مهرجان “دوكس بوكس” للسينما التسجيلية في دمشق: شاشات الأرواح المخنوقة
مايا جاموس
ربما العفوية والصدق والابتعاد عن الشكليات والاستعراض والرسميات، من أهم ما ميّز مهرجان السينما التسجيلية “دوكس بوكس”، الذي أقيمت دورته الثالثة بين 3 و11 آذار في صالتي “الكندي” و”الحمراء” في دمشق، إلى جانب مدينتي طرطوس وحمص، تنظيم شركة “بروآكشن فيلم”، مدعومةً من عدد كبير نسبياً من المؤسسات المحلية والعربية والأجنبية.
“هدفنا تكريس المهرجان كنقطة التقاء للتسجيليين في العالم العربي وتعارفهم مع التسجيليين عالمياً، وكمكان يوفّر فرصاً تدريبية وتشبيكية عادلة مفقودة في العالم العربي”. بهذه الكلمات لخّص مؤسس المهرجان وعضو لجنته التنظيمية المخرج عروة نيربية أهداف “دوكس بوكس” 2010 في سوريا.
من الواضح أن هذه التظاهرة تحوّلت نشاطاً ثقافياً اجتماعياً جذّاباً للشباب ولبعض المثقفين، الذين يفتقرون إلى مشاهدة الفيلم التسجيلي في صالات السينما، وأثبتت أن السينما التسجيلية “جماهيرية وقريبة من الشباب”، على حدّ تعبير المخرج السوري نضال الدبس.
لكنّ الأمر ليس بالسهولة التي يبدو عليها تنظيم نشاط ثقافي مستقل في سوريا، فالمتاعب تبدأ من غياب قوانين تنظم العمل الثقافي المستقل، على ما قال نيربية، الذي أضاف إشكاليةً أخرى هي الرقابة، التي باتت عائقاً دائماً الى درجة خلق رقيب داخلي لدى الخلاّق يتعايش معه هرباً من مؤسساتها الرسمية: “نحن مدركون أكثر فأكثر للواقع الرقابي في سوريا، وبالتالي ليس هناك مشكلات. نسبة الأفلام التي تعترض عليها الرقابة صغيرة جداً وتكاد تكون مهملة بحكم أننا نعرف الهوامش ونحاول دفعها بدرجة بسيطة، ولا نرغب بتأسيس إشكالات ونزاعات حول الموضوع، كما نعلم أن عدد الأفلام الجيدة التي تفيد مجتمعنا وتمتّع جمهورنا وتعلّمنا جميعاً، هي أكبر بكثير من أن نتوقّف في الضرورة عند إثارة المشكلات كل عام، وتالياً تحويل المهرجان إشكالية بدلاً من تحويله جزءاً من الحياة الثقافية في البلد”، وأضاف بحماسة: “نحن كأشخاص ضد كل أنواع الرقابة ومؤمنون بأن الرقابة الوحيدة التي يجب أن نقبل بها اليوم، هي الرقابة التي تحدد فئات عمرية فتقول إن الفيلم الفلاني لا يصحّ أن يشاهده من هو تحت العاشرة مثلاً، أما أن يكون هنالك من يقول إن هذا الفيلم غير مناسب للشعب السوري فأظن أنّ هذا غير معقول”.
تبرز مسألة التمويل كإشكالية أخرى في ظل الافتقار إلى قانون الاقتطاع الضريبي للشركات الخاصة التي تساهم في تمويل المشاريع الثقافية غير الربحية، حيث عمد منظمو “دوكس بوكس” إلى تعددية الجهات الداعمة، وتحديد سقف المساهمة بعشرين في المئة من أجل “حماية الاستقلالية النسبية للمهرجان”.
تبدو السينما التسجيلية هي المَخرج بالنسبة إلى الكثيرين ممن يرغبون بصناعة سينما في ظل صعوبة الحصول على التمويل والأذونات، ولعل هذا المهرجان يشكّل حافزاً مهماً للغاية بالنسبة إلى الشباب خاصةً: “أعرف أن هناك شباباً بدأوا يحملون كاميراتهم ويصورون”، هذا ما قاله المخرج الدبس صاحب فيلم “الحجر الأسود”، إعداد الروائي والسيناريست خالد خليفة، والمشارك في تظاهرة “أصوات من سوريا”، والذي بدوره كان تعرّض لمنع الرقابة ثلاث سنوات. عن غياب جيل السبعينات التسجيلي عن الـ”دوكس بوكس”، قال المخرج السوري محمد ملص: “هذا الجيل لا يزال يتمتع بنشاطه وقوته، لكنه يتعرض إلى حصار ووضع العراقيل والعقبات، خاصة أن القطاع العام في سوريا وحده ينفرد بإنتاجها متمثلاً في المؤسسة العامة للسينما التي تُنتِج على الأغلب بمزاجيات ومرجعيات ليست فنية بقدر ما تقوم على الولاء السياسي أو على العلاقة الشخصية مع المتحكّمين بهذه المؤسسة”، ورأى ملص أن التحديات التي تواجه السينما التسجيلية في سوريا تتلخص بـ”الحريات والديموقراطية”.
اللافت تركيز المهرجان على أفلام ذات موضوعات عامة تهم السوريين عموماً، أو ذات مضامين إنسانية عامة، فهنالك الأفلام التي تتبنى قضايا المرأة، أو ما يتحدث عن انهيار الشيوعية مقابل صعود الرأسمالية، أو أفلام تهتم بالأزمة الاقتصادية الحالية.
كان للمرأة حصّة من خلال مجموعة جميلة من الأفلام، من بينها “ستة أسابيع” من بولونيا، لمخرجه مارسين يانوس كرافتشيك، حيث تتخلى أمّ مرغمةً عن مولودتها بسبب فقرها الشديد، تجمع لها بضعة ألعاب وأشياء صغيرة، وتكتب لها رسالة سيُسمح للابنة بقراءتها عند إتمامها الثامنة عشرة.
فيلم “كلام حريم” من سوريا للكاتب عدنان العودة والمخرج سامر برقاوي، بقي حبيس الأدراج بضع سنوات لأسباب رقابية، يذهب إلى إحدى قرى الجزيرة السورية، وينقل صورة المرأة في تلك المنطقة، في مجتمع سمته الأساسية الجهل حيث تتزوج الفتاة في سن مبكّرة لتبدأ الإنجاب. مجتمع ذكوري يظهر رجاله في الفيلم تحت ضوء النهار متباهين بزيجاتهم العديدة، فيما تجلس النساء في عتمة البيوت يحكين ببساطة الاعتياد عن عدم تعليمهنّ بسبب الزواج المبكر، وعن طلاقهنّ وزواج الزوج من أخريات وضرب الرجل لهنّ. المرأة هنا للعمل وإنجاب الأولاد الذين سينضمون إليها في العمل، أما الرجل فيشرب القهوة مسترخياً بجانب المدفأة أو يستند إلى دراجته النارية، ناسياً أسماء أولاده لكثرتهم، متباهياً بتوفير الرفاهية للمرأة بتأمين الكهرباء والفرن لها. مجتمع يرفض تعليم المرأة معتبراً أن جلوسها في بيتها ساكتةً يعني راحتها وحلاوة عيشتها، ويفتقر إلى أبسط درجات الاهتمام الحكومي به، إذ تفقد عائلةٌ واحدة عدداً من أطفالها بسبب الكزاز، وتموت طفلةٌ غرقاً في الساقية التي تشرب منها. لكنّ المفاجئ في هذا الفيلم هو تصريح معدّه بأنه لم يذهب بعيداً لينقل هواجسَه: “من ترونهم هم أهلي: أختي، أمي، أبي، ابنة عمتي، عمّاتي…”.
أما في روسيا فكما هنالك المرأة – السلعة – الجسد، هناك المرأة التي تعمل كما الرجل بمهن غير معهودة. في “التاكسي الوردي” لمخرجه أولي غاولكه، تحكي ثلاث نساء كيف اضطرتهنّ الظروف إلى العمل كسائقات تاكسي خاص بالنساء، ظروف يغيب فيها الرجل، فهو إما خائن يعيش غرامياته مع ابنة شقيقة زوجته، وإما سكّير غير مسؤول عن عائلته، لتجد المرأة نفسها مسؤولة عن إعالة أولادها وتربيتهم وحدها، في زمن تتحسّر فيه على مرحلة الشيوعية، وتعيل ابنها الشاب غير المسؤول الذي يرفض العمل والزواج.
من إيران “غياب السيدة أو السيدة ط” للمخرجة فيما إمامي، يهدد الزوج زوجته بالطلاق إن لم تتمكن من الإنجاب، على رغم تأكيد الأطباء أن لا مشكلة صحية لدى المرأة، بل لدى الزوج الذي يرفع دعوى طلاق تبقى معلّقةً في المحكمة في انتظار التأكد من نتيجة المحاولة الثانية لعملية طفل الأنبوب. الرجل يضحك ويتحدث عن الطلاق بسهولة ويعترف لزوجته بأنه يريد الزواج من أخرى ليس من أجل الإنجاب فحسب بل لأنه يريد امرأة أخرى، وهي خائفة وتقول إنها كانت مطيعةً له ولم تزعج أهله، لكن يحالفها الحظ وتحمل… فيعدل عن الطلاق.
“فرط رمّان الدهب”، إخراج غادة الطيراوي، تتحدث فيه مجموعة من النساء الفلسطينيات عن العنف الذي تعرّضن له، وبشكل خاص عن سفاح القربى، وعن خوفهنّ وسكوتهنّ طويلاً قبل قرار التحدث من خلال هذا الفيلم.
فيلم “القمر في داخلكِ” للمخرجة السلوفاكية دبانا فابيانوفا، عُرض في اليوم العالمي للمرأة، يحمل فكرة لطيفة حول اعتبار الدورة الشهرية للمرأة امتيازاً خاصاً وتواصلاً مع القمر، وألمها يعني أنها تحمل آلام النساء في داخلها. مدرّبةٌ تقترح الجنسَ والمداعبات وسيلةً لتخفيف آلام الدورة. نسوةٌ يتحدثن عن أنوثتهنّ وأجسادهنّ بإعجاب: “نحن كالقمر، لسنا على حال واحدة، نمتلئ ونفرغ”.
ضمن تظاهرة “الطبقة العاملة تذهب إلى الجنة”، شاهد الجمهور فيلم “رجال المدينة” في حضور مخرجه الإنكليزي مارك آيزاكس، الذي يرصد الأزمة الاقتصادية من خلال تأثيرها على أربعة رجال في بريطانيا، بمشاهد تقترب كثيراً من السينما الروائية. نرى ديفيد رجل أموال، أغرقته البورصة في عالمها وخسر حياته الأسرية والاجتماعية، والأهم أنه خسر روحه مستعيضاً عن وجود أطفاله إلى جانبه بكمّ كبير من صورهم التي يلتقطها بنفسه ويعمل بدقة على إحاطة نفسه بها، فيما نورمان محصّل الأموال هو الآخر مدمَّّر سحقته الشركات لكنه يحسم أمره أخيراً ويستقيل، لكن ينظر إلى ما جناه، فهو بالكاد حصل على بيت ولم يتمكن من إنجاب الأطفال إلى هذا العالم الموحش. ويبدو ستيف عامل التنظيفات الأكثر هدوءاً وتصالحاً مع حياته. متحرر بعض الشيء من سطوة العمل وتأمين لقمة العيش، يمضي الكثير من وقته في القراءة لإيجاد فلسفة لوجوده وأهمية عمله ككنّاس للشوارع. أما البنغالي فهو من بين الكثيرين من المهاجرين واللاجئين الفقراء، يبحث باستمرار عن عمل ويعيش في بلد لم يتعلم لغته بعد. ويقول آيزاكس عند سؤالي له عن الرسالة التي يوجهها من خلال فيلمه، “إن مسألة الأزمة الروحية مركزية في عملي تُظهِر كيف تتغير مواقع الناس في الحياة تبعاً لهذه الأزمات التي تتجاذبهم، وذلك من خلال الدخول إلى عوالم شخصيات غير منسجمة مع واقعها. أحببتُ أن أضيف لمسةً شعرية على الموضوع لأُظهِر عمق الأزمة”. ويتابع: “بعد الأزمة الاقتصادية في بريطانيا بدأ الناس يطرحون الأسئلة عن القيم والوضع الذي يعيشون فيه. لكنْ في الوقت نفسه ليست هنالك بدائل سياسية لديهم، لأن الأحزاب الموجودة يشبه بعضها بعضاً، فحزب العمل وحزب المحافظين لديهما الأطروحات نفسها”.
رافق المهرجانَ مخيمٌ تدريبي جمع سينمائيين شباباً مع مخرجين تسجيليين عالميين، إلى جانب ورش تدريبية لكتّاب السيناريو وللقاء مع جهات تمويلية. من ضيوف المهرجان هذه السنة المخرجان الأميركيان د.أ.بينيبيكر وكريس هيغيدس إلى جانب المخرج التشيلياني باتريشيو غوسمان صاحب ثلاثية “معركة تشيلي”. مُنحت جائزتان، الأولى خُصصت لتظاهرة “أصوات من سوريا” وذهبت إلى فيلم “نور الهدى” لمخرجته لينا العبد (فلسطينية مقيمة في دمشق)، قاربت فيه بشكل عاطفي حياة شابة وعائلتها تعيش في مخيم مذهل بفقره في العاصمة دمشق! نور الهدى تفصح عن حرجها بسبب المكان الذي تسكن فيه وعدم تمكّنها من استقبال أي من صديقاتها في خيمتها (صفيح وخشب وقماش)، وهو “البيت” الذي يفتقر إلى كل شروط الحياة الكريمة، ويضم عدداً من الأفراد بينهم طفل مريض اضطر الأب إلى بيع ماكينات الخياطة لتقديم العلاج له من دون جدوى. أما لجنة جائزة التحكيم فكانت من نصيب فيلم “12 لبنانياً غاضباً” لمخرجته اللبنانية زينة دكّاش، الذي يرصد المراحل الصعبة من التحضيرات لمسرحية بالعنوان نفسه، أخرجتها دكّاش لمجموعة من نزلاء سجن رومية، كما يرصد أوضاع البيئات الاجتماعية التي تطورت فيها هذه الشخصيات. ضمن مشروع العلاج بالمسرح، يبوح السجناء باعترافاتهم ومراجعاتهم الحادة للذات وندمهم على ارتكاب الجريمة، ويقرّون بخوفهم من العودة إلى النسيان بعد المسرحية، ويذكّرون بأنهم طاقات مهدورة. يقدم الفيلم اتهاماً للمجتمع الذي ينتج مثل هؤلاء المجرمين ويُظهِر الجوانب الإنسانية في دواخلهم، مقارباً السؤال الأصعب حول إمكان اندماجهم مع هذا المجتمع.
فيلم الختام للمخرجة الهولندية أليونا فان دير هورست عن الشاعر الروسي الشاب بوريس ريجي الذي انتحر بعدما عجز عن تحمّل الكم الكبير من الألم في مجتمعه وانعدام العدالة الاجتماعية، تاركاً جيراناً لا يكترثون بشعره أو بأسباب انتحاره، والأهم أنه ترك ابناً لا يعنيه والده أو تصوير فيلم عنه، ولا يحبّ شعره ولا يقرأه.
البيريسترويكا أو جيلٌ لم يبقَ منه إلا الموتى، وصورهم على شاهدات القبور بين ركام الثلج أو تتجاور في ألبوم صور. تختصر زوجة بوريس الوصف: “إننا جيل فائض على الحاجة بين الشيوعية والرأسمالية”. يقدم الفيلم العديد من أشعار ريجي وهو يتحدث فيها عن بيئته الفقيرة وعن تحول الحياة طقسا عبثيا يجبر أصدقاءه في الجامعة على العمل في عصابات المافيا لتنطفئ الأحلام برصاصة نحاسية في الجمجمة. تتكثف سوداويته بشعوره بالخزي لأنه على قيد الحياة، ويقول: “دعوا عظامي في مقبرة بلا اسمٍ لأن رفاقي يرقدون هناك في حقول الثلج الزرقاء الأسيدية”.
لعل اختيار لجنة المهرجان لهذا الفيلم في الختام مع تمنّيها أن يبقى في الذاكرة مترافقاً مع المهرجان، هو تنبيه إلى التحديات والصعوبات التي تواجهه، لكنه مصرّ على البقاء.
دمشق
النهار