صفحات العالم

نصر لأوباما

ساطع نور الدين
هو انقلاب أبيض، حسب المعايير الأميركية الداخلية للانقلابات التي غالباً ما تقودها مؤسسات مدنية، وتحدد وجهة اميركا لعقود طويلة أو ربما لقرن كامل، قبل أن يحين موعد جديد للأميركيين مع التغيير الذي يهابونه عادة ويسيرون نحوه ببطء شديد.
القرار التاريخي الذي اتخذه مجلس النواب الأميركي بالموافقة على مشروع الضمان الصحي، والذي كافح من أجله جميع الرؤساء الأميركيين السابقين منذ تيودور روزفلت في مطلع القرن الماضي وحتى اليوم، لكنهم اصطدموا بشركات التأمين والدواء والاستشفاء، هو خطوة حاسمة نحو اكتساب أميركا صفة دولة الرعاية الاجتماعية التي تتسم بها دول اوروبا الغربية وتحفظ لشعوب تلك القارة العجوز تراثها وتقاليدها الإنسانية والأخلاقية الراسخة.
هو بلا شك إنجاز باهر للرئيس الحالي باراك اوباما الذي وصل الى الرئاسة من جذور عائلية ملتبسة ومفككة لكي ينفذ هذا التكليف المحدد، أي أن يعيد أميركا الى ذاتها، كي تواجه مشكلات داخلية عميقة حجبتها ادّعاءات العظمة التي سادت في اعقاب زوال الاتحاد السوفياتي، وخروج الأميركيين في حملة الاعلان عن نهاية التاريخ عندهم، وإعادة تشكيل العالم وبناء دوله وتنظيم شعوبه على هواهم وشاكلتهم، فإذا بهم يكتشفون بسرعة ان بلادهم هي التي تحتاج الى اعادة بناء شاملة.. قبل ان تنفجر من الداخل.
هي الخطوة الأولى في مسار طويل، يبدأ بالضمان الصحي الذي بات يغطي جميع الأميركيين من دون استثناء ومن دون تمييز، وينتقل في مرحلة تالية الى إعادة بناء قطاعات الطاقة والتربية والتعليم وغيرها من البنى التحتية المتهالكة التي عفا عليها الزمن.. والتي استعدت في الآونة الأخيرة قراراً مثيراً اتخذه اوباما بوقف برامج غزو الفضاء، وبينها برنامج رحلة الى القمر، وما يعنيه ذلك من تفرد وتميز وتفوق اميركي، والتركيز على برامج غزو الارض الاميركية بمشروعات إنمائية واستثمارية يلح الأميركيون في طلبها.
بعد دقائق فقط على قرار مجلس النواب الاميركي، اطل الرئيس اوباما على الاميركيين مزهواً بانتصاره في تلك المعركة الضارية التي استنفدته منذ وصوله الى البيت الابيض في كانون الثاني عام 2009، وقال ان هذا هو التغيير الذي وعد به وعمل من اجله ونجح في تحقيقه. كان يقصد الإيحاء بأن كل الوعود الاخرى التي اطلقها كانت مجرد مساهمات او ربما مناورات ادت الى ذلك الانقلاب الجوهري في تركيبة الدولة الأميركية وفي ثقافتها وفي عمل مؤسساتها.
لم تكن نباهة اوباما ولا فصاحته هي التي حققت هذا الإنجاز التاريخي. المجتمع الاميركي بغالبيته بات جاهزاً لمثل هذا التحول، او بالأحرى لمثل هذا الانكفاء على الداخل، والتخلي عن مزاعم العظمة وأكلافها الباهظة وطموحاتها المفرطة، التي ثبت في السنوات الثماني الماضية انها تفوق قدرة اميركا فعلاً، وتتخطى رغبة شعبها في ان يستعيد عناصر قوته الحقيقية، التي لا تبنى على اعتماد الخيارات العسكرية لتطويع دول وشعوب وثقافات لا يمكن هزيمتها بالطريقة التي استخدمها المستعمرون الأوروبيون واعتذروا عنها منذ زمن بعيد.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى