المضحك والمبكي في السياسة – تشريح “جماهيرية”
جورج كتن
السياسة عملية جادة يتعلق بممارستها وتطوراتها ونتائجها مصير مجتمعات بكاملها. وهي احياناً تدعو للقلق أو الإحباط أو الأسى والمرارة.. أو للرضى والأمل والفرح.. أي طيف من المؤثرات المتناقضة ولكن المتعايشة والتي تشكل ما يختزنه البشر من مشاعر إنسانية. ومن حسن الحظ أنها أحياناً تدعو للابتسام وللضحك والقهقهة حتى الإستلقاء، فهناك من يمتهن الادوار الكوميدية المعتمدة على التصوير الكاريكاتوري للسياسيين ومواقفهم وخطاباتهم وسياساتهم، فيما أن رجال سياسة يستخدمون الإضحاك بطريقة ذكية لتمرير سياساتهم وضمان قبولها بين الناس.
وهذا لا يمنع من وجود سياسيين يعملون لسياسات تبدو جادة فيما هي بالنسبة لكثيرين تهريجاً يدعو للضحك، ومنهم في العصر الحديث المهداوي في عراق عبد الكريم قاسم، ومحمد الصحاف الذي أضحك العالم بخطبه التي كوم فيها جماجم الأميركيين عند أسوار بغداد بينما دباباتهم تتنزه فوق جسور دجلة، وقد حاولت فضائيات التعاقد معه لتقديم برامج تضحك مشاهديها.
لكن لا أحد يضاهي العقيد القذافي قائد الثورة والجماهيرية الليبية العظمى الذي أعلن منذ أسبوعين الجهاد ضد سويسرا كدولة “كافرة”!! وطالب المسلمين بمقاطعة طائراتها وسفنها وبضائعها، وكفر كل مسلم يتعامل معها في أي مكان من العالم!! غضبته العرمرمية على سويسرا بدأت عندما أوقف إبنه هانيبال وزوجته ليومين بجنيف بتهمة ضرب الخدم في فندق.
قال القذافي عن سويسرا انها ليست دولة بل عالم مافيا! وسحب أموال ليبيا –أمواله!- من مصارفها، وطالب الأمم المتحدة بإزالتها من الوجود وتقسيمها وإلحاق اجزائها بالمانيا وفرنسا وإيطاليا! علما أنه في خطابه الأخير أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة مزق ميثاقها واعتبره لاغياً وقال عنها أنها تجمع لدول رؤسائها وصلوا لمناصبهم عن طريق الفساد وشراء الاصوات! كما أوقف إعطاء فيز لمواطني 25 دولة أوروبية كعقوبة لسويسرا الاوروبية!!
الأمم المتحدة وسويسرا ليست طرائفه الوحيدة فقد سبق أن أُعلن عنه نبياً صحراوياً جديداً، فأصر القذافي على سكنى الخيام ليثبت ذلك! كما قدم نفسه منظراً عالمثالثياً في كتابه الأخضر، المعتبر دستوراً لليبيا المحرومة من دستور منذ 41 عاماً! واصبح عميداً للحكام الديكتاتوريين في المنطقة وهو المخضرم الذي انتقل من الناصرية للقذافية للأفريقانية إلى المشيخانية والإفتاء بالجهاد ضد بلاد الكفر.
ولم يقصر في إيجاد حلول للمشاكل العويصة في المنطقة فابتكر حلاً يقوم على إنهاء الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي بإقامة دولة “إسراطين!” باعتبار أنه مهتم بسلامة الطرفين، والتاريخ برأيه يقول أن اليهود سيبادون، ودولة “إسراطين” ستحميهم من الاندثار. علما بأن ليبيا تعلن أحيانا أنها غير مهتمة بالمسألة الفلسطينية فهي دولة إفريقية اكثر منها دولة عربية!.
وللعقيد نظريات في الدين والتاريخ، منها أن عيسى جاء كرسول لبني إسرائيل فقط لتصحيح شريعة موسى فلا علاقة له بآسيا وأوروبا وأميركا وأفريقيا! فبقاء أديان اخرى غير الإسلام خطأ تاريخي خطير! لذلك نصح اسكندينافيا –بلاد الرسام الدانماركي الشهير- بدخول الإسلام! ومن نظرياته أن كل العرب والمسلمين متعاطفين مع الإمام علي لذلك فكلهم شيعة! والإيرانيون جميعهم سنة لانهم يؤمنون بسنة محمد! والدولة الفاطمية الشيعية قامت في شمال إفريقيا وليس إيران، وهو يريد أن يبعثها في إفريقيا كدولة فاطمية عصرية جديدة.
كما له نظريات في السياسة ونظم الحكم إذ اعتبر أن تعدد الاحزاب وتداول السلطة يعني “معاملة الشعوب مثل الحمير”، ورأى أن العالم كله مشمئز من الاحزاب والديمقراطية فهي مهزلة ودجل!! والعالم كله في النهاية سيقتنع بتقليد “لجانه الثورية” وهي برأيه حكم الشعب المباشر لنفسه، دون أن يعترف بانها تابعة للاجهزة الامنية.
لكن الجانب الطريف في السياسة الليبية، لا يخفي الوقائع المأساوية التي يعيشها الشعب الليبي، فمن أصل 6 ملايين ليبي هناك مليون تحت خط الفقر، و البطالة 30% ، في دولة تصدر النفط لتنفق معظم إيراداته لتمويل حركات عالمية راديكالية وإرهابية ولدعم انقلابات في دول إفريقية، وخطف ونسف طائرات خطوط جوية مدنية واغتيال دبلوماسيين، فضلاً عن الفساد ونهب المال العام وفشل خطط التنمية وتدني الخدمات ومشاريع وهمية مثل “النهر العظيم” لإنتاج العظمة وليس جر المياه..
وبعد التحول المفاجئ في سياسة النظام في العام 2003 إثر عقوبات دولية وضعت ليبيا في عزلة دولية شبه كاملة، تحولت موارد البلاد لدفع تعويضات لاهالي ضحايا الطائرات المنسوفة التي بلغت المليارات، وإغلقت معسكرات تدريب الإرهابيين من شتى انحاء العالم، وتم التخلي عن برامج تطوير أسلحة الدمار الشامل لتذهب الاموال التي أنفقت عليها هباءً منثورا، ومنها الأسلحة الكيماوية التي استخدمها النظام في حرب تشاد. ومن الطرائف ما صرح به مسؤولون ليبيون من أن تخلي ليبيا عن برامجها النووية “سيشدد الخناق” على الإسرائيليين ليكشفوا أسلحتهم للدمار الشامل.
إضافة لذلك عانى الشعب الليبي من القمع لاربعة عقود متوالية، منها إعدامات للمعارضين في السبعينيات والثمانينيات، فالإعدام والمؤبد هي الاحكام شبه الوحيدة للمعتقلين السياسيين أمام المحاكم المدارة من قبل السلطة. وأي عمل حزبي أو معارضة ل”ثورة الفاتح” يعتبر خيانة للوطن تصل عقوبتها للإعدام، أما المؤبد فهو لنشر معلومات “تسئ” لسمعة البلاد أو تزعزع الثقة بها من الخارج! علماً بان هناك سلطة واحدة هي التنفيذية التي تصدر القوانين و يتبعها القضاء، وهي تنفذ أوامر القائد التي تصلها عن طريق اللجان الثورية التابعة للأمن..
بالإضافة لمجزرة راح ضحيتها مئات المعتقلين السياسيين في معتقل “أبو سليم” في صيف 1996 لإرهاب المجتمع الليبي.. ويصل الامر احياناً للتصفية الجسدية للمعارضين وأشهرها قضية الإمام موسى الصدر ورفيقه.. وتقوم الاجهزة الامنية بخطف المعارضين وجلبهم إلى ليبيا كمنصور الكيخيا وجاد الله حامد مطر وعزت يوسف المقريف ..
ومن المعارضين الرازحين في السجون فتحي الجهني الذي دعا في العام 2002 لإلغاء الكتاب الاخضر فاعتقل ثم أطلق سراحه نتيجة ضغوط خارجية ليصرح في اول يوم من خروجه بأن القذافي ديكتاتور، ليعاد للسجن في اليوم التالي ولا يزال. ومثل جميع الدول الديكتاتورية فالجمعيات والنقابات مسيطر عليها والصحافة مؤممة وليبيا مصنفة حسب منظمة “صحفيين بلا حدود” في المرتبة 154 من أصل 176 في مدى حرية الصحافة فيها..
يتوازع أبناء العقيد السلطة ومنهم سعدي الذي يقود القوات الخاصة المكلفة بحماية النظام، ومعتصم المسؤول الاول في الجهاز الامني ومن أبرز الرافضين للتطوير الداخلي، وهانيبال الذي ورط والده في حرب مع دولة “كافرة”. لكن أشهرهم سيف الإسلام الليبي الوحيد “الحر!”، الذي يمكنه أن ينتقد “الاستبداد” و”الاشتراكية” في ليبيا ويتحدث عن الديمقراطية الغربية، دون أن يقدم للمحاكمة بتهمة الخيانة، فقد دعا لدستور وقوانين جديدة وانتخابات شفافة، وعارض اللجان الثورية وطالب بديمقراطية ليبية لا تقل عن الديمقراطية في هولاندا! كما طالب بالخصخصة لإنهاء هيمنة الدولة على الاقتصاد واقترح مناطق حرة للاستثمار، وتطوير فنادق سياحية فاخرة وإبطال الفيز للأوروبيين وتحويل ليبيا إلى “دبي” شمال إفريقيا. ووصف معارضي إقتراحاته بأنهم حمقى! دون أن يستثني أحداً.
تحولت ليبيا من “الإشتراكية” للرأسمالية نظرياً، إذ أن الدولة لا زالت تهيمن على معظم الفعاليات الاقتصادية. ولا يمكن أن يحدث التحول إذ أن الممسكين بالسلطة والثروة لن يتخلوا عنها بسهولة، والمسألة برأي العقيد ليس لأن الاشتراكية فشلت في العالم ولكن “لأن الشعب لا يفهم في الاشتراكية”!!.
إذا كانت ميزة النظام الليبي مواقفه السياسية التي تشيع الضحك في العالم، فذلك يجب ألا ينسينا المعاناة المأساوية للشعب الليبي في مستوى معيشته المتدهورة وحرياته المفقودة وتقدمه المعاق، طوال أربعة عقود عجاف ذاق فيها الأمرين ولم ير بعد بريق أمل في نهاية النفق المظلم.
* المضحك والمبكي مجلة سورية أغلقت منذ زمن بعيد تناولت السياسة باسلوب كاريكاتوري محبب للقراء.
خاص – صفحات سورية –
– مارس 2010