أيام سينما الواقع: دورة التكريس
دمشق ــــ وسام كنعان
في دورته الثالثة التي أسدل عليها الستار أخيراً، رقماً جيداً في مستوى الحضور.
إذ شهدت دورته الثالثة خطوات جديدة ترسّخ حضور أول مهرجان للسينما التسجيلية في سوريا.
وجاء فيلم الافتتاح «اصرخ» ليُظهر معرفة القيمين على المهرجان ما يهمّ الجمهور السوري من السينما التسجيلية. إذ طرحت مخرجة الشريط، البلجيكية سابين لوب باكر ـــــ التي درست في سوريا ـــــ قضية الجولان من خلال مشهد واقعي لأهل الجولان المحتل وهم يقفون عند أسوار الاحتلال كي يعبّروا عن أشواقهم بالصراخ. كذلك، نظّم المهرجان خطوة غير مسبوقة هي تظاهرة «أصوات من سوريا»، التي شملت عرض خمسة أفلام سورية لمخرجين شباب قدّموا أعمالاً أثارت ردود أفعال متباينة، وحققت حضوراً لافتاً، منتزعةً إعجاب سينمائيّين سوريين كبار.
هكذا وقف محمد ملص أمام الجمهور ليشيد بالفيلم السوري «كلام حريم» (راجع المقالة أعلاه). ورغم أنّ صاحب «أحلام المدينة» أخذَ على بعض التجارب السورية تقديمها كريبورتاجات تلفزيونية، فإنّ اللغة السينمائية قاربت الفيلم الروائي في بعض الأعمال مثل «جبال الصوان» لنضال حسن، و«حجر أسود» لنضال الدبس. وكانت التظاهرة بمثابة بطاقة دعوة إلى المواهب الشابة لدورات مقبلة، بعدما كادت الجهات الرسمية السورية المعنية بالفن السابع، توصل السينما التسجيلية إلى الانقراض. وقد حصل شريط «نور الهدى» لمخرجته لينا العبد على الجائزة الخاصة بهذه التظاهرة التي تقدمها شركة «صورة للإنتاج الفني» (حاتم علي).
فرصة للاطّلاع على روائع الأعمال التسجيليّة العالمية
من جهة أخرى، مثّل المهرجان فسحة لإطلاع الجمهور السوري على روائع السينما التسجيليّة العالمية، والتعرف عن كثب إلى بعض صنّاعها، إضافةً إلى تفحص خصوصية هذا النوع الفيلمي الذي غاب عن صالات دمشق طويلاً كما غابت السينما الروائية أيضاً. بينما استقطبت وُرش العمل التي أقيمت على هامش المهرجان مواهب شابة لتعليمها أصول صناعة الفيلم التسجيلي.
وسجّلت الدورة الثالثة من المهرجان حضوراً لبنانياً متميزاً تمثّل في أربعة أفلام على رأسها شريط «12 لبناني غاضب» لزينة دكاش، وقد حصد إجماع المتفرجين ونال جائزة الجمهور.
بمعزل عن الظروف الإنتاجية البسيطة والإمكانات المتواضعة، استطاع Dox Box بجهود منظميه ـــــ ومجموعة من المتطوعين الشباب ـــــ تقديم دورة جديدة بدت في غاية الدقة في ما يخص عرض الأفلام، ولجهة تنظيم الندوات الحوارية التي تلت العروض… فيما اصطدم الجمهور بمشكلة أجهزة العرض التي بدت في حالة سيئة للغاية. هنا لم يكن أمام أسرة المهرجان سوى تجاهل المشكلة ما دام الحل بيد مَن غاب عن المهرجان من المسؤولين!
كان يا ما كان: «حريم» خارج الزمن
إيمان الجابر
كان يا ما كان طفلة اسمها بشرى تعيش في قرية «زور شمر» الواقعة على حافة النسيان. سئلت خلال تصوير «كلام حريم» (كتابة عدنان عودة وإخراج سامر برقاوي): ماذا تريدين أن تصبحي في المستقبل؟ صمتت، واستبدّت الحيرة بملامح وجهها. بدا السؤال كأنه هبط عليها من كوكب آخر: ماذا تريدين؟ ما معنى الإرادة؟ في هذا المكان، كل شيء متشابه. النساء يعشن حياتهن وفقاً لإرادة الرجل، يُختصرن بكلمة «حريم». الرجل يقف أمام الكاميرا ويقول مقتنعاً: «المرأة هنا حياتها زينة… لا ينقصها شيء، تعيش مثل نساء المدن».
المرأة محنيّة الظهر دوماً، تكنس، تجمع الحطب، تغسل وترعى الأغنام. أعمال لا تترك لها متنفّساً كي ترى وجه طفلها المعلّق على ظهرها، بينما يُشرف الرجل على حسن سير عملها. نراه جالساً أمام دلّة القهوة، يفشل في تعداد أسماء أولاده (17)، أو واقفاً قرب الموتوسيكل بكامل أناقته العربية، يضبط هندامه كلما اقتربت الكاميرا منه، أو يتسامر مع مجموعة رجال عن سن الزوج المناسبة للفتاة، (إذا وصلت المرأة إلى الخامسة والعشرين ولم تتزوج، انتهى أمرها) ويؤكد حقه في الزواج ثانيةً وثالثةً ورابعة وربما خامسة!
الرجل يحكي في ضوء النهار عن حقوقه، والمرأة تحكي في العتمة عن يومياتها، لكنّها تبدو متواطئة مع الرجل، من خلال استسلامها لموروث اجتماعي يقود حياتها.
اعتمد المخرج على المونتاج للسيطرة على خط سير الفيلم وإعادة تركيب جزيئاته (الأفكار، المعاني، الأحاسيس، الحركة، ضبط توقيت بداية اللقطات ونهايتها). بالتالي، حقّق وحدةً فنية، منحت الشريط نوعاً من الرشاقة في التنقّل بين مشاهده وأحكمت إيقاعه. هكذا، كان المونتاج المتوازي للقطات قريبة وثابتة في بداية الفيلم، حلاً لإظهار التوافق والتطابق بين كلام الرجال، وخلق لحظات كوميدية خففت من قسوة الواقع. فيما جاءت لقطات «الفوتومونتاج» لنساء يقمن بأعمالهن كي تصور الواقع على حقيقته. في نهاية الفيلم، ترك المخرج للكاميرا حرية ملاحقة وجوه النساء المتوارية في العتمة، وهن يتحدثن بلقطات غير مستقرة، مستخدماً كمية ضئيلة من الضوء لينسجم مع طبيعة الحوارات الدائرة بينهن. هكذا، بدت الكاميرا كأنها مخبّأة في مكان ما وتسترق السمع والنظر إليهن. «كلام حريم» الذي أثار الجدل في «مهرجان Dox Box» لم يتورط في السياسة والدين والجنس، لكنه لامس ما هو أعمق بكثير.
«كلام حريم» وتحديات السينما السوريّة
محمد ملص *
العرض الأول للفيلم الوثائقي «كلام حريم» لسامر برقاوي وعدنان عودة، ثم الحوار مع الجمهور إثر عرضه ضمن «مهرجان دوكس بوكس» في دمشق، أثارا لديّ مشاعر متعددة. هذا الفيلم المصوغ بتصور سينمائي ناضج، يحكي بلغة حميمة وصادقة منظور الرجال إلى المرأة في منطقة الفرات، والمكانة المحدودة التي يمنحونها إياها.
الواقع الاجتماعي الطاغي على حياة هؤلاء الرجال، يقدمه المؤلفان على مساحة الفيلم، لكنهما قبل النهاية، ينزلان بالفيلم إلى ما تحت الطاولة المعتم، ليتيحا الفرصة لهذه المرأة بما تملك أن تعبّر عن نفسها، فلا تملك حينها إلا صوتها لتغني قدرها ومصيرها!
الفيلم صادق وعذب، لكن ما أثاره لدي شيء آخر. الشيء الأول يرجع إلى اختلاط المفاهيم وانحراف محاورها الأساسية، حول العلاقة بين السينما والتلفزيون التي تطغى هذه الأيام في سوريا. صانعا الفيلم محسوبان على ما يسمى الدراما السورية. وبصرف النظر عما يفعلانه في الدراما، إلا أنهما في «كلام حريم» يفصحان بوضوح عن الاختلاف بين السينما والتلفزيون، وكيف عليك أن تختلف في التناول والتعبير بينهما. وأقصد أنّ التوجه للسينما يبدأ أولاً من وجود التصور السينمائي، وشتّان ما بين التصور السينمائي والتصور ـــــ إن وجد ـــــ للعمل الدرامي التلفزيوني.
نجا سامر برقاوي وعدنان عودة بامتلاكهما التصور السينمائي الصرف، من المحاولة المنافقة لنقل السينما إلى التلفزيون، ولم يتورطا في المحاولة المقنعة لنقل التلفزيون إلى السينما، فقدما وثيقة سينمائية محضة نقبلها أو نرفضها.
الشيء الآخر هو الحوار مع الجمهور الذي ترك فيّ أسى كبيراً. إذ كان أشبه بكرة تتقاذفها عناوين عامة. كانت الأفكار تراوح بين المانشيتات الصحافية وصدى مقولات ثقافة إعلانية. كل ذلك مغمس بردود أفعال قائمة على الدفاع القبلي أو المناطقي! ردود أفعال لا تريد أن ترى نفسها ولا الواقع الذي يحيط بها وتنتمي إليه، ما يكشف عن مأساة انقطاع الحوار الحقيقي بين الناس، وربما بين المثقفين أو متابعي الحياة الثقافية التي غدت اليوم تتنفس عبر رئات نادرة كتظاهرة السينما الوثائقية هذه.
لقد عكس الحوار الأثر الذي تركه غياب الحياة السينمائية التي تعيش على العروض والحوارات والنقد الحقيقي. وإذا كان لتظاهرة «أيام سينما الواقع» أهمية بما تعرضه، فإن تميزها الأهم يكمن في إقامتها حواراً بين صانعي هذه الأفلام ومتلقيها، وخصوصاً الحوار حول الواقع والسينما في سوريا. وهذه دعوة للتظاهرة لتكون أكثر وفاءً لما تعلنه عن نفسها.
وبالعودة إلى «كلام حريم»، يمكننا قراءة ما تعرّض له الفيلم نفسه، عبر أربع سنوات من العمل والمماحكة للوصول إلى عرضه الأول هذا. صانعا الفيلم يعودان إلى منطقة الفرات التي كانت الأكثر جاذبيةً للسينما الوثائقية السورية في السبعينيات والثمانينيات. رغم مرور هذا الزمن، لا تختلف صورة الواقع في العمل عن الواقع التي أفصحت عنه الأفلام الوثائقية التي تحققت في تلك الفترة. الواقع ما زال كما هو ولم يتغير شيء إلا السينما ذاتها. هذا الفيلم ينتمي إلى سينما اليوم ليس بلغته فقط بل بعدم وقوعه في فخ المنظور السياسي والإدانة المسبقة. لكن لا بد من الاعتراف بأن الرسالة التي كانت تطمح إلى إيصالها تلك الأفلام، بقيت ذاتها يستنتجها المتفرج من «كلام حريم».
حين يتساءل المتفرج عن «الحميمية» والصدق في لغة الفيلم السينمائية الجميلة، لن يحتاج إلى إجابة من خارج الفيلم نفسه. وقد حاول عدنان عودة خلال الحوار التائه الكشف عن أن هذه الشخصيات التي شاهدناها هي أسرته، وأن تلك المرأة التي غنت هي أخته. الصدق والحميمية هما أولاً خيار وولاء للسينما، على السينمائي أن يختاره أو لا. وخيارهما لـ«كلام حريم» هو تحيّة للسينما، لذا لا بد من تحية لصانعيه. كما لا بد من الأمل بألّا يكون «كلام حريم» كلام ليل يمحوه النهار.
* سينمائي سوري
الأخبار