اغتيال وطن
فلورنس غزلان
ــ هل أخطأ الزمن في توقيت ولادتنا؟ أم أن الغموض التف حول حبلنا السري فغابت حقيقة الوجود وحقيقة الخلق؟ فانطلقنا من رحم
أرض أطلقوا عليها ألقاباً تاريخية شتى، بعضها آرامي اللغة والعقيدة، وبعضها كنعاني الأب بينما لبعضها الآخر سحنة حمورابي أو وَلدت أنثاها تحت أقواس غسان ، لكن ودون شك فإن وهج النار انطلق من رماد التاريخ وانحل عميقاً في شرايين سكان هذه المنطقة ، التي حبتها الطبيعة جمالاً استحقت من خلاله أن تكون فردوس المشرق، وأحد أهم الأبواب المنفتحة على نسيم الحرية المباركة دائماً بصلوات الآلهة ، لكن ريحاً صفراء خرجت من مقابر قوم أضاعوا بوصلة الاتجاهات وفقدوا شواطيء المراسي ، فما كان لهم إلا اقتناص المرحلة واتخاذ مهنة القرصنة سبيلاً لحفظ سلالة لم يعرف التاريخ لها ميلاداً، مهنة منحتهم لذة السبي وأدخلت أرواحهم في جمر عشق لقطع قوافل الدمقس المغادر والقادم من مشارق الأرض ومغاربها، اغتنموا عصراً يُغمض العين أمام اتساع الأقفاص ويغلق الأذن عندما تشق الريح أصوات الثكالى وحين تعلو أمواجاً ترتدي بسمة الأطفال لتخفي عري الحقيقة وزيف اللعبة السياسية ، في منطقة…كانت يوماً مهداً للمحبة وصارت اليوم معراجاً لقياصرة الفتنة.
* منذ اقترف الزمن جريمته.
* منذ ارتكب الناس معصية بتصديق أعور الدجال وزبائنته.
* منذ أن صدق الأبرياء أن الذئاب خرافاً .
* منذ أن شرَّع أهل الدار شرفاتهم لخطيب يتقن دبلجة الحروف.
* منذ أن اعتنق المهزوم مذهب المنتصر .
* منذ أن هتك العسكر حرمة الصواري وحرثوا بيادر الحنطة.
* منذ أن ركب العهر السياسي هودج الحرية .
* منذ أن توقف الكلام…على أبواب جُلَّقٍ ( دمشق) …
ذُبحت الأرض كما الشاة، وعُلِقت أجمل عذراواتها مخنوقة بعبرات الخوف وكتمان الصوت ، ذَبُلَ الحصى وغاص في غياهب الأودية يئن ألماً، وانكسرت أعمدة الجسور بين مرج البحر وصخر الجبل، لم تنفع شراك الأحفاد، ولا موائد الزعفران التي أعدتها الجدات لإرضاء الجنود عند الأبواب السبعة لمدينتنا…
لم تنفع تعاويذ المؤذن ولا أجراس الكنائس لتبعد غضب القراصنة ومهادنتها لتجنيب دار الفرح مذبحة غاصت في شبق السلطة.
سقطت حصون السلام في فخ الخديعة وامتزجت مياه غوطة غناء بدماء الضحايا، امتلك القراصنة مفاتيح المقدسات وتمركزوا في معاقل أضلاعنا المهدودة حين تلبسوا رداء الكلام وزرعوا الرعب واليتم في بيوت السكينة، تمكنوا من سرقة الأحلام واعتنقوا صناعة شراء الذمم الرخيصة والأقلام المأجورة…فتم احتلالهم لتلال لم تعرف سوى خضرة الشهداء ولم تفهم سوى لغة المحبة، غدت أيامهم بقعة سوداء يغطيها وحل الحقد والكراهية…نبشوا قبور المذاهب ورفعوا مصاحف غريبة اللغة وعجيبة الإفتاء.
فصارت صوامع القديسين وجوامع الأئمة تشدو برطينٍ هجين، طاردوا أحفاد اسحق واسماعيل وأحمد والياس بسكين الخوف وبتر ألسنة تلهج بالوطن، كسروا كل الصواري المبحرة نحو الشمس، وبعثروا كل قوة تمتلك الكلام وتستخدم التعقل والرزانة من أجل محاربة رق الشعوب، استلوا خناجر الغدر حين اكتشفوا أن هؤلاء الأحفاد المسالمين يزرعون الندى، وزهورهم الأنثوية تنشر عطر الياسمين إلا أنهم تمكنوا من اعتقال الشذا وزهوره ، و مالكي زعفران الكلام، وملحني نشيد الحرية، وفناني المحبة وزجوا بهم في أقبية الظلام ، كي تنطفأ شمعة الأمل..أرادوا لهم أن يكونوا حَطباً ليوقدوا مدافئهم التي أكلها صقيع العزلة والكراهية.
لكنهم نسيوا أن كل طفل وشيخ وامرأة في أرض الشام قد وشموا أسماء الزهور وأصحاب الكلمة فوق أجسادهم وعلى جدران معابدهم وعلى جذوع الحور وأغصان السنديان…فكيف ينسى شعب حي أرادوا اغتياله في وضح النهار؟
ــ باريس 18/3/2010
خاص – صفحات سورية –