رائــــحــــة الـقــــرفــــة” لـســــمــر يــــزبـــك
سيلفانا الخوري
الـخـــــروج مـن الـجـــــنّــة
في “رائحة القرفة” تختار سمر يزبك بنية سردية بسيطة وتقليدية، ولغة تقول بالبساطة ذاتها أعمق مكامن الوجع الانساني: الحب والجسد وتمثّلاتهما. من خلال العلاقة المثلية التي تجمع سيدة دمشقية ثرية بخادمتها، تحكي قصة اجساد هاربة من سطوة النظم الذكورية القامعة والمغتصِبة والمُعيقة، الى عالم من أنوثة مجرّدة يعيد فيها الجسد اكتشاف ذاته والتصالح معها بعد سنين طويلة من التغييب والمصادرة والاغتصاب الفعلي والمعنوي.
لا نتحدث هنا عن ذكورة وأنوثة بالمعنى الجندري للكلمتين، بل كمفهومين يحمل كل منهما مجموعة من القيم التي يكتسب فيها الجسد هويته واشكال وجوده. على طول الرواية الصادرة حديثاً لدى “دار الآداب” في 167 صفحة من القطع الوسط، نعاين كيف يتفتّح الجسد وكيف يتشكل وعيه لذاته منذ اول احتكاك يُخرج الطفولة من طفولتها ليجعلها في مواجهة عالم سري وغامض ومليء بالاحاسيس الجديدة والمختلفة، التي ستظل مرتبطة ابداً بأماكن وروائح وملامس ستأخذ في ما بعد شكل استيهامات لا تني تفصح عن نفسها بشتى الصور.
تبدأ الرواية من لحظة النهاية. اللحظة التي تطرد فيها السيدة الدمشقية حنان، خادمتها وحبيبتها عليا، بعد اكتشافها انها تسللت ليلاً الى غرفة زوجها لتعبث بجسده المترهّل. يتخذ النص بعد ذلك مساراً استعادياً تتناوب فصوله على اعادة رسم ماضي كلٍّ من المرأتين وخلفيتيهما، وذلك على وقع خروج عليا من المنزل وعودتها الى “حي الرمل”. هو خروج اشبه بسقوط الملاك، او الملاكين بالاحرى. اذ ستفقد كل من المرأتين “جنتها” لتجدا نفسيهما فجأة في مواجهة الشيء الذي لطالما حاولتا تعليقه ونسيانه: شرط الولادة ولعنتها. هكذا ستجد عليا نفسها مطرودة من المكان “الملوّن والنظيف”، ومتّجهة بقدمين مرتجفتين الى عالمها الاصلي، عالم البؤس والعنف والجوع والبرد، عالم الصفائح وحاويات النفايات والقتل والموت والاغتصاب في اقصى تجلياتها عنفاً وشراسة. أما حنان، فستقف، او تنهار بالاحرى، في مواجهة ماضٍ يشكّل بترتيبه المقيت وجهوزيته الدائمة “للتحرّك ضمن خط مستقيم لا يحيد عنه”، المعادل لنتانة العالم الصفيحي الذي تتحدر منه عليا والوجه الآخر لفوضاه. ذلك ان هذين العالمين، رغم تناقضهما الظاهر، محكومان بسلطة ذكورية تشكّل القامع الاساس للجسد ومغتصبه الاول والأخير، اعتداءً او رسم حدود او تقنين غرائز. وهي سلطة واحدة مهما تتنوع تمظهراتها شكلاً او حتى جنساً. فإذا كان الاب في عالم عليا يشكّل بعنفه واجرامه النموذج الابرز لها، فإن الام هي عنوانها الاساس في عالم حنان، بحيث تكاد تكون وجهه الذكوري بامتياز.
على هامش هذين العالمين، او فوقهما بالاحرى، يرتفع عالم انثوي بامتياز، ليس لكونه وقفاً على النساء فقط ولغياب كل وجه ذكوري عنه، بل خصوصاً لغياب منظومة كاملة من القيم والمفاهيم والاخلاقيات التي تسنّ للجسد قوانين من خارجه ومن خارج منطقه. ولن يتحطم هذا العالم اليوتوبي البديل وينهار الا عندما يعود الجسد الذكوري ليدخل على الخط لحظة تشاهد حنان “جسد الزوج الفاصل بين جسديهما، ساكناً، مفضوحاً بعريه الذي لا تعرفه“.
من هنا، لا تنتمي ايٌّ من المرأتين فعلياً الى مكان، لا جغرافي ولا سوسيولوجي ولا اخلاقي، بقدر ما تنتميان الى انوثتهما المُعاد اكتشافها، اما علاقتهما فهي أشبه بالشرط للنفاذ من لعنة الولادة الاولى واستعادة الوجود المُصادَر: “كانت كائناً غير موجود، حتى استمدّت من جسد حنان وجودها وثقتها بنفسها”، تكتب سمر يزبك عن عليا وتضيف: “صارت تتخيّل انها لم تولد في ذلك الحي، وان السيدة صنعتها من جنون رغبتها”. وبعدما كان الآخر هو المغتصِب والمعتدي والقامع، يصير هنا امتداداً للذات التي تروح تفتّش عن لذّتها داخل نفسها: “هذه هي القوة. ان تكوني انتِ منبع ذاتك ونهايتها”، تقول حنان لعليا، وتضيف: “لا يوجد رجل قادر على امتاعك كما تفعل اصابع ليّنة خارجة من قلبك، وليست خارجة من جسد رجل. استطالات دافئة. تتفتّح فيك، وتكبر، تمنحك ما خرج منك، وما لديك، وبذلك تكونين سيدة نفسك. تعيد اليك انوثتك في ارتعاشة”. هكذا يتحوّل الجسد في مسار شديد التعقيد من عَوْرة ونقطة عطب، الى درع واقية وسلاح.
لا ترفع يزبك ايّ راية اخلاقية او توجيهية، ولا تمارس ايّ محاكمة مسلكية على بطلتيها، بل نراها تطرح على لسانيهما اسئلة لا تخلو من براءة ملغومة: “لماذا تتحول عيون النساء الى فراغ مفتوح تحت اجساد الرجال؟”، ثم تترك للجسد وحده ان يسنّ ناموسه بنفسه خارج القوانين المجتمعية المفروضة. هو وحده يقرّر ما “الشرعيّ” وما “المحرَّم”، ما الطبيعيّ وما الخارج عن الطبيعة، ما النظيف وما النتِن: “كانت رائحة السيدة تجعلها تتفتّح وتستطيل. رائحة السيد، تجبرها على الاغتسال في نهاية الليل”. من هنا، لا تحمل علاقة المرأتين ايّ بعد إثميّ، خلافاً لعلاقة حنان بزوجها التي تبدو أقرب الى ارتكاب المحارم، فمَن كان في الماضي بمنزلة أخ أكبر لها، يدللها هو وزوجته ويأخذانها معهما في النزهات، صار بين ليلة وضحاها زوجاً وشريك فِراش. تبدو هذه النقطة تحديداً، اي علاقة حنان بزوجها، الحلقة الاضعف في الرواية، اذ تمر بها الكاتبة سريعاً ولا تقدّم عنها الا معطيات اولية، فتخسر بذلك فرصة الغوص في حقل غني بالتعقيدات الانسانية والشعورية، لو تعمّقت فيه اكثر لأضفت على الرواية بعداً اضافياً غنياً.
عدا ذلك، تنجح الكاتبة في رسم مسار الجسد الذي يتعلّم أبجدية ذاته، وفي الاضاءة على هذه العوالم السفلية والقاتمة والمغلقة التي تدور معظم حوادثها في الليل، بينما يعيد النهار ترتيب الاشخاص بحسب مراتبهم الاجتماعية، فتعود السيدة سيدة والخادمة خادمة، قبل ان يأتي الليل مجدداً لتعود السلطة الى الجسد وحده، هذا الذي لا يعرف سوى لغة لذته، ولا يعترف الا بمراتب شهواته. اما “خط الضوء المائل” الذي يشكّله الباب الموارِب لغرفة السيد حيث ستكتشف حنان خادمتها فوق جسد زوجها، فهو الحد الفاصل بين هذين النهار والليل، بين واقع الجسد ويوتوبياه، لكنه كذلك وببساطة شديدة الحد الفاصل بين الحب والخيانة.