زيارة جنبلاط إلى دمشق: عش رجبا… ترَ عجبا!

صبحي حديدي
سواء كان اعتذاره صريحاً صادقاً وستراتيجياً، أم كان موارباً زائفاً وتكتيكياً، قَبِل النظام السوري ‘فعل الندامة’ الذي مارسه وليد جنبلاط، رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي، وجاءت البشرى على لسان السيد حسن نصر الله، الأمين العام لـ’حزب الله’. وإذا كان الشطر الأوّل من الواقعة قد بدا تحصيل حاصل بصفة عامة، إذْ تداولته أخبار وتقارير شتى قد منذ أسابيع (بل حدّدت طبيعة السيناريو الذي سيتخذه: متى، على أية فضائية، في أيّ برنامج، وأيّ صحافي في ‘الجزيرة’، بالاسم…)؛ فإنّ الكثير من المغزى ينبغي أن يكمن في حقيقة أنّ نصر الله كان هو الذي أعلن استعداد بشار الأسد لاستقبال جنبلاط، ‘في وقت قريب جداً’ حسب تعبير السيد.
صحيح أنّ نبيه برّي، رئيس مجلس النواب اللبناني، استبق الجميع على نحو طريف في الواقع، حين أعلن أنّ زيارة جنبلاط إلى سورية باتت ‘قريبة جداً جداً’، وذلك حتى قبل أن يمارس الأخير فعل الندامة، لأنّ ‘ما سيقوله جنبلاط السبت في مقابلته مع قناة الجزيرة مهم جداً’، كما صرّح برّي. غير أنّ الضوء الأخضر الأكيد جاء من نصر الله، ليس اعتماداً على حقيقة أنّ البشرى أتت بعد بثّ اعتذار جنبلاط، فحسب؛ بل أيضاً لأنّ تأكيد اقتراب موعد الزيارة كان ينطوي، كذلك، على إشعار بقبول الإعتذار؛ وكان يفيد أنّ ‘حزب الله’، وبالتالي معادلة النفوذ الإيراني على الساحة اللبنانية في الخلفية، هي الجهة الأولى المعنية بقرار استقبال جنبلاط، وليس أياً من الأطراف السياسية اللبنانية، سواء في تحالف 8 شباط أم تحالف 16 آذار.
وفي وسع المرء أن يفهم، بيسر بالغ، الأسباب التي جعلت أمثال وئام وهاب وعاصم قانصوه، من رجالات النظام السوري المتخندقين المتجندين، في منأى عن الفريق الذي طبخ زيارة جنبلاط إلى دمشق، بالرغم من أنّ وهاب كان أوّل المتطوّعين لاستبصار فعل الندامة واحتمال الزيارة، حين صرّح منذ الصيف الماضي بأنّ ‘الطريق الى دمشق مفتوحة بوجه النائب جنبلاط’. ما لا يُفهم دون مغزى خاصّ، في المقابل، هو مسارعة برّي إلى استباق الحدث، وبالتالي بيع جلد الدبّ قبل اصطياده، من جهة أولى؛ وعدم صدور الضوء الأخضر عن مصدر سوري رسمي، مثل وزير الخارجية السوري وليد المعلم مثلاً، من جهة ثانية. فهذا الأخير اكتفى بالتعقيب على تصريح نصر الله، بالقول حرفياً إن ‘بيان حزب الله دقيق، ولا أريد إضافة المزيد’، الأمر الذي يغري بترجيح التفكير بأنّ المعلم ليس مخوّلاً بإضافة المزيد أصلاً، بافتراض أنه يملك بعضاً منه في الأساس.
كأنّ النظام السوري ليس بالغ الإكتراث، إذا لم يكن رافضاً، لسلسلة المقترحات التي روّج لها جنبلاط منذ بدء انفكاكه عن تحالف 14 آذار، حول تأسيس موقع وسطي تجاه قطب التحالف الآخر، 8 شباط، يتألف من ‘الحزب التقدمي الإشتراكي’ وحركة ‘أمل’، أو ـ في التفصيل الطوائفي ـ أغلبية دروز لبنان الملتزمين بالبيت الجنبلاطي ومؤسسة مشيخة العقل، وأقلية من الشيعة ليسوا في صفوف ‘حزب الله’. ذلك لأنّ خيار الإصطفاف في قطبَيْن، وليس اصطناع موقع ثالث وسيط، هو الأكثر خدمة لأغراض استعادة بعض النفوذ القديم الذي تمتّع به النظام السوري في لبنان طيلة عقود، سواء على صعيد السياسة والأحزاب، أم على صعيد الاجتماع والطوائف. ولو أنّ بعض هذا يتحقق عن طريق حال التوسّط بين أقطاب متنازعة متناحرة، فإنّ المنطق سيقول إنّ زيارة جنبلاط إلى دمشق كان ينبغي لها أن تتمّ قبل زيارة ميشيل عون، زعيم ‘التيار الوطني الحرّ، وقبل زيارة سعد الحريري، زعيم ‘كتلة المستقبل’ ورئيس الوزراء.
بعض الدليل على هذا يمكن التماسه في تعليقات صحيفة ‘الوطن’ السورية، المقرّبة من دوائر النظام، والتي يملكها رامي مخلوف، رجل الأعمال المعروف وابن خال الرئاسة: في البدء كانت هذه الصحيفة هي التي اعتمدت تعبير ‘فعل الندامة’، ولم تكن بعيدة عن الصواب في واقع الأمر؛ ثمّ انتقلت إلى الغمز من قناة جنبلاط لأنه لم يعتذر بوضوح، ولم يكن صريحاً في مواقفه، و’فضّل التأرجح’ بين قوى 14 آذار المناهضة لسورية وقوى 8 آذار المؤيدة لها. كذلك قالت ‘الوطن’، ولكن بعد بشرى قبول فعل الندامة التي جاءت من ‘حزب الله’، إنّ النائب اللبناني لا يزال تائهاً في نوع العلاقة التي يريدها مع سورية، أو التي تريدها سورية معه، فهو يطرح أسئلة يعرف مسبقاً أجوبتها، ويتحدث عن كرامة دروز لبنان ناسياً كرامة كل السوريين، ولا يزال يصرّ على أنّ 1559 كان فخاً في حين أنّ القرار المذكورـ وهو يعلم ذلك ـ كان مؤامرة على سورية ولبنان معاً وعلى المقاومة خاصة’.
وتلك مؤشرات تغري بالقول إنّ زيارة جنبلاط إلى دمشق لن تكون شبيهة، في النتائج السياسية، بزيارتَيْ عون والحريري، الأمر الذي لا ينفي البتة أنها سوف تكون مفيدة للضيف والمضيف معاً، حتى إذا اتضح أنّ كفّة المغانم قد لا تكون لصالح جنبلاط بالضرورة. وإذا كان، من جانبه، قد اختار أن يسامح وأن ينسى في آن معاً (بعد خياره السابق الشهير: ‘أسامح، ولا أنسى’)، فمَنْ يضمن له أنّ المضيف سيغدق عليه أسباب ضيافة مماثلة، من حيث التسامح والنسيان؟ أكثر من هذا، لعلّ مغانم رجل مثل سمير جعجع، رئيس الهيئة التنفيذية لـ’حزب القوّات اللبنانية’؛ وأمين الجميّل، الرئيس الأعلى لـ’حزب الكتائب’؛ يمكن أن تكون أفضل إذا ما قُيض لأيّ منهما أن يزور دمشق بدوره، وثمة منذ الآن أصوات تتنادى بهذا المعنى.
وإذا صحّ أنّ انسحاب جنبلاط من تحالف 14 اذار هو إضعاف لذلك التحالف، سياسياً وتنظيمياً ومذهبياً، فإنّ ذلك الإنسحاب في حدّ ذاته علامة بارزة على ضعف جنبلاط نفسه، بأوصافه كلها: وريث المختارة، زعيم الدروز (ليس في لبنان فحسب، بل في سورية وفلسطين المحتلة أيضاً، للتذكير)، رئيس ‘الحزب التقدمي الإشتراكي’، قائد كتلة ‘اللقاء الديمقراطي’ البرلمانية. وقد بدأت علائم الضعف من نتائج الإنتخابات النيابية الأخيرة، حين اتضح أنّ شرائح من دروز الشوف، فقيرة أو متوسطة الحال، لم تعد تجد في خيارات جنبلاط صدى كافياً لهمومها وهواجسها، اجتماعياً وسياسياً وطائفياً. والحزب شهد انكسارات عمودية على مستوى قواعده الشعبية التاريخية، حين أصاب الخور الشديد مواقف القيادة من القضية الفلسطينية وعروبة لبنان، مقابل الإنفتاح الحثيث على فكر المحافظين الجدد في أمريكا، والتبعية المضطردة للسياسة السعودية في لبنان. هذه، وسواها من الخيارات لم تكن تشكّل افتراقاً صارخاً عن خطّ الراحل كمال جنبلاط فحسب، بل كانت لها عواقب مباشرة ألحقت الأذى بالتماسك التاريخي الذي ظلّ يطبع اصطفاف الدروز خلف البيت الجنبلاطي.
من جانب آخر، إذا صحّ ما يتردد اليوم عن تسليم ملفّ المصالحة مع جنبلاط إلى اللواء المتقاعد محمد ناصيف، مساعد نائب الرئاسة فاروق الشرع، فإنّ مستقبل هذه المصالحة سوف يشهد استئنافاً ـ بعد طول غياب! ـ لذلك التراث الخاصّ في مقاربة الساحة الداخلية اللبنانية، الذي أشرف ناصيف على تنفيذه بتوجيهات مباشرة من حافظ الأسد شخصياً. قواعد التراث كانت تبدأ من خلق، أو اختلاق، ما أمكن من كسور وصدوع وشقوق داخل بنية هذه الطائفة أو تلك، ليس بهدف تفتيتها كما قد يخطر للبعض، بل لبعثرة خياراتها، وتوسيع هوامش مناوراتها إلى درجة الإنفلاش. وأكثر من مجرّد إعادة إنتاج مبدأ ‘فرّقْ تَسُدْ’ القديم، كانت الحصيلة تتكىء على البلبلة والتشوّش وتضييع البوصلة.
ومن غير المستبعد أن تكون ذاكرة ناصيف ـ ربما أكثر من ذاكرة سيّده بشار الأسد ـ ناشطة حيّة في ملفّ محدّد، ضمن ملفات أخرى لا تقلّ أهمية، هي قرار جنبلاط باستقبال وفد من جماعة ‘الإخوان المسلمين’ السورية، صيف 2006، ضمّ عدنان سعد الدين المراقب العام الأسبق، ومحمد فاروق طيفور نائب المراقب العام ورئيس المكتب السياسي، وعبد القادر زهران مستشار العلاقات الخارجية. ذلك خطّ أحمر في عرف النظام، وعبور إلى ما يقع وراء المحرّمات الأمنية ـ السياسية الكبرى، وحنث بالإلتزام الضمني الذي تعهد به جنبلاط مراراً، حول عدم تحويل لبنان إلى ساحة للمساس بأمن النظام السوري. والحقّ أنّ الخطوة تلك كانت مثار استياء المعارضة السورية العلمانية، لأنّ جنبلاط كان يعطي إشارة خاطئة حول طبيعة المستقبل الذي يريده لشعب سورية: هل التقى بهم، أوّلاً وحصراً وقبل أيّ فريق سوري علماني، لأنه رأى فيهم مستقبل سورية السياسي؟ هل كان على يقين بأنّ أيّ تغيير جوهري، وبالتالي أي صندوق اقتراع حرّ، سوف يرفع الجماعة إلى سدّة السلطة، ومن الحكمة التفاعل معهم مسبقاً منذ الآن؟ أم اعتبرهم ـ كما فعل ويفعل كثير من المراقبين في الغرب ـ اللاعب الأبرز في صفّ، أو صفوف، المعارضة السورية؟ أم كان يستجيب لرغبة عبد الحليم خدّام في استضافة حلفائه ‘الإخوان المسلمين’، تحريكاً للمياه الراكدة في ‘جبهة الخلاص’ الخدّامية ـ الإخوانية الكسيحة؟ أم كان، ببساطة، يمارس لعبة عضّ الأصابع مع النظام السوري، الذي بالفعل لم يكذّب خبراً وأحال جنبلاط إلى القضاء العسكري بتهمة التحريض على سورية؟
هذا الاحتمال الأخير سوف يتذكرّه اللواء المتقاعد ناصيف جيداً، عندما تحين ساعة اقتسام الغنائم التي ستسفر عنها زيارة جنبلاط إلى دمشق؛ تماماً كما يلوح أن معلّق ‘الوطن’ استعاده واستأنس به، حين ذكّر بانتهاك جنبلاط لكرامة السوريين. ولعلّ الواقعة الأخرى التي لن تغيب بسهولة عن ذاكرة أهل النظام السوري، هي ما جرى أواخر العام 2000، في الجلسة الإفتتاحية لمجلس النواب اللبناني الجديد، حين طالب جنبلاط بإعادة انتشار القوات العسكرية السورية المتواجدة في لبنان. ذلك، بدوره، كان انتهاكاً لمحرّم آخر جوهري، جاء من سدّة برلمان جديد (كرّس عودة رفيق الحريري من النافذة، بعد تشييعه إلى الباب)، على لسان رجل ظلّ حتى تلك الساعة حليفاً يحظى بالرعاية والحماية والدعم.
وذلك التراث في معالجة المسائل اللبنانية دخل في سبات تكتيكي مؤقت بعد انسحاب القوّات العسكرية من لبنان، وترشحه اليوم لليقظة جهود وتوافقات إقليمية ودولية، تستهدف إعادة تلزيم النظام السوري ببعض ملفات لبنان، المتفجرة منها بصفة خاصة. وقد تكون زيارات أمثال عون والحريري وجنبلاط إلى دمشق أكثر اجتذاباً للصورة والمانشيت والتعليق، الأمر الذي لا يُسقط البتة تلك الأهمية الفائقة لزيارات لا تتمّ تحت الأضواء، بل طيّ الخفاء: المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللبناني، اللواء أشرف ريفي، عندما يزور رئيس إدارة المخابرات العامة في سورية، اللواء علي المملوك؛ أو رئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي اللبناني، العقيد وسام الحسن، عندما يقصد رئيس فرع ريف دمشق للمخابرات العسكرية السورية، اللواء رستم غزالي… دون سواه.
وعشْ رجباً، في مسالك وممالك ساسة لبنان، ترى عجباً!

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –