صفحات ثقافيةعلي جازو

ثمة ما تعطّل في داخلي

null
علي جازو
أفكر بكسب مال كثير. كثرة المال ستنقذني من المهانة. ليست لدي أي فكرة عما سأفعل به، لكن حاجتي أقرب إلى الغريزة منها إلى التفكر وتدبير الشؤون الملحة. ستنظر إليّ فتاة بعيدة نظرة رجل ناجح محترم. تباً لنجاح يجلب النظر بهذه الطريقة العفنة. سيكون المال، وحده، طريقي العاطفي الرديء الشائع، وسيكون الشيوع علامة نجاحي. أنكسر حزنياً من مآل تفكيري المحطِّم، مما أوصلني إلى طباع كلام لا أطيقه: مجاملات باردة، آراء لا تشبه الآراء في شيء، خليط مشوه من تميز وادعاء فارغين. عندما أمر بحانة جديدة منيرة نظيفة، أو مطعم رومانسي بستائر نصف مسدلة، أتخيل أناساً سعداء بالشرب والأكل وتبادل النكات المكررة. يضجرني تصوري هذا. لا أعرف أحداً منهم، غير أن مروري يجعلني قرب صحونهم وأشواكهم اللامعة كفضة مصقولة. وهذه الكؤوس الكبيرة، بمربعاتها السميكة النافرة، تمتلئ وتفرغ كما لو أنها عيون بلا أصحاب. أخلو من أي تفكير لا ينتهي بكسب مال جديد. أعيش وحيداً مثل أرمل، مثل عاشق فاشل. ألعن كل خيال، كل عقل أوصلني إلى هذه الحالة. أمتلئ غضباً عليَّ، ولا عظم في يد عقلي يستحق كسره. ثمة ما تعطل في داخلي. تعفن، مكث طويلاً من دون تكلم، من دون حركة للكلام قط. لدي ثلاث بنطلونات. إثنان للغسيل ينتظران. لا يهمني الكيّ أبداً. أحدها أسود سميك وضيق، وبه ثقب بمكان مخجل. الأزرق بلون السماء، لا يعجبني، حرارة لونه فاترة، له جيبان خلفيان مجعدان. الأزرق الداكن أريح وأكثر طراوة. لين وخفيف ومطيع لعدم تناسق جسدي، وبه خمسة جيوب، أربع منها واسعة تكفي علبة الدخان والموبايل والمفاتيح السبع والقداحات الصغيرة المسروقة. أؤجل غالباً غسل ثيابي. أعرف أن أحداً ما سيتصل بي، صديق ما، يطلب مني جلبها، عنده غسالة قديمة، لكنها أيضاً أوتوماتيك سريعة ممتازة. سيتصل معي خلال أسبوع على الأكثر. هكذا أوفر ثمن الكهرباء والماء الساخن والسوبر توبيك اللعين والوقت الثقيل الذي أصرفه على غسيل لا يمكن أبداً أن ينظف ملابسي. أهداني أحدهم ملابس داخلية جديدة داكنة ملونة، لا يظهر عليها الوسخ إلا بعد فترة طويلة. كم شعرت بالامتنان والبهجة. كدت أبكي من الفرح. وددت لو أعرف فقط أين تباع هذه الداخليات الملونة المتينة. من يفكر مثلي بتدبير عيشه، لن يحصل أبداً على مال وفير.
يدي اليسرى
يدي اليسرى يائسة، اليمنى تغرق في النوم كما لو أن الغرق سبيل راحة أكيد. كلتاهما مرتاحتان مثل قطعتي معدن نظيف يلمع على وجه طفل ميت. هواء الصباح البارد يكسو أصابع اليسرى انكماشاً لامعاً، فيما اليمنى تنظر، لا تبالي بدفء مفقود. ظلال مقبض باب الباص الضئيلة لا تمس. أسفلها جِلدة سوداء معوجة وسميكة. يد الشوفير ثخينة، ثقيلة، قربها يطفو بخار من قدح الشاي؛ من فم علبة بلاستيكية صغيرة بيضاء. المرآة الجانبية العريضة المستطيلة تموج بانسياب أسفلت الشارع المبلل من مطر البارحة الخفيف. فتاة محجبة ينزلق عن بنطالها الجينز طرفُ معطفها الرمادي الطويل. وجهها طري، وتحت جفنيها ظلال زرقاء مغبشة. يدي اليمنى تفكر بالمحجبة الجالسة بجواري. هذا جزء من ضجر الحرمان اليومي الخانق. لو كانت تكلمتْ أو فتحت كتاباً على ركبتها، لما انشغلت بمنظر فخذها المحمي بالجينز المتين. يعجز فمي عن مرافقة تحولات عيني، أما لساني وهو آلة خنوع ذليل- فيتحمل محاورات فمي المغلق البليد الجاف. تندهش عيني، تغضب وتخاف وتحقد وتتألم، فلم لا يخرج لساني آلام عيني المستمرة، ولم لا يتكلم فمي مثلما تصمت عيني؛ عيني.. التي ترى وحسب؟! أفكر بسخونة فطائر الجبنة الصباحية، معدتي تصرخ في وجهي الذي لا يدَ تحميه من جوع كل نهار. ما الجديد فيه غير تكرار الجوع والتفكير بثمن الفطائر. أيدي العمال الأكراد، كثرت أعدادهم في المطاعم والمقاهي وسيارات الأجرة العمومية، خفيفة نشطة، لكن وجوههم مطفأة، لها سمة ورع وتهذيب خائفين. ليس سوى الارتياب والخشية، وما من كلمة أخرى غير سعر المازوت، وتأمين غرف بايجار منخفض. يدي اليسرى تعيد فتح وجه أمسِها، تغرق في تواصل ممل، تخور وهي ترفع أصابعها في وجوه الصحف التي تعرف أنها تصرخ في صحراء، وأن صراخها وسيلتها الوحيدة للاستمرار في الكذب والأمل سواء بسواء. تؤجّل يدي اليمنى رغبتها في قرص صاحبة الجينز التي تظل مرتبكة في إعادة طرف المعطف إلى مقدمة الركبة، تضع جزدانها الصغير عليه لئلا ينزلق من جديد. أضع عيني في لساني، ولساني على يدي. لكن يدي تخجل من وجهي.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى