في انتخابات العراق ومعانيها
كامران قره داغي
لا شيء مملاً في انتخابات العراق الجديد. ربما الانتخابات البرلمانية الأولى في 2005 كانت طبيعتها ونتائجها متوقعة الى حد كبير، إذ توزعت أصوات الناخبين بانضباط كاد يكون صارماً وفقاً لانتماءاتهم: الشيعة صوّتوا للمرشحين الشيعة، ومَن لم يقاطع الانتخابات من العرب السنّة صوّت للمرشحين العرب السنّة، والكرد للمرشحين الكرد، والتركمان للمرشحين التركمان… وهكذا.
في انتخاباتهم الثانية لمجالس المحافظات كانت الصورة محتلفة إذ انقسم الشيعة شيعتين ارتبط قسم منهم بسلطة رئيس الوزراء نوري المالكي الذي اختار لقائمته صفة «دولة القانون» بدلاًَ من الصفة المذهبية، لتلتفّ حوله جماعات وأفراد من غير الشيعة ايضاً فجاء الأول. وتمسك القسم الثاني بالمذهبية رافعاً راية «شهيد المحراب – يا حسين» ليحلّ ثانياً. الكرد ايضاً تخلخل تماسكهم، التنظيمي لا القومي، فخسر «التحالف الكردستاني» في انتخابات العام الماضي لبرلمان الاقليم نسبة لا يُستهان بها من اصوات الناخبين ذهبت الى كتلة «التغيير»، وهي الجماعة التي انشقت عن أحد الحزبين الرئيسين، لتشكل لاحقاً، مع آخرين، معارضة برلمانية غير مسبوقة منذ الانتخابات الحرة الاولى في تاريخ الاقليم عام 1992. بعبارة اخرى، يجوز القول إن تغييراً على صعيد الولاءات التقليدية حصل ما بين الانتخابات البرلمانية لعام 2005 والانتخابات المحلية لعام 2009. يُقال هذا مع كثير من التحفظ صحيح ان اتجاهاً ظهر قبيل انتخابات 2009 يدعو الى عقد تحالفات شيعية – سنية، لكن ذلك لا يعني زوال البعد الطائفي، بل لعله اتجاه تمليه مصلحة الوصول الى السلطة بفضل هذه التحالفات. فإذا تجاوزنا احزاب القومية الكردية والقوميات الاخرى الاصغر، فإن احزاب الغالبية العربية تبقى قائمة على الانتماء الطائفي. فهناك احزاب شيعية وأخرى سنية فحسب. فلا حزب شيعياً يضم سنياً ولا حزب سنياً يضم شيعياً.
لكن على رغم ما سلف، فإن الأوراق اختلطت الى حد ما لجهة التقاطع الشيعي – السنّي والديني – العلماني في الانتخابات التي أُجريت قبل اسبوعين. المنافسة الرئيسة هذه المرة لم تكن بين القائمتين الشيعيتين، «دولة القانون» و «الائتلاف العراقي الوطني» (الخلف لقائمة «شهيد المحراب – يا حسين») التي تزعمها رئيس الوزراء السابق ابراهيم الجعفري، بل أُجريت بين الاولى و «القائمة العراقية الوطنية» بزعامة رئيس الوزراء السابق الشيعي ايضاً أياد علاوي الذي تجتمع فيه العلمانية والليبرالية والقومية في آن. هذه القائمة ضمت خليطاً من الاحزاب والشخصيات راوحت بين علمانية – ليبرالية شيعية وسنية، وإن غلب عليها التوجه القومي العربي وبعضها شديد التطرف، وإسلامية شيعية وسنية، تركمانية وكردية وغيرها من جماعات، الأمر الذي يجعلها الأكثر تنوعاً، لكن في الوقت نفسه الأكثر هشاشة وتعرضاً للتفكك بعد اعلان النتائج النهائية اذا اقتضت مصالح أطرافها المتناقضة.
أما الطرف الكردي فإن «التحالف الكردستاني» يبقى متفوقاً فيه وإن كانت الانتخابات أفرزت الى جانبه معارضات كردية استمراراً للظاهرة التي اقترنت بنتائج الانتخابات الخاصة بإقليم كردستان. يبقى الافتراض ان الخلافات بين هذه الكتل الكردية في اطار برلمان كردستان لن تنعكس بالضرورة على مواقفها في البرلمان الاتحادي في ضوء تعهدات أعلنتها الكتل المعارضة بأنها ستلتزم مصالح الاقليم العليا في العلاقة مع السلطة المركزية.
هذه التركيبة المعقدة للبرلمان الاتحادي الجديد قد تجعل عملية الاتفاق على تشكيل الحكومة الجديدة معقدة بدورها. ولا بد، استطراداً، من التوضيح، وفقاً للدستور، أن الخطوة في الطريق الى تشكيل الحكومة تتمثل في قيام رئيس الجمهورية الحالي (مجلس الرئاسة) بدعوة البرلمان الى الانعقاد خلال 15 يوماً بعد المصادقة النهائية على نتائج الانتخابات. يتبع ذلك الاتفاق بين الكتل البرلمانية على انتخاب رئيس للجمهورية بغالبية ثلثي اصوات النواب كي يمكن الرئيس الجديد تكليف رئيس الكتلة الاكثر عدداً في البرلمان بتشكيل الحكومة. فإذا ما تم ذلك، وفقاً لجداول زمنية يحددها الدستور، فإن الحكومة المشكلة ستحتاج الى موافقة الغالبية المطلقة في البرلمان (هذه مسألة خلافية احياناً بين من يعتبر ان الغالبية هنا تعني غالبية الحاضرين من النواب وآخرين يعتبرون ان المقصود هو العدد الكلي لأعضاء البرلمان).
ما سلف يشير كثيرون الى انه سيتسبب في وقت طويل يستغرقه تشكيل الحكومة الجديدة، وهو قد يُقدر بالأشهر لا بالأسابيع، وهو ما حدث بالفعل بعد انتخابات 2005.
في المقابل، هناك من يستبعد ذلك للأسباب الآتية: بداية تكاد تجمع غالبية زعماء القوائم الفائزة على ان قائمة «التحالف الكردستاني» يجب ان تكون جزءاً من الحكومة الجديدة، وبالتالي الاتفاق على انتخاب مرشحها جلال طالباني لدورة رئاسية ثانية. هذا الأمر يعني ان المتطلبات الاساسية لـ «الكردستاني» يمكن تلبيتها، وهي متطلبات لمحت الى تأييدها قائمتان رئيسيتان هما: «دولة القانون» و «الائتلاف الوطني» بوضوح استجابتهما. الى هذا التأييد يمكن ان تنضم ايضاً قائمة «التوافق» السنية التي يتزعمها الحزب الاسلامي، علماً ان كلاماً جدياً دار في شأن تفعيل «التحالف الرباعي» بين حزب الدعوة والمجلس الاسلامي العراقي والحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني.
يعزز هذا السيناريو ان هذه الجماعات تشعر باستياء وخوف من جماعات وشخصيات نافذة في «القائمة العراقية» على رغم ان ذلك لا يشمل علاوي شخصياً، وهو الذي يعتبره الكرد، مثلاً، حليفاً وصديقاً. الى ذلك فالشيعة عموماً، وكثيرون منهم صوّتوا لعلاوي، سيسعون بقوة لمنعه من الوصول الى منصب رئيس الوزراء لأنهم يعتبرون ان قائمته تضم «العدو» البعثي والسني المتطرف. ومن وجهة نظر الكرد، فإن «العراقية» تضم كل الجماعات والشخصيات التي تتخذ مواقف عدائية تجاه اقليم كردستان وتعارض تطبيق المادة 140 من الدستور الخاصة بكركوك والمناطق الاخرى المتنازع عليها وبالعقود النفطية للإقليم وغير ذلك مما يعتبره الكرد خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه. وقصارى الكلام ان ما سلف من اسباب وعوامل تجعل هذا السيناريو الاقرب الى التنفيذ، الامر الذي سيسهل عملية الاتفاق على تشكيل الحكومة لتضم هذه القوائم الاربع مستبعدة «العراقية» التي يمكنها ان تتحول، ومعها كتل صغيرة اخرى، الى معارضة قوية في البرلمان. لكن هل الأمر بهذه البساطة حقاً؟ هذا ما سيتضح في الايام القليلة المقبلة.
الحياة