عن «حراك» سوري يقتات على الهامش
ورد كاسوحة*
في ظل الجمود الحاصل في الحياة السياسية السورية، لا يبقى «لهواة» (وهم هواة لأن احتراف السياسة في هذا البلد نكتة سمجة) الشأن العام إلّا الهامش لكي يتحركوا فيه ويسقطوا عليه «أوهامهم» وأحلامهم المجهضة. هامش يحاول بعض النشطاء توسيعه من حين إلى آخر، عبر «افتعال» نشاطات ذات طابع ثقافي أو أكاديمي. وحتى يتوسّع هذا الهامش وتؤتي تلك الفعاليات أكلها، لا بد من «توريط» الناس (ليس كلّ الناس بل الشريحة المتابعة للفعالية) في نقاشات تتعدى الطابع الحدثي للنشاط أعلاه لتدخل في صلب الموضوع المراد فضحه. هكذا لا يعود النشاط مقتصراً على إضفاء «طابع تعددي» على حالة راعية هي بالأساس واحدية (كما يحدث عادةً)، وما رعايتها لفعاليات كهذه إلّا محاولة يائسة لدفع تهمة الواحدية وتثبيت العكس. وما يفعله التوريط هنا هو بالضبط نفي الحالة الفولكلورية عن أحداث مماثلة، وأخذ الجمهور المتابع إلى حيّز لا يكون فيه خاضعاً تماماً لمتطلبات الرعاية السلطوية. فبمجرد أن تلي الفيلم المشاهَد أو المحاضرة الملقاة نقاشات «مفتوحة» بين المحاضر (أو السينمائي) والجمهور المتعدد الانتماءات والمشارب تكون الرقابة السلطوية قد انتفت، حتى مع وجود «ملائكة» لها بين الحضور. فوجود هؤلاء يغدو نافلاً وغير فاعل في ظلّ طغيان حال التعدّد على الجمهور، ولا يعود بالتالي من معنى يذكر لتقرير من هنا وآخر من هناك يرفعهما أشخاص باتت مهمتهم جزءاً لا يتجزأ من تقليد آفل.
قد تكون هذه المقدمة ملتبسة بعض الشيء وغير واضحة تماماً في مراميها، لكنّ الالتباس هنا مقصود بذاته، والسبب في ذلك أن الهامش الضيق الذي نتحرك فيه لا يترك لنا خيارات كثيرة للتعبير. والتعبير هنا هو تعبير عن المحمول الرمزي الهائل الذي ينطوي عليه حراك(نا) في سوريا. وهنالك أمر آخر يمكنه أن يعيننا اليوم على فهم ما يجري بين السلطة والمعارضة، أو بين «النخب» السلطوية ونظيرتها المعارضة.
وإذا أردنا أن نوجز هذا الأمر في كلمات قليلة لقلنا: إن قواعد اللعبة التي كانت سائدة بين الطرفين قد تغيرت إلى «حد بعيد». فالاعتقال الذي كان يطاول كلّ من يتعرض للسلطة من قريب أو بعيد لم يعد «خياراً» متاحاً اليوم، وكذا المساءلة الأمنية. لنقل إن كلتا المقاربتين الأمنيّتين باتت عبئاً على السلطة، لا زاداً تتغذى عليه كما اعتدنا دائماً. لكن إذا كانت الحال كذلك فعلاً، فلماذا استُثني معتقلو «إعلان دمشق» من المقاربة الجديدة؟ الجواب ببساطة أن هؤلاء المناضلين لم يكتفوا بإشهار سرديتهم المغايرة لسردية السلطة، بل قرنوا هذا الإشهار بمحاولة وضع هذه السردية موضع التنفيذ. وهنا وقع الخلل، وتعطّلت آلية تظهير المعادلة الجديدة بين المعارضة والنظام. وهذا يعني أن الخطوط الحمراء السابقة ستعاود الظهور كلّما اقترب أحد من منطقة محظورة تدعى: إقران القول بالفعل.
إذاً المعادلة الجديدة بين «طرفي التعاقد» تتيح لأفرقاء المعارضة، ومن لفّ لفّهم من مثقفين وفنانين، أن ينشطوا ويقيموا الفعاليات والتظاهرات (لا المظاهرات)، ما دامت هاتان الأخيرتان تكتفيان بالأثر الرمزي الذي تحدثانه، من دون المساس بآليات الهيمنة والسيطرة القائمة.
وضمن هذا الهامش المتاح تتحرك اليوم كثير من الفعاليات المجتمعية السورية، وتجهد لإمرار الرسائل إلى أكبر قدر ممكن من الناس (مرّةً أخرى ليس كلّ الناس، لأن الفرز الطبقي والتراتبي الحاصل اليوم لا يتيح للناس فرصاً متساوية في الوصول إلى المنتج الثقافي والرمزي). طبعاً لا تخرج هذه الرسائل عن كونها دعوى إلى التواصل المجتمعي بين شرائح لم يُتح لها سابقاً أن تتواصل على هذا النحو العلني. والتواصل في هذه الحالة يرتدي طابعاً ثقافياً أكثر منه سياسياً، لأن النفور من السياسة في هذا البلد بات «حالة عامة». والعمومية هنا ناجمة عن الإحباط (أي إنها غير ملزمة للجميع)، لذا كان من الطبيعي أن يردّ عليها غير المحبطين وباعة الأحلام بعمومية مقابلة. وهذه العمومية (المقابلة) هي الثقافة بمعناها الأشمل. فالثقافة في مجتمعاتنا المقهورة تجمع ما فرّقته السياسة. ولا ضير في هذا السياق إن اجتمع اثنان أحدهما معارض والآخر موالٍ على تقريظ فيلم معين، أو ذمّ محاضرة بعينها.
قد يكون هذا الاتفاق تلفيقياً إلى حدّ كبير وغير معبّر تماماً عن طبيعة الحراك في البلد، لكنه يبقى ضرورياً لإبقاء الخلاف في حيّزه السلمي، وعدم أخذه إلى أمكنة أخرى خبرنا تجاربها المريرة في لبنان والعراق والجزائر واليمن و…إلخ. ذلك أن السلّم الاجتماعي في سوريا يبقى أولوية الأولويات، وأيّ محاولة للتغيير أو «الإصلاح» لا تضع خيار السلم الاجتماعي على رأس أجندتها إنما تقع في الشطط، وتدفع بالبلد تالياً إلى هاوية الحلّ الكولونيالي (لأن الحلول الكولونيالية بطبيعتها تتغذّى على التقسيم والتشطير والاحتراب الأهلي). وما يدفع إلى التفاؤل هذه الأيام أن «القابلية» التي أبداها جزء من الحراك السوري تجاه هذا الحلّ بعد غزو العراق قد تراجعت كثيراً، ما فتح المجال واسعاً لحوار بين الخصوم (وإن غير متكافئ) يتجاوز قطوع الحقبة السابقة، ويحاول البناء على الاحتياجات الحقيقية للاجتماع السوري. احتياجات تعزّزت أكثر فأكثر بعد فكّ الارتباط نهائياً مع أوهام «الثورات» الملوّنة في لبنان وجورجيا وأوكرانيا. فمصير هذه «الثورات» المزعومة أتاح لقطاع عريض من السوريين فرصة مقاربة واقعهم على نحو مغاير للكليشيهات التي عمّمتها الحقبة البوشية. وأهم كليشيه أسقطته التجربة هو الذي يقول بتوسّل «الحلّ العراقي» لمشكلات المنطقة. والدرس الذي يجب استخلاصه من هذا السقوط هو التالي: ليس بالضرورة أن يكون «الحلّ العراقي» هو الترياق لمأزق الأنظمة الكلّيانية. صحيح أن وضع العراق «أفضل نسبياً» اليوم، وصحيح أيضاً أن الانتخابات العراقية الأخيرة جرت بطريقة «سلسة بعض الشيء»، إلا أن الثمن الذي دفعه الشعب العراقي «للعبور إلى دولته العرجاء» كان باهظاً جداً، ومن الأفضل تجنيب باقي شعوب المنطقة مصيراً مماثلاً لمصير العراقيين، حتى لو أفضى هذا المصير إلى «ديموقراطية» على النّسق «الليبرالي».
كلّ هذه الاعتبارات يجب أن تدفع بأفرقاء الحراك السوري (الموالي والمعارض) إلى تلمّس سبل جديدة لفضّ النزاع المزمن بينهم. وفي هذه الحال لا سبيل سوى الحوار. فلنتحاور إذاً. فلنتحاور في ما نختلف عليه وفي ما نأتلف حوله، ولنُقم التظاهرات الثقافية والأكاديمية ما دامت السياسة ممتنعة علينا حتى إشعار آخر. وفي هذا السياق تحديداً، أي في سياق الهامش المتاح للحوار وتغذية ما بقي من حراك مجتمعي أتت فعالية (dox box) السينمائية الأخيرة (أيام سينما الواقع). فعالية استطاع أصحابها بإمكاناتهم القليلة أن يجسّروا الهوّة بين الجمهور «العريض» ونمط سينمائي يقيم على مقربة من «السياسة بمعناها النبيل» (والتعبير
المعادلة الجديدة بين «طرفي التعاقد» تتيح لأفرقاء المعارضة أن ينشطوا بشكل يبقى أثرهم رمزياً
للراحل جوزف سماحة). فالسينما الوثائقية هي صلة وصل حقيقية بين الناس وقضاياهم التي عافوها زمناً. عبرها يتواصلون مع أناس على الشاشة يشبهونهم. يشبهونهم في كدحهم اليومي وفي تطلعاتهم إلى غد أفضل وعالم أكثر عدالة. وإلى هذا المستوى من التواصل، يمكن أن نضيف مستوى آخر أمكن لهذه التظاهرة تحقيقه، وأقصد به التواصل بين المختلفين سياسياً. فقد لفتني جداً وجود أحد رموز السينما الطليعية السورية في اللجنة الاستشارية للتظاهرة (المخرج عمر أميرالاي)، ومعروف عن الرجل مقارباته الجريئة للوضع في البلد، وافتراقه عن السردية الرسمية السائدة. وغالباً ما تكون إشارات كهذه صادرة عن أطراف مقرّرة وراغبة في «التواصل» وإبقاء هامش يتيح لها الزعم بالمرونة والانفتاح على الآخر. فليزعموا ما شاؤوا ما دام زعمهم قد وفّر لعمر أميرالاي فرصة لقاء «جمهوره» الذي حرم إيّاه طويلاً. صحيح أن «الانشقاق» لا يعود «انشقاقاً» إذا تخلّى عن مكوّناته الراديكالية، إلّا أن انقطاعه المتواصل عن حاضنته الطبيعية قد يفقده عنصر الانتماء و«الحنين» إلى الجذور. من هنا تأتي أهمية الحوار مع الآخر (حتى لو كان سلطوياً رثّاً) والتواصل معه، فمن دون هذه النافذة الأخيرة نكون قد دخلنا الجحيم بعينها. وتشاء الصدف أن تكون هذه النافذة هي نافذة السينما الوثائقية. «نلتقي» عبرها و«نتحاور» في شؤونها وشجونها، و«ندعو» إليها في العام المقبل هالة (المخرجة السينمائية هالة العبد الله) التي حملت الزهور إلى قبرها.
* كاتب سوري
الأخبار