صفحات العالمموفق نيربية

تأسيساً على «حقّنا» في التصويت في انتخابات العراق

موفق نيربية *
كان الإعلان عن استبعاد مئات من المرشحين العراقيين لعضوية البرلمان خيبة أمل للذين يأملون خيراً من العملية السياسية الجارية، ووضعت من يقوم بها من منطلق الثأر للجراح في مستوى الجلاد القديم.
وليس هذا الرأي مساواةً بين القاتل والقتيل كما يقول البعض، بل مساواة بين القتيل وقضيته في العدالة من طريق القانون، ورفضاً قاطعاً لمنطق الثأر في مسار بناء الدول الحديثة، والتزاماً بأولوية السلام الأهلي شرطاً لازماً لهذا المسار. كان ذلك الإجراء استجداءً للأصوات بالضرب تحت الحزام، يدعم الادعاء العنصري والاستبدادي بأننا لا نليق بالديموقراطية. ولن ندخل في التفاصيل، بعد أن تم تفويت فرصة توتير الأوضاع بإعلان بعض من تمّ استبعادهم دعوته إلى مشاركة المواطنين بالتصويت.
كان الاستبداد تخزيناً بالقهر لطاقة الحرب الأهلية، وليس حالة لا يعرف المواطن فيها طائفة الآخر أو لا يسأل عنها كما يقول من يُحسن الظن بالاستبداد.
وإن كان لهذا الأخير من فضيلة، فهي توحيد الأمة وعجنها بعجين وطني واحد، يقف في النهاية كله في طرف رافض للاستبداد، ومطالباً بالتحديث وحكم القانون وحقوق المواطنة، بعد أن يكون قد أمضى فترة تدريبه على واجباتها تحت عنف السلطة وإكراهها.
ما يعطي للانتخابات أهميتها أنها خطوة إضافية بعيداً من الاستبداد، أكثر اقتراباً من الدولة المدنية الحديثة، ومن الديموقراطية كحقيقة اجتماعية – سياسية من جهة، وكممارسة وتدريب وطني من جهة أخرى. وقد حدث ذلك بالفعل، وانتقلت الحالة خطوة إلى الأمام، رغم ما أثارته خطوة الاستبعاد من مخاوف على العملية برمّتها. لكن الاستبداد بوجه جديد، ما زال خطراً جاثماً. كلمة «الاجتثاث» بذاتها تعيد للأذهان تاريخ العراق «الحديث» منذ عام 1958 خصوصاً – وترن في الآذان على نسق كلمة «السَحل» -، فكيف إذا استبطنت معاني طائفية لا تخفى على أحد. كلمة «الاجتثاث» هنا لا تقل خطورة وأذى عن الاستبداد، بل ربما تزيد. وقد أثبت شعب العراق أنه قادر؛ حتى الآن؛ على تجاوز حقول الألغام هذه، بمشاركته الكثيفة في الانتخابات.
وإن كانت الحالة السياسية العراقية في أوائل هذا القرن واقعةً تحت ضغط فكرة أن الاحتلال آت، فيجب أن تكون الآن تحت ضغط أكبر من حقيقة أن الاحتلال راحل قريباً، لا محالة. ورحيله ليس مجرد تحرير واستقلال واستعادة للسيادة الوطنية وحسب، بل فراغ مخيف بشكل من الأشكال، لا يملؤه إلا دولة قوية قادرة ونخب مسؤولة ومواطنون أحرار.
وعندئذٍ، قد يقول التاريخ إن للاستبداد بعض الفضائل خارج سياق العواطف والحقوق، وللاحتلال أيضاً مثــلها، من دون أن يعــني ذلك تبرئة لأيٍّ منهما.
لا يشكّل غزو العراق نفسه مشكلة أمام حجم الخطيئة الأميركية الكبرى – بمساعدة أطراف أخرى أو بالتواطؤ معها – بحلّ «الدولة» وجيشها مع حزب البعث، وباستنهاض مارد الطائفية لضمان تحطيم الخصم، الذي يصبح في هذه الحالة كلّ العراق.
وفي هذه الحالة يكون «الانسحاب» أشدّ خطورة، ويشكّل استكمالاً لعملية الاحتلال، ما لم تتكون الدولة القوية بجيشها وقواها الأمنية الحيادية البعيدة من السياسة والطائفية أو الإثنية… أولاً.
وينشأ المجتمع المدني صاحب الشخصية الفاعلة، مع الدستور وحكم القانون… ثانياً. وتسود المواطنة كمبدأ للتعامل بين الدولة والشعب، يكون الفرد الحر بحقوقه وواجباته، قبل أيّ انتماء آخر سابق للانتماء الوطني الجامع. أو – على الأقل – أن يكون هذا غالباً في المراحل الانتقالية، شرط أن يبقى اتجاه التطور دائماً إلى أمام… ثالثاً.
على رغم ذلك كانت الانتخابات انتقالاً إيجابياً، بحجم المشاركة الكبير جداً ضمن الشروط المذكورة، من خلال ذهاب أكثر من 62 في المئة من الناخبين إلى صناديق الاقتراع، وممارستهم لحقهم الطبيعي في الغرفة المعزولة.
وكذلك من خلال استقراء برامج الكتل السياسية، التي اضطرت جميعها إلى الإقرار بالدولة المدنية الحديثة هدفاً لها؛ ولو أن سلوك الكثيرين عملياً ظلّ يستجدي الأدوات العتيقة المرتبطة بالغرائز وسيلةً لتحصيل الأصوات. وهذا لا يعطيهم شهادة حسن سلوك من طائفة، بمقدار ما يشكل دليلاً على استخدام هذه الطائفة لأغراضهم السياسية والسلطوية المباشرة. كما كان لافتاً ابتعاد المرجعية الدينية عن دعم أي طرف، وتزايد شعبية مفاهيم الليبرالية والعلمانية والعدالة الاجتماعية.
اضطرت كتل كبرى أيضاً إلى تلوين قوائمها بمرشحين من طوائف أخرى، وإلى طلب البراءة من تهمة العداء لمفهوم المواطنة من طريق ضم مرشحين وتجمعات «مدنية» إلى صفوفها. كما ظهرت كتل قوية أيضاً يغلب عليها النأي عن الطائفية وقوة الدفع باتجاه قيام الدولة القوية المحايدة بين مواطنيها وجماعاتهم البشرية. بل أثبتت هذه الكتل وجوداً شعبياً قوياً في النتائج الأولية، وهذا باعث للتفاؤل عموماً، ضمن الأجواء المقلقة المخيّمة حتى الآن.
فما بين الانتخابات السابقة والحالية، حدث تحسّن في الحالة الأمنية، وتحولات في البرامج المعلنة، وتحالفات جديدة كسرت الاحتكار في غير مكان – كردستان وباقي مناطق العراق -، مع تجاوز العديد من الكتل لمناطق مغلقة على الطريقة البدائية. ولكل نتيجة مغزاها، من طبيعة سياسات وتحالفات «الائتلاف» و«دولة القانون» و«التحالف الكردستاني» و«التوافق»، إلى تقدم «العراقية» و«وحدة العراق» و«التغيير الكردستانية» وكتل صغيرة لها معناها مثل «اتحاد الشعب» و«أحرار» وغيرها. بل إن مجرد نجاح العملية الانتخابية في كركوك والأنبار والموصل يحمل أنباءً طيبة لمن ينتظرها.
لا يمكن الركون إلى الشعور بالطمأنينة بعد الانتخابات، لأن الأخطار القادمة من خارج العراق وداخله ما زالت قائمة، ولأن الطمع بالسلطة مجرّداً عن البرامج الملموسة قد يأخذ بالإيجابيات إلى الجحيم. فلا بدّ من انتظار مسار تشكيل الحكومة ومعرفة خطتها وممارستها على الأرض، ومسار تشكيل المعارضة القادمة وخطتها وممارستها على الأرض أيضاً.
الاستبداد في المنطقة كلها ينتظر فشل التجربة العراقية وتعثّرها لإثبات نظريته في أن شعوبنا متخلفة ولا تمشي إلا بالعصا؛ مع غلاة العنصريين الإمبرياليين أيضاً.
ولا يتطلّع إلى نجاحها «إلا» شعوب المنطقة التي اعتبرت «رعيةً» لا يستعمل مفهوم المواطنة في مخاطبتها إلا هزءاً واستخفافاً، أو تفريغاً له من مضامينه المعاصرة.
ذلك لأن الديموقراطية العراقية؛ ضمن ظروف الاحتلال والطائفية والتفتت والفساد القائمة؛ تتفوق على الأغلبية الساحقة من الحالات العربية، وتشكل اختراقاً كبيراً في الجدار الأكبر من الجدار الإسرائيلي، وهو الذي يحول بين حاضرنا ومستقبلنا، بل إنه يدفع بنا إلى الماضي… المجيد.
ولو قال عراقي – من أي طرفٍ كان – إنني أتدخل في شؤون لا تخصني ولا يحق لي «التصويت» فيها، فسأتفهّم ذلك!

* كاتب سوري
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى