صفحات الشعرعلي جازو

مختصرات البؤس

null
علي جازو
اعتمادُ الذوق على ما يروج، على هذا النهم العميم، حيث يمكن ألف وجه أن يكون الوجه نفسه، يجعل مما هو عامي في عداد ما هو مقنّع ومحجوب. هذا الاعتماد الحصين المغفل يناسب البيئة التي يتفق ضمناً شاغلوها على جعل الرياء ديناً عاماً، سمة مشتركة وحيدة. ثمة ما يشبه اتفاقاً عاماً مضمراً على سبي الذوق وحصره في المعالف.
***
كآبة الربيع مناسبة لمخاطبة الله العزيز القدير، عبر كتاب عميق ومكشوف في آن واحد. الربيع يظهر الأعماقَ كما لو أن بذور السنة كلها تريد أن تنفجر في وجه من أخفاها.
***
شكراً، جزيل الشكر، لأولئك الذين أتلفوا الحياة – الكلامَ حباً في الحياة لا يتحطم، وأرغمونا بصمت كالعنف على لزوم معتمات منازلنا الوقت كله نغرف من التبتل محاسن لا تُعدّ. لولاهم لكنا منهوشين الآن خلف زجاج بنوك نظيفة حدّ الغثيان، أو منطوحين من فرط الرعب تحت أظلاف حفلات هائجة مضيئة.
***
ليس القناع لعبة. حريته هي اللعبة. نحفظ من الحب ذكرياته، ولا نقول ذا أفق لا يجوع ولا يغضب. نتقي من الأمل شكوكاً لا تبرح. نمزج بين التذكر والمرض فننسى كليهما. وفيما نجبر الكلام على التخلص من معاني الكلمات، تحل الأخيرة بلا صحبة سوى تجريد لا يقطع، أو تمثيل لا يصل. لا يتبقى لنا من ركام الكلام هذا سوى الجرائم ونفاياتها. لكننا نعرف أن التسميات كثيرة وأن الصفات سبايا يُسْر مشبوهة، ولا أمكنة لعبٍ تليق بجديد يلعب. نعرف أن البذور نادرة تهيم، وما من أحد يبذر، أو يلتقط ويبذر.
***
لولا شمسُ كل يوم، لولا نباحُ كلاب من مسافات لا كنْه لقياس شراسة خوفها الأعزل، لولا دمُ الزهور، و”ماءُ أجساد العشاق”، ما كان للكلمات من عزاء سوى الخَرَف.
***
ليس بمصير مرير آفاتُ شيخوختنا المبكرة، ونزْفُ حالنا على وهْدٍ يغور. فلها من فراغ الوقت والهدف ثراءٌ مكين. الطموحُ الشحيمُ إلى حياة كريمة سببٌ من أسباب خنوع متفق على إخفائها، كما لو كانت تينك الأسباب عاراً لا يحتمل.
***
وهْمُ أننا ننجز وننهي أعمالنا على أفضل وجه يصاغ من معدن الخوف الصدئ. ذا سبيل نكران مغرٍ. لئلا نملَّ مما نحب لئلا نعبث ينبغي وهم أكثر جدية من أن ينجز وينتهي.
***
نوْمٌ كاملٌ كنوم البذور تحت التراب. لو حقاً يحلّ ويشمل إذا صحونا منه يوماً نسينا كل حنين وكل إساءة.
***
أن يكون لنا حيناً شيءٌ – سمةٌ من سمات طعم النبيذ. خير لهنَّ – أقصد نساءنا الفاتنات – جلوسنا وسط روث أبقارٍ نجهل قيمتها الفريدة.
***
يأتي الندمُ في الساعة التي لا يمكن فيها قول شيء سواه. علاج متأخر – شبه مرض – لداء أسبق لا براء منه. نحاول استعادة ما فقدناه، أو لم نقله وكان ينبغي حفره في الآذان. غير أن الاستعادة المتوخاة تأخذ من الجهد ما أخذه المندم من حياة. لكننا لا نجرؤ على الإفصاح عن الأسباب الخفية لندمنا المستمر الولود، وهي ذاتها التي تحض على الكراهية وإرغام النفس – أين هي – على ما يجعل الندم علاجاً شائعاً سهلاً وبلا طائل.
***
صمتُ الأشياء مبعث موسيقاها، كلامنا دليل يأسنا. الاشياء تصمت لأنها تعي أن من يدفعها إلى التكلم يجهل الموسيقى التي تسبق كل كلام وتتخلله، وتظل في نأي رفيع، نأي من أحبّ حدّ تمكن الحب من كسر لسانه داخل فمه.
***
تخلَّ عن كل شيء، حتى هذا الغروب القاحل، الضوء الناحب، ما هو إلا شكوى سخيفة إزاء ثراء ما عاد يمكنك تجنبه.
***
مرحَّبٌ بك في الليل، مرحَّبٌ بك في النهار. فقط، إرفعْ قدمك عن الأرض، إمض إذا شئتها.
***
الحرصُ على الملكية، أو التحريض على نزعها، ليس سوى يتمٍ من مباعث الكراهية. من يضع الحدود إنما يعلن بداية سرْف الجهود على تبديدها.
***
ثمة من ينكر الماضي جملة، وثمة من لا يرى غير الماضي. لكن، هل يفكر هؤلاء واولئك ملياً في أفكارهم أنفسهم؟ أتراهم حقاً يتعاملون معها بالحماسة نفسها والنهم عينه؟! ألا يحتاج الفكر إلى قطع الصلة مع كل ما ليس نزيهاً، نزاهة يجدر بها ومعها صرف الانتباه عن كل ما تجود به الحماسة على الملأ.
***
اعتيادنا مسالك حياة آمنة يجعل من الحياة ضرباً من التوسل المستمر، من الهرب الدائم. نحسب أننا في الطمأنينة ننعم، غير أنها هي ذاتها الطمأنينة تخفي جهلاً سرعان ما يشيح وجهه عنا إذا ما لمس أحدهم محياه الجامد.
***
لم يعد من فرادة معتبرة للجهد الإنساني المحض، رغم كون هذا الجهد أساساً لكل إبداع. حتى العلوم الحديثة والتكنولوجيا المذهلة لم تنشأ وتتقدم إلا باعتبارها نتيجة هذا الجهد.
***
مستوى التعليم في ارتفاع مستمر. كذلك هو مستوى الفقر والقمع والحرمان. عندما لا توجد حصانة للعلم – كعلم – فإن سهولة نشر الأكاذيب تتم بالطرق نفسها التي تنشر بها الحقائق.
***
لقد أضحى استعمال الكلمات أكثر الطرق لإذلالها. كل من يرى – بالنسبة اليه فقط – صار يلجأ إلى النسبية كحجة بلا دحض. على هذا فإن الكلمات تخسر حدودها من حيث كونها علامات وضوح وعلامات ثقة، وتهبّ عليها رياح الرأي من كل صوب وفي وقت واحد؛ حد أننا لا نرى الكلمات قدر ما تنغصنا الرياح التي تلوكها. الكلمات هي التي ستحلّ محلّ عهر البشر المتراكم منذ قرون، ومع هذا ليس لنا سواها على كل حال، إنها عزلتنا وحبّنا، شقاؤنا وفرحنا، فرحنا الذي لا نجرؤ بعد الآن على التستر عليه.
***
في الجنس – كما في السياسة والنزاعات على الأراضي – تأخذ الملكية رأس الأفكار التي تغذّي البشر، فالحاجة إلى الملكية – ملكية خاصة بلا نزاع رغم كونها بنته – هي الحاجة إلى نوع من السيطرة التي منها يبدأ الغباء والعداء معاً.
***
لا يمكن وعي البشر أن يترقى من دون قوة ضميرهم. عدا هذا فإن الوعي نفسه يتحول شبكة من متاهات، نوعاً من اللفظ المعدي والمفضي إلى سوء الفن، ورداءة التفكير الشامل.
***
لم أفهم من “الأنوثة” ولا “النسوية” حرفاً واحداً. ذلك أنني لا أعرف نقيضها الذي ينبغي تحطيمه. أترى يكون ذاك الموشك على التحطم والتدمير  “الذكورية الغبية” أم “الرجولة الجوفاء”؟ هل هما هذا النقيض البائس الجبار العتي الذي تسوّغ الجدة الرقيقة فضحه وتعريته، وكذلك غيره من الأرباب. ربما يلتذ العناق حينها، ليكون أرقّ في المطارحة والنيل، أي ليشفّ هذا العميق المتواري الصلب المنغلق، حتى يتوتر الندى على جبينه كما لو على حدّ السيف ¶

ملحق النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى