صفحة من يوميات مخبر
سعيد لحدو
في يوم \ما \ وتاريخ \يشبه كل التواريخ\
لطالما تساءلت عن صحة ذلك المثل السوري الشائع الذي يقول: من راقب الناس مات هماً. وعن الدوافع التي حدت بمبتدعه الأول لإطلاقه، وعن السر الذي يجعل الناس يرددونه جيلاً بعد جيل!!! ففي الحقيقة إن مراقبة الناس كانت هوايتي مذ كنت يافعاً. وحتى بعد أن أصبحت مهنتي التي أعتاش منها، لم أجد قط أية غضاضة في مراقبة الآخرين وتدوين تحركاتهم بأدق التفاصيل. ومع ذلك فإنني مازلت أعيش كما ترون، وعين الله علي. ولم أمت يوماً لا من هم ولا من غيره. أما الموت هماً الذي تحدث عنه ذلك الذي اعتبره الناس حكيماً، كل هذه الأجيال، فلم يكن من نصيبي بأي حال. بل كان على الدوام متعمشقاً برقاب أولئك الذين أراقبهم. فأنا الذي باتت مهنتي ومصدر رزقي الإلمام بكل دقائق وتفاصيل حياتهم، من أدرى مني ليدرك كم مرة ماتوا مما يعانونه من هموم ومتاعب، لم أكن أنا سببها الوحيد.
وكما هي العادة فقد بدأ يومي باكراً من أمام باب الفرن حيث يتجمع الناس يومياً للحصول على رغيف ساخن يبدأون به مسيرتهم اليومية الشاقة. وتحت ضغط الازدحام من جهة وإلحاح الوقت الذي يداهمهم وهم ينتظرون، من جهة أخرى، ينفثون مع تأففاتهم بعض الكلمات التي لا تخلو من الدلالات، والتي تلتقطها أذني على الفور لتحولها بعد ذلك إلى تقرير يستحق الدراسة. وإزاء هذا الإغراء، فلقد تعمدت إعطاء دوري لبعض المسنين والنساء لكسب المزيد من الوقت للمزيد من الحصاد اليومي، آملاً في أن يكسبني هذا التصرف بعض الاحترام في نظرهم، رغم أنني لست واثقاً من ذلك. لأنني أحسهم يتهامسون فيما بينهم بمجرد أن يلمحني أحدهم قادماً.
تطوافي اليومي انطلق من عند سمان الحارة عبر دردشتي اليومية معه بعد أن قدمت له سيجارة وأختتمته أيضاً عنده في النهاية لكي لاتفوتني أية واقعة من مجريات الأمور في الحي مهما بدت تافهة،. والسمان أكثر من يتحسس هذه الأمور لأنها تتعلق بمبيعاته. عدت بعدها إلى البيت لأدون ماجمعته من أخبار ومعلومات خلال تطوافي ذاك. لكن ما لم أتمكن من تدوينه في تقريري اليومي هي تلك النظرات الغريبة التي كان يرمقني بها معظم من ألتقيهم والتي تستفزني وتخترق كياني وتدفعني أكثر للانتقام. لهذا فإنني أضفت كما في كل مرة، شيئاً من (البهارات) على الأخبار والمعلومات التي أستقصيتها كوسيلة جربتها مراراً لإراحة أعصابي.
سائق التاكسي الذي ركبت معه اليوم كان متواقحاً معي ولم يرد علي عندما سألته عن الزبون ذي الملامح الأجنبية الذي أوصله للتو. وفوق ذلك فقد طلب مني أجرة التوصيلة، رغم معرفته بطبيعة عملي. سأتوصى فيه قريباً بتقرير من كعب الدست لأربي به كل سائقي التاكسي في المدينة.
في المطعم الذي كان علي أن أتناول فيه طعام الغداء وعيني مفتوحتين، شد انتباهي وجود رجل وامرأة في متوسط العمر بدا لي أنهما متحابان من خلال طبيعة جلستهما غير العادية. ولقد صح توقعي بعد أن استقصيت الأمر بطريقتي الفذة في المتابعة والسؤال وعرفت أنهما يقيمان علاقة غير شرعية رغم أن كليهما متزوجان. وهذه قضية سيطير لها معلمي فرحاً، وبخاصة إذا علم أنهما من الأثرياء. وبالطبع سيطلب مني أن أجد تهمة ما للرجل في تقريري القادم كمقدمة لتكون سبباً لاستدعائه للتحقيق. وحينها ولستر الفضيحة، سيكون لكل حادث حديث. وبالتأكيد، وكما في المرات السابقة فإن معلمي لن ينسى حصتي مهما صغرت من هذا الصيد الثمين.
ما يدهشني أن هناك بعض الأشخاص ممن أستطيع كتابة عشرات التقارير عنهم محرم علي ذكرهم بأي حال، رغم أن بينهم معارضين معروفين لسياسة الدولة. كما بينهم بعض التجار ممن تثير نشاطاتهم وسلوكهم التساؤلات المحيرة. وكل هذا قد أجد له بعض التفسير إن حاولت التعمق في التفكير. لكن ما لم أجد له تفسيراً هو تلك البهدلة والتوبيخ العنيف اللذين كرَّمني معلمي بهما إثر يومين عصيبين من الحجز الإنفرادي بالنظارة ممنوعاً من الأكل والشرب والنوم لمجرد أنني قدمت تقريراً بأحد بيوت الدعارة التي اكتشفته مصادفة أثناء أحد تجوالاتي الليلية. والأغرب من ذلك أنه اتهمني بترتيب هذا الأمر لمصالحي الخاصة، ومنعني بعدها نهائياً من المرور في ذلك الشارع!!!
حتى الآن كانت مهمتي ملاحقة التفاصيل الصغيرة في الحياة اليومية للناس العاديين. وهذه مسائل روتينية لاتحتاج إلى كثير من الذكاء والخبرة. لذا سأحاول الرفع من مستوى نشاطي وقيمته وأهميته. وهنا يخطر ببالي أن أقترح على معلمي القيام بمهمة أعتقد أنها ستكون رائعة. الهجرة للخارج والعمل من هناك بين صفوف المهاجرين من السوريين، وما أكثرهم. وإن أراد معلمي فإنه ليس أسهل من تلفيق مشكلة أمنية لي لتسهيل حصولي على الإقامة هناك. سأكلمه بهذا الشأن عله يساعدني للتخلص على الأقل من تلك النظرات التي تهز كياني كلما نظر أحدهم إلي بها. فهناك في الخارج لا أحد يعرفك. وحتى يتعرفوا عليك يكون الناس هنا قد نسوك تماماً. وفي الحالتين هناك راحة للأعصاب وكسب مادي لا يستهان به. ناهيك عن خدمة الوطن. تلك الخدمة التي تبقى في النهاية أحد أهدافنا!!!
خاص – صفحات سورية –