السياسة والثقافة والأخلاق
محمد علي صابوني
قالوا وقد أخطئوا ..!!: “إن السياسي المقيد بالأخلاق ليس بسياسي بارع، وهو لذلك غير راسخ في منصبه”
وقالوا أيضا: ” لابد لطالب المنصب من الالتجاء إلى المكر والرياء والكذب، فإن الشمائل الإنسانية العظيمة من الإخلاص، والأمانة والصدق تصير رذائل في السياسة، وأنها تبلغ في زعزعة المنصب أعظم مما يبلغه ألد الخصوم”.
بعض الذين يعملون في حقل السياسة، يعتقدون أن الأخلاق تقف حاجزا أمام تحقيق مآربهم، وعندما يثبت أن أحد الساسة اقترف عملا غير أخلاقيا؛ مثل الكذب، والرشوة والسرقة، والابتزاز، والعمل من اجل تحقيق المصلحة الشخصية أو الحزبية بدلا من المصلحة العامة التي من اجلها هو موجود في موقعه، تكون الإجابة منه أو من مؤيديه، عند توجيه الانتقاد إليه : “يا أخي هاي السياسة” أو في لغة قاسية في بعض الأحيان “شو يفهمك بالسياسة”. هل تحولت السياسة إلى اله ورب يعبد من دون الله أو مع الله؟؟؟، هل السياسة أصبحت تشرع للساسة أن يتخطوا الأخلاقيات البسيطة وتفرض على المجتمع أن يتقبل هذه المتخطيات بكونه يجهل في السياسة فلا بد له إذن أن يصمت؟؟؟.
إن الكثير من الساسة في القرن العشرين، ، قد ادّعوا بصراحة واضحة انه لا يمكن التوفيق بين الدين والسياسة وذلك لان الدين يلزم التقيد بأخلاقيات كثيرة والتي تجعل السياسي غير مرن وتصعب عليه الحركة وربما تؤدي به إلى أن يخسر مكانته. وقد أتحفنا/ ميكافيلي / في كتابه “الأمير” بكثير من الأساليب والطرق التي تجعل من الأخلاق عائقا لطالب الحكم من أن يصل إلى الحكم والى أن يثبّت حكمه، وقد توصل إلى نتيجة خاطئة مفادها أن “الغاية تبرر الوسيلة”، وعلينا ـ ونحن نضع خططنا ـ ألا نلتفت إلى ما هو خير وأخلاقي بقدر ما نلتفت إلى ما هو ضروري ومفيد.
ولكن سير الحكام الأفاضل مثل عمر بن الخطاب – وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما – في التاريخ تهدم هذا الرأي من أساسه. ولا دليل على أن الشعوب في عهد الحكام الأشرار كانت أحسن حالاً منها في عهد الحكام الأخيار. بل إن التاريخ يثبت على الدوام أن الشعوب في عهد الساسة الأخيار كانت اسعد حالاً منها في عهد الحكام الأشرار. والمغالطة ناشئة من أن بعض الحكام غير الناضجين في السياسة يكونون ذوي نيات خيرة، ولكن ليست لهم المقدرة السياسية على تنفيذها، فيتعثرون ويعثـّرون شعوبهم معهم. غير أن السبب الحقيقي هو النقص في مقدرتهم السياسية لا في تمسكهم بالأخلاق الفاضلة.
– ما هي السياسة؟!! لهذا السؤال العديد من الإجابات، فالبعض يدعي أنها فن الممكن، والآخر يدعي بأنها القدرة على التدبير من اجل الحصول والوصول إلى الغاية، ولكن السياسة من وجهة نظر أخلاقية هي : استعمال العقل والمنطق والتجربة والخبرة من اجل تحسين وتدبير شؤون الخلق وذلك في اقل تكلفة ممكنة وبطريقة أكثر فعالية، ومراعاة الواقع والإمكانات المادية دون الخروج على حدود الأخلاق والمحرمات والتنازل عن الكرامة والمبادئ التي هي الأساس ومن اجلها نعيش. ومن ثم إجادة تصنيف الأهداف والغايات حسب سلم أولويات، حيث يكون سلم الأولويات مقيدا بتحقيق المصلحة العامة على المصلحة الحزبية الشخصية، ومن ثم إجادة وضع استراتيجيات لتحديد ملامح المراحل المختلفة لتحقيق الهدف ومن ثم في كل مرحلة إجادة تحديد التكتيك المناسب لاجتياز هذه المرحلة. كل ذلك دون تخطي الأخلاق والمحرمات ودون تخطي العقيدة أو التنازل عنها تحت قهر الأمر الواقع.
وباختصار شديد فإن السياسة بالعموم هي “تدبير شؤون الخلق من اجل تحسين أوضاعهم”، ولكن ما يحدث في أيامنا هو أن المعادلة الوحيدة التي تتحكم في الناس هي: /المصلحة تتحكم في الجميع وتحدد لهم أهدافهم /
وكل واحد يسعى إلى تحقيق مصلحته إن كان فردا أو أسرة أو مدينة أو مجتمع. وفي خضم ذلك يتم تحقيق المصلحة عند قصيري النظر في الاستفادة من الإمكانات في مجال المدى القصير، بينما يتم عند الأشخاص الأكثر تعقلا في تفضيل المصلحة على المدى البعيد من طريق التنازل عن استهلاك بعض الإمكانات في المدى القصير ومن ثم استثمارها لتوسيع دائرة الإمكانات في المدى البعيد. وفي خضم هذه المعادلة حيث يفترض أن اللهاث المتواصل من اجل تحقيق المصلحة الشخصية سيوصلنا إلى تحقيق المصلحة العامة وهذا ما أشار إليه آدم سميث في كتابه “غنى الشعوب” حيث وضع مبدأ “اليد الخفية” ومعناه أنني اعمل إلى تحقيق مصلحتي الشخصية دون الالتفات إلى المصلحة العامة وبذلك أحقق المصلحة العامة دون أن اشعر بذلك!!!!!!!!!!.
ربما يكون هذا المبدأ في أقصى صحته يمثل نصف الحقيقة ، حيث نرى في تصرفات بعض الساسة ما يشير إلى أنهم حين يتنازلون عن الأخلاق في محاولة منهم لتحقيق الخير للجميع ما الذي سيمنعهم حينئذ بان يسعوا إلى تحقيق المصلحة الشخصية.
إن عملية التنازل عن الأخلاق هي تزيين العمل من قبل الأنفس المريضة وفي عملية التنازل عن الأخلاق من اجل تحقيق الخير العام تكون بمثابة الخدعة الشيطانية التي قطعت الخيط الذي يوصل حبات العقد مع بعضها البعض وبعد ذلك يجب علينا أن لا نتوقع ونرجو من الساسة الذين التزموا بقاعدة الغاية تبرر الوسيلة ليكونوا أهلا لتحقيق الخير العام، لأنهم بعد أن انقطع الخيط ، هم بمثابة الريشة في مهب الريح أو أحجارا على طاولة الشطرنج لا تحركهم إلا أهوائهم ومطامعهم في إشباع غرائزهم وخاصة غريزة حب الظهور والبروز والتسلط.
إن الشخص الذي يفتقد إلى الأخلاق ولا يؤمن بمصلحة الوطن والأمة لا يستحق أن يكون في موقع القيادة ولا أن يلعب في ملعب السياسة وآجلا ً أم عاجلا ً سوف تلفظه الجماهير ويفرزه المجتمع كما فرزت الكثيرين من قبله و التاريخ خير شاهد على ذلك.
مسألة أخرى يجب الانتباه لها وهي الفرق بين /المثقف / و /المتعلم / فإن كلمة “مثقف” ليست مجرد مصطلح عام يجب علينا أن نطلقه على صاحب شهادة علمية أخذته دوافع لجوئه لمقاعد الدراسة على تطبيق شروطها المنهجية – كما يحدث عند كثير من خريجي المؤسسات التعليمية, أو(المتعلمين), ونقول -المتعلمين- وليس هناك من دافع يجبرنا على الإيمان المطلق بأن نربطه مباشرة بشهادة “مثقف” لكي نوازن الكلمتين ما بين مستوى “المفهوم العام” و”الاصطلاح”!. إذ يمكن أن نؤمن أيضا هنا بالمقولة السائدة”بأن ليس كل متعلم مثقف, وليس كل مثقف متعلم”,ونحن لا نقصد من كل هذه المقدمة, أو هذا التقسيم طبعا الإساءة, أو إظهار الخريجين على أنهم فئة غير مثقفة أو منتجة, لكن هناك ضرورة تلزمنا للحديث عن واقع مختلف لفئة ربما منهم فقط, وهو الفاصل الذي جعلنا في حيرة من أمرنا, فقد وجدنا أنفسنا مرغمين على عنونة كلمة/ مثقف / لأساتذة قابلناهم فقط لان الواقع يفرض علينا ذلك, باعتبار أن الدوافع العامة لمصطلح(مثقف) يجب أن تُطلق هنا لصاحب شهادة عُليا, وليس مهما ً إن كان هذا الأخير ملما بشيء من الثقافة, فضلا عن أنه متحدث غير لبق في طاولة حوار,أو حتى نقاش عادي عام, سيما في الملتقيات الأدبية أو السياسية ، وهذا ما يجعلنا أحيانا لا نسأل عن متحاور في مجلس أدبي يمارس دورا اجتماعيا, لان الثقافة ليست بحاجة إلى تخصص, بل إلى من يملك أدوات ينظر فيها, ويحاور, ويناقش , وبناء على توسع مداركه يمارس دورا حقيقيا في الحديث و التعبير وغيره, ولا نشير من كل ذلك بأنه يجب -أي- على الأخير أن يكون مرتبطا بأصول الفكر أو الأدب,أو الفلسفة,أو السياسة ولكن تبقى ثقافته هي تخصصه في الحوار على أقل تقدير, لكي يعكس بها شخصيته التي يمارس من خلالها دوره الحقيقي أمام العامة كمثقف. فكلمة (مثقف) لم تنسجم مع واقع صدمنا مع كثير من المتعلمين الذين لم نجد فيهم من يستحق أن يطلق عليه كلمة(مثقف) أمام بساطة ثقافته رغم بلوغه أعلى الشهادات العلمية وهي المعادلة التي لا تقبل الموازنة, لكنها منبعثة من واقع ملموس. إذن الشهادة للبعض لم تكن سوى تحول تطبيقي للمراحل الدراسية , أي أنها لم تكن نقلة في الفكر والعقل و الوعي والنضج الثقافي كما كان ينبغي أن يكون, لان الثقافة مشروع المجتهد إلى حد الاستيعاب, وليس البالغ بالعلم فقط درجات تفوق وفق القانون و النظام العلمي أو المنهجي المتعارف عليه.
– و يبقى ( لكل مجتهد نصيب ) .
الحسكة_ سوريا
خاص – صفحات سورية –