب بها اساسا، مثل المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي التي حلت نفسها بعد زواله، او “الجيش الجمهوري الايرلندي”، الذي انتقل من النضال الاستقلالي المسلح ضد الحكم البريطاني لايرلندا الشمالية الى النضال السياسي السلمي، وسلم سلاحه بعد 10 سنين من القتال.
و ثانيا، في اي من الحالات، لم يحدث تعايش بين المقاومة والدولة؟ إلا إذا استثنينا الحال الفلسطينية، حيث قدم قطاع غزة نموذجا واضحا عن عواقب الثنائية الامنية والعسكرية داخل اي كيان والتي انتهت الى حمام دم بين حركتي “حماس” و”فتح“.
للحديث عن هذه القضايا، راجعت “النهار” الباحث السياسي زياد ماجد في بعض ما كان قد خصّها به في 27 أيلول عام 2006 من مقارنات بين المقاومات في عدد من الدول، من اجل الوقوف على ما يمكن أن يفيد الوضع اللبناني اليوم ويقوّمه.
الهند
يلاحظ ماجد بداية ان “الأمثلة الثلاثة التي اوردها السيد نصر الله (فرنسا وفيتنام والهند) متناقضة تماماً. ففرنسا وفيتنام، اللتان شهدتا مقاومة مسلحة، في سياقين تاريخيين مختلفين، عرفتا نتائج ونظماً سياسية متناقضة، في حين أن الهند اتّبعت مع المهاتما غاندي مقاومة سلمية ركزت على الاعتصامات والاضرابات والتظاهرات ومقاطعة بضائع المستعمر البريطاني، وصولاً الى حالات العصيان المدني وتحمّل القمع والرصاص، الى أن بلغت استقلالها. وهي منذ نيلها الاستقلال الى اليوم، ورغم كل المشاكل والانفصالات والصراعات السياسية والحدودية والاغتيالات التي طالت رؤساء لها، دولة مستقرة على حكم مدني وعلى تداول السلطة بالانتخابات العامة وعلى فصل للسلطات وعلى حرية الصحافة والمعتقد. وهي تشهد، رغم التفاوتات الطبقية والاجتماعية والمناطقية الهائلة، احد أعلى معدلات النمو الاقتصادي في العالم اليوم. لذلك، لا علاقة لها بما يجري البحث فيه حول أدوار المقاومات المسلحة ومآلاتها“.
فرنسا
بالعودة الى النماذج الأخرى، يعرض ماجد تجارب عدة مسلطا الضوء على المسارات المختلفة التي اتخذتها.
في فرنسا، الدولة الراسخة مؤسساتها وقيمها الجمهورية، أتى الاحتلال النازي لجزء منها وقيام حكومة فيشي المتعاملة معه، ليشكل عارضاً مؤلماً وقصيراً في السياق التاريخي للبلاد. وتعاونت مقاومتان ضد هذا الاحتلال: مقاومة سياسية في الخارج قادها شارل ديغول بحيث أبقى “فرنسا الحرة” حية وشريكة ل”الحلفاء” حفاظاً على مكانتها العالمية المفترضة، ومقاومة مسلحة في الداخل كان الشيوعيون عمودها الفقري.
وانتهت المقاومة في شقيها ليس الى نصر على العدو فحسب، بل الى زوال نهائي لهذا العدو. فزعيم مقاومة الخارج دخل باريس مع الدخول العسكري للأميركيين والبريطانيين (والقوة الرمزية الفرنسية التي شاركت معهم) محرّراً، فاضاف الى مشروعيته الدولية مشروعية وطنية، كان عليه لتكريسها أن يتفاوض مع مقاومة الداخل التي كانت تعتبر نفسها صاحبة الفضل في الصمود في وجه المحتل.
الا انه فضّل التريّث وقام بأمرين: اولا، نظّم جولة في المدن الفرنسية للاحتفال بالتحرير وعرض قوته، داعياً الى استتباب الأمن، متسامحاً في جولته مع مسؤولين عملوا تحت حكم فيشي قابلاً إنخراطهم في الإدارات العامة والشرطة لإعادة فرض النظام. ثانيا، زار بعد نهاية الحرب موسكو وانتزع اعتراف ستالين به، ليواجه بذلك أي تشكيك شيوعي فرنسي في مشروعيته. وبعد ذلك فاوض مواطنيه الشيوعيين، وكانت ميلشياهم تعد ما يقارب ال70 ألف مسلح، معترفاً بقوتهم السياسية الكبرى. فأعلنوا حل الميليشيا في مهرجان شارك فيه قادتهم، بمن فيهم المنفيون العائدون، وانخرطوا في مسار سياسي أدى الى مواجهات وتسويات وانتصارات وإخفاقات كما في أي نظام ديموقراطي.
المهم، كما يوضح ماجد، أن المقاومة المسلحة حلّت نفسها بعدما زال الاحتلال وصارت قواها جزءاً من الحياة السياسية المدنية.
فيتنام
أما في فيتنام، فالأمور اختلفت. الصراع كان جزءاً من الحرب الباردة، بحيث قررت الولايات المتحدة الحد عسكرياً من الزحف الشيوعي في آسيا (كما في أميركا اللاتينية وأفريقيا يومها)، فأرسلت إبتداء من أوائل الستينات خبراء عسكريين لدعم فيتنام الجنوبية في مواجهة فييتنام الشمالية الشيوعية. ومع ازدياد التورط الأميركي إبتداء من منتصف الستينات وتحوّله حربا أميركية مباشرة، تضاعفت المساعدة السوفياتية والصينية لفييتنام الشمالية، الداعمة بدورها لقوات الفيت كونغ التي كانت تواجه الأميركيين في جنوب البلاد.
وعام 1973 بدأ الانتصار الساحق للفيت كونغ والشماليين. وحضّرت حكومة الفيت كونغ الانتقالية ابتداء من عام 1975 (تاريخ سقوط سايغون، عاصمة الجنوب، ونهاية الحرب) اتفاق الوحدة مع الجنوب. فقامت عام 1976 جمهورية فيتنام الاشتراكية على كل أراضي البلاد وسيطر فيها الشماليون والشيوعيون الجنوبيون على الحكم بكل مفاصله.
ويشرح ماجد ان غالبية مقاتلي الفيت كونغ اندمجوا في الجيش الوطني، جيش الدولة “الجديدة” وحزبها الحاكم، ولم نقع في مسار سياسي “مثير” نتيجة الغلبة الهائلة في الحرب وغياب الحياة الديموقراطية والتعدد الحزبي من بعدها.
الجزائر
تختلف الجزائر عن فرنسا وفيتنام. فهي كانت تحت الحكم العثماني الآخذ في التآكل حين اجتاحها الفرنسيون وافتتحوا مرحلة الاستعمار فيها. وهذا الاستعمار تخطى الاحتلال العسكري الى ضرب البنى الاجتماعية والهوية اللغوية في البلاد ودخل في مجال تنظيم التشريعات الدينية، ثم بلغ مرحلة الضم وجلب “المستوطنين” وإدارة السياسة والاقتصاد واستحداث البنى التحتية والتنظيم المدني والإدارة الضرورية لكل ذلك.
على أن حرب التحرير الجزائرية التي اتخذت أشكالاً مختلفة الى أن صار الشكل العسكري – السياسي “الكلاسيكي” الشكل المتواصل والواضح لها بعد عام 1954، عمدت في مرحلة نموّها الى الافادة من مناخ حركات التحرر الوطني السائد بعد الحرب العالمية الثانية، واستعداد الولايات المتحدة لإضعاف أوروبا الكولونيالية لمصلحة مشروعها الإمبريالي (بالمعنى العلمي للكلمة)، وصعود الناصرية في مصر وما حملته من “تطلعات وحدوية“.
لكن حرب التحرير هذه شهدت أيضاً صراعات وتصفيات داخل صفوف الجبهة القائدة لها، “جبهة التحرير الوطني”، وبينها وبين قوى مقاومة أخرى، لم تهدأ بعد الاستقلال عام 1962 وقيام نظام الحزب الواحد.
أما مآل المقاومين فكان إما تشكيل “الجيش الشعبي الوطني” (خلف جيش جبهة التحرير الوطني) الذي انضم إليه ضباط خدموا مع الفرنسيين ولم يرحلوا معهم، وهو اليوم الجيش الجزائري النظامي، واما الإنخراط في مؤسسات الدولة الاشتراكية الجديدة حيث ورث القطاع العام الإدارة الفرنسية، أو العودة الى مزاولة الأنشطة السابقة لحرب الاستقلال، أو الانتقال الى البحث عن عمل في مدن راح يضربها الترييف وتتراجع أحوالها المعيشية والعمرانية.
ومذذاك، ولو بتفاوت، بقي الجيش الجزائري اللاعب الأول في الحياة السياسية في البلاد…
إيرلندا
يقول ماجد إن “الجيش الجمهوري الإيرلندي” الذي اعتمد على منظمة “الشين فين” السياسية، انتقل من النضال المسلح الهادف الى إنهاء الحكم البريطاني لإيرلندا الشمالية وتوحيدها مع الجمهورية الإيرلندية، الى النضال السياسي، في مجتمع منقسم على أسس عدة أبرزها طائفي بين أكثرية الكاثوليك التي تؤيده وأكثرية البروتستانت المؤيدة لخصومه الوحدويين (المصرّين على البقاء ضمن بريطانيا).
والجيش الجمهوري الذي فاوض بواسطة قادة “الشين فين” حصل في مقابل تسليم سلاحه على تعهدّات بعدم ملاحقة أعضائه، وازداد انخراط خطه السياسي في الانتخابات والعمل السياسي المدني. كما تمّ الحد من عمل المجموعات الوحدوية المستفزة لمؤيديه، والتضييق على بعض أنشطتها. ورغم انشقاق مجموعات صغيرة عنه رفضت وقف النار وتسليم السلاح، بقي المسار السياسي السلمي لهذا “الجيش” آخذا في التطور، ومن المرجّح أن ينجح.
فلسطين
تقدم فلسطين نموذجاً فريداً، في رأي ماجد. ففيها نجد اليوم الصراع الوحيد المستمر منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية، والاحتلال الوحيد المواجَه بعشرات القرارات الأممية والمتواصل منذ ما يزيد على نصف قرن.
وبعيداً من أي مقاربة تاريخية تفصيلية، يمكن القول إن الصراع في فلسطين بين السكان الأصليين والمهاجرين اليهود الوافدين لإقامة وطن قومي، استمر عقوداً قبل قرار التقسيم وقيام دولة إسرائيل. ثم دخل الصراع بعد هذا القرار في مرحلة ثانية أدارته فيها الأنظمة العربية بأسوأ الأشكال الممكنة، حتى تأسيس حركة “فتح” منتصف الستينات، وتمتينها مع الجبهتين “الشعبية” و”الديموقراطية” دعائم “منظمة التحرير الفلسطينيية”، وخلقها هوية سياسية فلسطينية أطلقت مرحلة ثالثة، مرحلة الكفاح المسلح من خارج الحدود، مع بعض العمليات في الداخل. واستمرت هذه المرحلة من عام 1968 الى عام 1987 ومرت بتجربتي الأردن ولبنان.
ثم انطلقت المرحلة الرابعة مع الانتفاضة الأولى عام 1987، وأفضت الى اعتراف دولي وإسرائيلي بشرعية “منظمة التحرير” تجسّد باتفاق أوسلو وبقيام السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994. لكنها أفضت أيضاً الى بروز قوة إسلامية كانت حتى عام 1987 تؤدي دوراً اجتماعياً وتنأى بنفسها عن قتال الاسرائيليين، وهي “حماس” ذات المرجعية الأخوانية، وذات الشعبية والقدرات العسكرية التي أخذت من يومها بالاتساع، حتى باتت منافسة لفتح وللسلطة.
وبوصول المفاوضات حول القضايا المعلقة الى حائط مسدود عام 2000 نتيجة تصاعد الاستيطان الاسرائيلي، إنفجرت الانتفاضة الثانية، ودخل الشعب الفلسطيني في مرحلة خامسة من نضاله الطويل شهدت تحوّلات كبيرة: دمار مؤسسات السلطة الوطنية، رحيل أبي عمار، انتهاء سيطرة “فتح” على المجال السياسي وفوز “حماس” بالانتخابات وبقاء جهازها العسكري مستقلاً عن اجهزة السلطة، الانسحاب الاسرائيلي من غزة وتفكيك المستوطنات فيها، مظاهر الفوضى الأهلية الفلسطينية والانهيار الاقتصادي.
وانكشف الوضع الفلسطيني عن واقع تتعدد فيه الأجهزة الرسمية والميليشيات الشعبية، وعن غياب استراتيجية وطنية لمواجهة السياسات والممارسات الاسرائيلية وتأمين قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. ثم تحوّل مأسوياً مع سيطرة حماس على قطاع غزة إثر صراع مسلح دامٍ مع حركة فتح والقوى الأمنية “الرسمية” للسلطة، وتشظي الأخيرة بين الضفة وغزة وانهيار ما بقي من مؤسسات، وما بقي للاقتصاد الفلسطيني من مقوّمات.
بذلك، يخلص ماجد، يمكن القول إن التجربة الفلسطينية تقدم نموذجاً حياً عن استحالة استمرار الثنائيات الأمنية والعسكرية داخل أي كيان، وعن المآل الصدامي الحتمي وتداعياته الكارثية، ولا سيما في ظل تداخل الأجندات الداخلية والخارجية وتناقضها.