صفحات مختارةياسين الحاج صالح

أي حلّ لعُقدتنا الغوردية؟

ياسين الحاج صالح
أوضاع المشرق العربي معقّدة جدا. تعقيدها متولّد من تفاعُل قوى ثلاث. النظم الحاكمة الاستبدادية المعنيّة بتأبيد حكمها، «الإسلام» مفهوما كحركات اجتماعية وسياسية تشترك في تطلّعاتها السلطوية ورفضها للحداثة، والغرب كحداثة وسلطة عالمية غير ودودة تجاه مجتمعاتنا وثقافتنا، وككتلة دولية مُجمعة على رعاية متطرفة أو أشد تطرفا لإسرائيل. تواتر في التاريخ المعاصر أن تشكّلت تحالفات أو تفاهمات ثنائية ضد طرف ثالث. في «الحرب ضد الإرهاب» قام تفاهم بين السلطات والغرب ضد الإسلاميين، وفي وقت سابق تفاهم الإسلاميون وقوى غربية ضد سلطات استقلالية، أو مدعومة من المعسكر الشرقي، وتبنّي فكرة الممانعة اليوم على ضرب من تحالف بين نظم حاكمة وحركات إسلامية مقاومة ضد الغرب.
وسمة التفاهمات أو التحالفات هذه أن أطرافها قلّما يثق بعضهم ببعض، أو يحترم بعضهم بعضا، وإن تآمُر بعضهم على بعض متحقّق، وانقلاب بعضهم على بعض محتمل دوما.
وعند الأطراف الثلاثة وأي ائتلافات تحققت بينها، يسجل حضور ضئيل، بل معدوم، لاعتبارات العدالة والحريات العامة واحترام عموم الناس، فضلا عن النهوض الثقافي. ضآلة البعد الأخلاقي والثقافي في هذه التشكلات يحد من فرص التماهي العام بأي منها. لا النظم الحاكمة سلطات وطنية استقلالية، قد تكون دكتاتورية، لكن سياستها منضبطة بإستراتيجية للبناء الوطني، ولا الإسلاميون هم تعبير رائق منشرح الصدر عن دين أكثريات كبيرة في جميع بلداننا، ولا الغرب هو مركز التنوير والحداثة والديمقراطية، بقدر ما هو قوة أو مركّب قوى مغرض وعدواني يمارس سياسات فقيرة جدا بمحتواها الأخلاقي في هذه المنطقة. وللقوى الثلاث طابع نخبوي أيضا، وإن حجبه الإسلاميون وراء مبدأ الدين الأكثري، ونخب السلطة وراء مبدأ الدولة العام، والغرب وراء مبادئ الحداثة والديمقراطية.
لا تقتصر اللوحة على هذه القوى الثلاث، ثمة بخاصة مثقفون وناشطون ينفلتون بهذا القدر أو ذاك من هذا المثلث، لكنهم ضعفاء ومنقسمون على أنفسهم، ويتواتر أن يضحوا باستقلالهم الهشّ لمصلحة واحدة من القوى الثلاث. وهذا، معززا بافتقارنا إلى وضوح فكري في شأن العلاقة بين أطراف هذا المثلث، وبما يبدو من انغلاق المثلث وتمادي عسر الخروج منه عقودا، آل إلى استبطان الوضع المعقّد وتحوله عقدة نفسية وثقافية، نلمس آثارها في انتشار مشاعر الإحباط والتشاؤم والقنوط، وانخفاض سقف التوقعات العام والاكتفاء غالبا بأن ننجو من الآتي، وتطلُّع نسبة عالية من الشباب (كل من تتاح له الفرصة) إلى الهجرة إلى حيث الأمان الاقتصادي أو السياسي أو كليهما. نتكلم على دينامية تعقُّد تاريخية، يطلقها تضافر جملة الاستعدادات النفسية والفكرية والأخلاقية السلبية المتولدة عن انغلاق الوضع المعقّد مع الوضع المعقد نفسه. المشرق المعاصر، أو «الشرق الأوسط» العربي، وكل بلد من بلدانه في قلب عقدة تاريخية كبرى
لا يبدو أن هناك قوى وطاقات تعمل على حلها.
لكن هل من سبيل إلى حل العقدة أصلا؟
نظريا، هناك واحد من مخارج ثلاثة.
أولها الاجتهاد في صوغ فكري واضح لمعادلات التفاعل بين القوى الثلاث وتشابكاتها وتغذياتها الراجعة. قد يقال إن كل ما يكتبه عرب منذ نصف قرن أو أكثر، يحيل بصورة ما إلى هذا التفاعل. بلى، لكن دوما بالاستناد إلى إحدى قوى المثلث أو الالتحاق بواحدة أو اثنتين منها، أي بالتحول إلى عنصر تعقيد مضاف. قلّما تحققَ لنا قدر من الوضوح الفكري المطلوب للنظر في العقدة التي قد تسمى «الشرق الأوسط» أو «الاستبداد» وأحيانا «الإسلام» فحسب. يلزم لذلك جهد متواصل من قبل عدد كبير من أصحاب الضمائر المستقلة. وهو ضروري لأن جانبا أساسيا من تعقيد الوضع يتمثل في إبهامه وعجمته، ولأن فهما أوضح للواقع المعقد يعني، بالتعريف، نزع تعقيده أو تخفيفه. من هنا الصلة بين «التحليل» و«الحل». من شأن تحليل نافذ لمشكلة أن ييسر حل عقدها وردِّها إلى عناصرها الأبسط. هذا فوق أن من شأن معرفة متطورة، ترفدها مخيلة جسورة وحساسية أكثر شجاعة، أن تكون أوراق اعتماد قوة رابعة، حليفة للمعرفة والوضوح الفكري، وهي ما يعول عليها للانفلات من المثلث والعمل على كسره. ثاني المخارج المحتملة هو تحلُّل العقدة التي يتعذر علينا حلها. هذا ما يجري فعلا بمقادير متفاوتة منذ الآن. الاهتراء والتفسخ يتوليان حل مشكلات من أخص خصائصها أنها شكّلت أذهاننا وطاقاتنا في صورٍ تضمن المزيد من تعقُّدها، أو لنقل إن استجاباتنا الشائعة لها تخدم دوامها وتجددها، فكأنما نعمل وكلاء للعقدة، ولسنا عاملين من أجل حلها. وقد نرى في الفساد والتشاؤم والسخط الاستعراضي والانفعال الهائج وإدمان التذمر والشكوى والعجز عن التعلّم من التجارب، وبخاصة ذم العرب وتسفيههم والطعن فيهم بحدة وتشفّ، حلولا انحلالية أو تفسخية لمشكلات تجاوز تعقيدها طاقتنا على معالجتها وحلها.
والمَخرج المحتمل الأخير هو قطع العقدة بالقوة، بدل انحلال لا يحل مشكلاتنا إلا بحلنا نحن، وحدّاً لمداولات
لا تتمخض بذاتها عن ثمار عملية. تروي الأسطورة أن الإسكندر المقدوني قطع بسيفه العقدة الغوردية التي كان ملك فريجيا في آسيا الصغرى عقدها، وكان فتح آسيا مرهونا بحلها. القطع بالقوة هو الحل الشجاع والراديكالي لعُقدة مستحكمة حلها عسير جدا. وهو تمرد على منطق الانحلال القدري. ننحاز إلى مزيج من الحل والقطع، من المعرفة والحل الإسكندري، الكتب والسيف. المعرفة لا تحل بذاتها المشكلات، لكنها تكوِّن العارفين وصانعي الحلول، وتُرقّيهم وتغني عوالمهم. تجعلهم هم أكثر تعقيدا، وتبسِّط الواقع أمامهم. لها تاليا مفعول حالّ للعقد، ومضاد للانحلال. ونفهم الحل الإسكندري كتسلّم لزمام المبادرة العملية، جسور ونيّر. ما نرفضه هو الانحلال، حيث زمام المبادرة بيد المقادير والقوى غير الواعية فينا وحولنا.
والمأمول أن تلتقى طاقات المعرفة والثقافة بطاقات العمل والمبادرة لتقطع عقدتنا الغوردية و«تفتح آسيا». وربما تصنع عالما هلنستيا جديدا.
أوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى