واشنطن وحقوق الإنسان: ليس للقول أن يطابق الفعل
صبحي حديدي
تهلل وجه مايكل بوسنر، مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل، وهو يزفّ بشرى صدور التقرير السنوي حول حقوق الإنسان في العالم، متصفاً هذا العام خصائص حميدة تجعله مختلفاً عن كلّ تقارير السنوات السابقة: إنه يغطي 194 دولة، وهو حصيلة عمل ألف شخص، قرأوا ودققوا وكتبوا آلاف الوثائق، وأنتجوا أكثر من مليونَيْ كلمة، فكان التقرير الأكثر احتواء على معلومات تخصّ حقوق الإنسان، في أي مكان من العالم. ولعلّ الحياء دفع الرجل إلى أن يغضّ الطرف عن ذلك التفصيل الآخر الذي يقول إنّ تقرير 2009 وُضع في عهده، هو القادم إلى المنصب من رئاسة المنظمة الحقوقية الأمريكية المعروفة Human Rights First. وفي ظلّ الوزيرة هيلاري كلنتون، الواقفة إلى جانبه وهو يبشّر البشرية بأنّ عين أمريكا ستظلّ ساهرة ضدّ مختلف أشكال انتهاكات حقوق الإنسان.
بيد أنّ العمل في منظمة حقوقية غير حكومية، كان لها شرف المشاركة في إماطة اللثام عن سلسلة انتهاكات حتى داخل الولايات المتحدة ذاتها، شيء ـ وهو فلسفة ومسلك وسلوك… ـ يختلف كلّ الاختلاف عن المنصب الرسمي، في وزارة خارجية دولة عظمى تمارس احتلالًيْن عسكريين، في أفغانستان والعراق؛ وتخوض ما تسمّيه ‘حملة ضدّ الإرهاب’ يمكن، وقد تمّ بالفعل، في سياقاتها انتهاك أيّ وكلّ حقّ. ولهذا فإنّ بوسنر المساعد للوزيرة كلنتون كان شخصية أخرى لا تشبه،إلا في الاسم والملامح الفيزيائية، الشخص الذي سبق له أن فضح الممارسات البربرية في سجنَيْ غوانتانامو وأبو غريب، ومثلها ‘السجون الطائرة’، ومعسكرات الإعتقال السرية هنا وهناك في العالم. وليس في الأمر أية غرابة بالطبع، فالمرء يفترض على الفور أنّ بوسنر وافق، عند قبول المنصب، على تعاقد يقتضي منه الدفاع عن سياسة الإدارة، لا انتقادها أو تفضيح أفعالها.
ذلك هو السبب في أنه سارع إلى امتداح وزيرته، وقبلها رئيسه باراك أوباما، على الركائز ‘الجديدة’ التي اعتمداها في مسائل حقوق الإنسان: ‘الإنخراط المبدئي’، الذي يقوم على فهم العالم؛ وإخضاع جميع الحكومات، بما في ذلك الحكومة الأمريكية، إلى ‘معيار كوني واحد’؛ و’الإلتزام بالوفاء للحقيقة’، كما يشهد عليه هذا التقرير، ‘ربما أكثر من أيّ أمر آخر نقوم به في الحكومة’. فهل هذه الركائز جديدة، حقاً، بادىء ذي بدء؟ ثمّ هل جديدها، أياً كانت طبيعته، جرى تطبيقه فعلاً في التقرير الذي يخصّ العدوان الإسرائيلي البربري الأخير على غزّة، سواء في ضوء الخلاصات التي بلغتها جميع المنظمات الحقوقية، أو تقرير غولدستون الأممي الرسمي؟ وهل تجلى أيّ انخراط مبدئي في التقارير التي تناولت أوضاع حقوق الإنسان في السعودية أو مصر أو الكويت؟
خذوا إجابته، ليس على سؤال طرحته فضائية عربية، بل على مراسلة الـ CNN إليز لابوت، حين استفسرت عن الأوضاع في قطاع غزّة، وعمّا إذا كان توفير مياه الشرب الصحية والمأوى والدواء والمساعدات الإنسانية الأخرى، في عداد حقوق الإنسان التي يتوجب حمايتها: لقد عولجت قضية غزة في تقرير السنة الماضية، من جهة أولى؛ وهذه، من جهة ثانية، قضايا ‘عمرانية’ و’بلدية’ تخصّ حماية المدنيين بصفة عامة، و’من المعقد معالجة المسائل الإنسانية في مكان تسيطر عليه ‘حماس’ بشكل واسع. ذلك يجعل الجهد أكثر صعوبة’! وليس أقلّ طرافة، بالمعنى الأشدّ قتامة للمفارقة، أنّ بوسنر أحال ملفات مثل هذه، حقوقية وإنسانية صرفة، إلى ما يقوم به المبعوث الخاص جورج ميتشل من جولات في المنطقة!
وبالطبع، كما هي العادة العتيقة، كان بوسنر طليق اللسان وهو يتابع هجاء انتهاكات حقوق الإنسان في الصين وإيران وكوبا، واتساع نزعات العداء للسامية في أوروبا والشرق الأوسط، والتضييق على المرأة في أفغانستان والصومال والسودان (ولكن ليس باللهجة ذاتها عند الحديث عن حقوق المرأة في السعودية!)، واتساع رقعة الدول التي تعتمد عقوبة الإعدام (وكأنّ أمريكا ذاتها ليست دولة إعدامات بامتياز: في ولاية تكساس، وحدها، بلغ عدد الإعدامات 451 حالة منذ سنة 1976). وجرياً، كذلك، على عادة أخرى عتيقة، أعاد بوسنر التذكير بالقاعدة التي تقول إنّ تقارير أوضاع حقوق الإنسان التي تصدرها وزارة الخارجية ليست ‘وثيقة لاعتماد خطّ سياسي’، بل هي محض ‘أساس تُصاغ في ضوئه السياسات’؛ وهو ‘نقطة ابتداء، وليس نقطة انتهاء’.
وكيف للمرء أن لا يتفرّس في الحاضر على مرآة الماضي القريب، فيستعيد تلك البلاغة الظافرة التي طفحت في خطبة باولا دوبريانسكي، زميلة بوسنر في منصب مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون العالمية، أيام كوندوليزا رايس وإدارة جورج بوش الابن، حين تحدّثت عن ولادة جديدة لحقوق الإنسان بأثر من ‘ثورة زهرية’ في جورجيا، و’ثورة برتقالية’ في أوكرانيا، و’ثورة أرجوانية’ في العراق، وقريباً ‘ثورة الأرزة’ في لبنان؟ ورغم أنّ أحداً، أغلب الظنّ، لم يدرك تماماً سبب اختيار اللون الأرجواني للعراق، إلا إذا كانت دوبريانسكي تقصد الإشارة إلى عنف قانٍِ هو نقيض الثورات السلمية، فإنّ مآلات الزهري والبرتقالي والأرزي صارت معروفة، مثيرة للشفقة على أهلها والشماتة في المراهنين عليها، في انتظار ما سيسفر عنه اللون الأرجواني من نهايات، أو بدايات بالأحرى. وفي مناسبة مثل هذه التي شهدت تصريحات بوسنر، أي نشر التقرير السنوي لوزارة الخارجية الأمريكية حول أوضاع حقوق الإنسان في العالم، كان مدهشاً أن دوبريانسكي خلطت الحابل بالنابل، فانتقدت مستويات احترام حقوق الإنسان في روسيا وبيلاروسيا وكوبا والصين وكوريا الشمالية وبورما ولاوس وفييتنام وزيمبابوي وإيران والسودان ومصر والأردن وسورية والسعودية… وكأنها أنظمة متماثلة متشابهة. وكان مضحكاً، في المقابل، أن يلوّح مايكل كوزاك، سلف بوسنر في مكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل، بفرض عقوبات إقتصادية على بعض الدول، بينها السعودية والصين!
لكنّ الولايات المتحدة، وهي الدولة ذات النظام الديمقراطي العريق، لم تكن في أيّ يوم أفضل مَنْ يعطي البشرية الدروس والعظات والتقارير المفصلة حول احترام حقوق الإنسان. لقد ردّ كوزاك على أسئلة تناولت سجن غوانتانامو وسجن أبو غريب، وصمّ أذنيه تماماً عن أسئلة أخرى تدور حول ‘تصدير’ الإدارة عدداً من المعتقلين إلى دكتاتوريات شرق ـ أوسطية تتولّى التحقيق معهم بوسائل قذرة لا يبيحها الدستور الأمريكي. غير أنّ موضوع الصين تحديداً ظلّ الكاشف الأعظم لمعظم ما يكتنف الخطاب الأمريكي من نفاق حول مسائل حقوق الإنسان، وهكذا يظلّ اليوم أيضاً.
ففي مطلع العام 2000 صارت الصين ‘الأمّة الأكثر تفضيلاً’ في ميادين التجارة والتبادل، بموجب تشريع خاصّ خرج من تحت قبّة الكابيتول. وكان ‘الفوز بالثلاثة’، أو هكذا تقتضي الترجمة الأكثر تواضعاً لتعبير Win-Win-Win، هو الحصيلة التي اختارها الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون لوصف جملة البروتوكولات التجارية التي جرى توقيعها مع الصين الشعبية أثناء زيارة الرئيس الصيني السابق جيانغ زيمن للولايات المتحدة. بالثلاثة، أو بالضربة القاضية التي تُقاس بمليارات الدولارات، وبهبوط دراماتيكي في مؤشرات العجز التجاري بين الولايات المتحدة والصين الشعبية، والذي كان آنذاك قد قفز كثيراً لصالح هذه الأخيرة. ولم يكن بالأمر المألوف أن تنقلب تلك المعدّلات لصالح الولايات المتحدة بين زيارة وضحاها فقط، خصوصاً وأنّ المسألة تتصل بأمّة ليست كالأمم العادية: أعداد سكانها تُحسب بالمليارات وليس بالملايين كما هي حال الأمم، وموقعها الجغرافي يجعلها على حدود مشتركة مع 15 دولة دفعة واحدة، واقتصادها ينفلت من عقاله يوماً بعد يوم ويستهلك الأعمال والأشغال.
ومع ذلك، أو ربما بسبب من ذلك تحديداً، اعتبر كلينتون أنّ الصين هي ‘الأمّة التي تقف في الجانب الخاطىء من التاريخ’، وكان يقف على يسار نظيره الصيني في مؤتمرهما الصحافي المشترك! ولكن… مَنْ الذي يؤرّقه التناقض، حتى إذا كان صريحاً صارخاً، بين الوقوف خارج التاريخ في ميادين حقوق الإنسان والحرّيات والليبرالية، والصعود على كتفَيْ التاريخ في مسائل العقود والتجارة والاستثمار؟ لا أحد كما يبدو، باستثناء حفنة مئات من المنشقين وأبناء التيبت والدالاي لاما، وباستثناء الرهط المحدود المعتاد من جوقة التطبيل والتزمير في ‘واشنطن بوست’ و’نيويورك تايمز’ و’لوس أنجلس تايمز’، حيث تتواصل معزوفات الحرب الباردة والعداء المقدّس للشيوعية، كأننا بالفعل في الحقبة الخاطئة من التاريخ وليس الجانب الخاطىء منه فحسب.
وهكذا اكتفى سيد البيت الأبيض باستخدام العبارة ـ المسمار التي تضع الصين في الجانب الخاطىء من التاريخ بالمعنى السياسي والحقوقي الأمريكي، وانتقل فوراً وبحماس رسولي إلى العبارات الأهمّ التي تضع الصين في الجوانب الأدسم من التجارة والأعمال والأشغال. ولم يكن ينفرد في ذلك، والحقّ يُقال. بعض فرسان ‘واشنطن بوست’ و’نيويورك تايمز’ صرخوا في وجه فيليب موراي كونديت، المدير التنفيذي لشركة ‘بوينغ’ آنذاك: وماذا عن حقوق الإنسان؟ فردّ الرجل: يا لمحاسن الصدف! لقد كنت في بكين حين عرضت أقنية التلفزة الأمريكية المشاهد الوحشية لاعتداء الشرطة الأمريكية على المواطن الأمريكي (الأسود) رودني كنغ!
للفرسان أنفسهم قال الرئيس الصيني: ‘ولكن لماذا لا تعودون إلى تاريخ بلدكم أيها السادة؟ ما فعلناه في إقليم التيبت لم يكن سوى عملية تحرير للعبيد من نظام قنانة ينتمي إلى القرون الوسطى. أليس هذا بالضبط ما فعله رئيسكم أبراهام لنكولن’؟ ليس تماماً بالطبع، ولكن المقارنة لا تخلو من منطق براغماتي بارع يتوسّل المماثلة والمطابقة. وهو أيضاً المنطق الذي استخدمه جيانغ زيمن في اختزال مجازر ساحة ‘تيان آن نمين’ إلى ‘حادث شغب’ توجّب قمعه بقوة القانون، لا لشيء إلا لكي تتواصل الإصلاحات السياسية في أجواء الإستقرار الضرورية، ولكي تسير خيارات اقتصاد السوق مثل سكين حادّة النصل في قالب زبدة. وبمعنى ما، لم يكن غامضاً وإن كان حاذق الصياغة، قال الرئيس الصيني: هل تريدون قطف ثمار هذه الإصلاحات؟ عليكم، إذاً، أن تتناسوا الدماء التي روت شجرة الإصلاحات لكي تعطي الثمار.
براغماتية أمريكية، كانت تلاقيها براغماتية صينية. الحال ذاتها صارت ناظم العلاقات الأمريكية ـ الصينية حين وقعت حادثة احتجاز طائرة التجسس الأمريكية في الصين، مطلع عهد بوش الابن. لقد بدا واضحاً أنّ الأعمال والتجارة والمال، وليس العقائد والنظريات وحقوق الإنسان والديمقراطية، هي التي تحكم وتتحكّم، وإليها احتكم الطرفان في نهاية المطاف. وبدا أكثر وضوحاً أنّ قواعد العلاقات مع القوى العظمى ليست معقدة شائكة، بل هي في حال الصين بالغة البساطة: في وسع أوباما أن يستقبل الدالاي لاما، وليس من حرج على تقارير حقوق الإنسان في انتقاد الصين، ولكن لا أثر لهذه أو تلك على متابعة عقود التبادل والتجارة والإستثمار، ولا عاقبة سلبية، ولا تعكير لصفاء المال والأعمال.
هذا، بدوره، يدخل في صميم ‘الإنخراط المبدئي’، بل لعلّه أرقى أنماط التواصل بين حكومات أتقنت وتواصل اتقان الفصل الذرائغي بين الغاية والوسيلة، فلا ترى في الأولى إلا أعظم مبرّرات الثانية!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –