فـي خـطـــاب الـتـنــويــــر: الــشــعــر نــمـــوذجــاً
ابرهيم محمود
ليس التنوير واحداً! إن واحدية التنوير تعيننا على كشف حسابه البائس فقط، وعلى حصر رصيده التاريخي الذي يثير الكثير من الشكوك على صعيد الصدقية في بنية الاسم وزعم تبنّي الاسم، أكثر مما يهدئ من روعنا إزاء المتحقَّق في ما هو حضاري وثقافي، وأكثر مما نساوم عليه باعتباره مقياساً للحقيقة التي تستحق التضحية على صعيد المتشكل مجتمعياً. لَكَم نحن آخذون بما يصدمنا للوهلة الأولى، مما يدخل في مسميات النور، وما يترتب على ذلك من جزافية المعنى ووأد المبتغى قبل بلوغ مشارفه، والانحدار بالقيمة الإنسانية في ميسمها الكوني.
إن المشغولين بالتنوير تاريخياً، قادرون على تسمية الفارق بين المسطور وخلافه، بين المشدَّد عليه في بقعة حدودية، ومن خلال قوى بشرية حدودية، ولغة يتم التباهي بها حدودياً، وقيم تتعزز استناداً إلى القوى تلك، وما يقابل هذا المشهد الفالجي في الجسد المستعرض لمناقبه بوصفها صالحة للبشرية عموماً.
التنوير المتوارَث بأضداده
بإسم التنوير تم ضرب صفحة طويلة وواسعة عن تاريخ هائل لبشر وثقافات وحضارات، وما الحروب التي تعرض علينا تاريخها، وتتحدد أسبابها، إلا هذا التعبير الإغوائي والمنفلت عما يصلنا بالنور، أي بمسرى التنوير. ها هم اليونانيون، مثلاً، وهم في أروع كشوفاتهم الإبداعية والفلسفية، إلى جانب أكثر اندفاعاتهم في غزو العالم، ما يعنيه الغزو من قلب للمعنى في التنوير. فليظهر الوجه اليانوسي في ازدواجيته المفارقاتية إذاً!.
على الصعيد العربي الإسلامي ذاته، من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً الحديث عما يغذّينا نورانياً، أو يصيّرنا أهلاً للتنوير، ونحن نتحدث بشغف وفخار وبإطلاق، عن الانتشار الإسلامي مشرقاً ومغرباً في نطاق قوة امبراطورية، كأن الانتشار هذا حقيقة كونية وفي إهاب الافتتان بالمعلَن عنه، وأن العالم في انتظار اللحظة هذه.
من المستحيل تماماً الحضور في العالم، والحديث عما هو تنويري، وعما يجعلنا من أهل التنوير، ونحن نتحدث عن جماعة الأنواريين. يستحيل الحديث عن الانعطافة التاريخية اللافتة في التاريخ الأوروبي، والمضاء المعرفي في الفنون والآداب والفلسفة، بينما حدود العالم تخترَق، وتُنتَهك حرمات الآخرين في متتاليات الزحف الاستعماري المتعدد الأشكال: الأرضي منه والبشري والقيمي، وذلك دفاعاً مزعوماً عن رسالة التنوير الحضارية.
على الجانب الأبعد، وفي القلب غير المسكون بالشعاراتية ومدى تدخلها في الشعائرية المكانية وتيماتها السحرية أو الغوايتية، ثمة التنويرُ معاين الحدود التي تخص العالم في عمومه والبشر في عمومهم. ثمة الشاعر الذي يتحرك في ضوء عاطفة تكون عبئاً باهظ الثمن، من خلال عتق المهمة وروعتها، كونه المحمول بكرة العالم النارية!
إن إحدى كبريات حماقات المتنور في ممثّله، كامنة في السرعة الملموسة لتمكنه من القبض على الأشياء وتسميتها وإحالتها عليه، لتقدَّم واضحة دونما لبس، يقيناً منه أن ما أقدم عليه مارس الصواب، وهو في صفاء تفكيره الفلسفي.
لا بأس أن أشير إلى الفيلسوف هايدغر وهو يتحدث عن الفلسفة من باب التعريف والوصف، مشدّداً على أهمية الشعر في وعي الذات والعالم.
أسمّي هايدغر، وهو الكائن الأرضي، من دون أن يغفل لحظة واحدة عما هو سموي اعتقادياً. كان مشغولاً طوال حياته بسؤال الكينونة! لكن الحماقة التي أنزلته من عليائه الفلسفية، هي تلك التي أبقته في حدود الإخلاص لتاريخ يستحيل أن يكون التاريخَ كله، وهو “يغرقن” الفلسفة (يضفي عليها الطابع الإغريقي فقط)، ثم يجد خطاً جغرافياً متعرجاً صاعداً إلى عصرنا الحديث إنما صوب أوروبا، إنما صوب ألمانيا هذه المرة، إذ يمكنها أن تستعيد نشاطها السالف، أي تمارس حضورها الفلسفي كما لو أنها لم تمت، وليس في أي بقعة أخرى في العالم.
الكينونة المرسومة محوَّرة، مثلما أن الرؤية جلية الانحياز ثقافياً ومعتقدياً، والميتافيزيقا تلك التي حاول هايدغر التحرر من ربقتها، كان يتعمَّد بها داخلاً وهو الموصوف بالدنيوية أي بالإلحادية، والشعر الذي تلمس فيه نبض العالم على أساس شعوري، حصر نماذجه في ما هو أوروبي عبر هولدرلن.
في تطرقه إلى حقيقة الشعر، لم يخفِ نباهة التنوير في التاريخ، لكن كيف؟ عندما ربط بين الشعر والحلم وبما وراء الواقع وذلك “في مواجهة الواقع الصاخب الملموس الذي نعتقد أننا مطمئنون إليه”. إنه لا يعني أياً كان عموماً، بقدر ما يسمّي القريب منه والواقع في المتن الأوروبي خصوصاً. هايدغر، في استساغة بارعة بصياغة حقيقة الشعر الفلسفية، ولكن بخفة المتحصَّل، أطاح كينونة الفلسفة، مثلما نزع عن الشعر لاحدوديته الضامنة لكونية تكفل العيش بسلام ووئام للبشرية جمعاء، أي تمارس تطهيراً لها من تكتلاتها!
هل يعني كلُّ ما تقدمنا به حتى الآن، أن ليس من تنوير كامل، وأن ما شهدناه، وما يسهل العثور عليه، عبر أمثلة شتى في رحاب الأرض قاطبة، يُبرز هذا النقصان بوصفه الإمكان الوحيد لما يمكننا الرهان عليه فقط؟
هل التنوير وضع متعالٍ؟ من الطبيعي أن يكون هكذا، ليتمكن أي كان من الدخول في مغامرة القول الفلسفي أو الشعري المنسوب إليه!
هل أن الحدود التي تحول دون الرؤية الأشمل لما هو أبعد، تفرز في المرء ما هو ملطّخ به أو مسكون بلوثته الأرضية، المحلية والبيئية الضيقة والاجتماعية المتقاتَل عليها؟ إنه السؤال الذي يتطلب ترك أكثر من فراغ، تحسباً للامتوقع، ليتاح لنا التحرك بمرونة وقابلية لمد النظر وتلاقي أوجه الاختلاف، بقدر ما يواجهنا بما توارثناه من الصراعات الحدودية. ما للغوايات المغيَّبة بأصولها الفعلية أحياناً أخرى، وهي من نوع ديني لا يُشَكّ في أصله، إلا هذا القدر الملحوظ من القصدية، للحيلولة دون ظهور الشعر الذي يحق له وحده، دوام الاحتفاء به فعلاً، وهو يعم كامل الجسد بمؤثراته المتعددة القطب؟!
إن إمعان النظر في العلاقة التي ينبني عليها الشعر في التعبير عن العالم، وما يُتداوَل في نطاق الصورة الشعرية، يبقيه على الحدود الأكثر خطورة، من جهة تمثيل الذات، والذي يتعزز حضوره به شعرياً، لما في الموضوع من سرعة انزلاق وانزياح للمبتغى.
ما سعي الشاعر المستمر إلى التعبير عن ذاته باعتبارها الذات الشاعرة، ومن ثم تسمية نحو العالم وموسيقاه على أنهما خصلتاه الرئيستيان، وأن ليس من شارد ووارد إلا وللشعر متسع لهما، إلا هذا السير المفتَتن في الطريق الملكي المهلك، بما أن سعي الشعر يقتضي منه بذل المزيد من الجهد ليكون أكثر إخلاصاً لتلك الذات الحدودية، لا الحالمة أو الكونية الطابع. ثمة الذات المتنورة التي تتوالد عوالم لا تنقطع سيرورتها!
ما معايشة الحيوية الجاذبة لروح تلازم الشعر، إلا الدليل الدامغ على مفارقة التنوير وإشكاليته!
يُعزى هذا الخلط في مفهوم الشعر عبر تاريخه الطويل، إلى حضوره المتشعب، والتفاوت الكبير بين شعر وشعر، بين ما جرى ويجري تعيينه جوهرَ الشعر، أو حتى بلسمه كما لو أننا إزاء عملية تقطير وتصفية له، وما تم ويتم تحديده باعتباره هزال الشعر، وبؤس المنسوب إليه، وما يقع بينهما حدودياً في تفهم الشعر.
ثمة من حاولوا ضبطه، أي تقعيده مفهوماً ونظامَ تفاعل وتسنين قيم جمالية، شغلوا مناصب تبنَّت الشعر على أنه الجدير بالرعاية ليكون لسانَ حال الآخر وهو المتقدم على المسؤول، في اختلاف مرتبته بالمعنى السياسي أو الفقهي أو الاجتماعي.
في الحالات الثلاث، يشغل الشاعر مواقع تُحدَّد له ليكون مدّاحاً أو رثَّاء أو وصّافاً، استجابة لما هو مؤمَّل ومؤمِّل مجتمعياً. مع الزمن لا يعود الشاعر في حمى من يهتم بأمره إلا التابع لحاميه أو سيده أو المتحكم فيه مصيرياً، وليفقد مع الزمن تلك الطاقة الخلاقة التي تصله باللاتناهي كونياً.
من هذا المنطلق يمكن مثلاً قراءة “طبقات الشعراء”، أو “جمهرة أشعار العرب”، أو “العمدة”، وحتى ما له صلة مباشرة بـ”أسرار البلاغة”. إن الشعر يأتي في المرتبة التالية مما هو فقهي أو ديني، إذ الجبة تعتمر القبة، إن جاز التعبير، حيث الفقيه يكون له المرجعية الانضباطية، وفي تحديد ما يجوز وما لا يجوز قوله فقط، وإنما، وقبل كل شيء، ما يمكّن الشاعرَ من التفرغ له والإقبال عليه، ليكون في عداد الناجين بأرواحهم بعيداً عن النيل منهم.
الشعر المشار إليه، على رغم ضروب المقاومة الضارية والمصمتة التي خاضها لتأكيد أحقيته في التعبير عما هو كائن، والتذكير بتاريخه المديد، عانى ما عاناه، وبدا مفهوم التنوير في وضع تيهي بالنسبة الى اسمه، ولما يمكن تنسيبه الى الشعر ومدى ارتباطه بالتنوير وتفعيله.
فالشعراء الذين كانوا ممثلي أنفسهم، صاروا في عهدة نقاد، لا يفارقون ظلال الفقهاء داخلهم، وما على الشعراء تبعاً لهذا التحول الانحداري والتمثيلي الضاغط، إلا الاعتراف بمن ينوبهم في الممكن واللامكن قوله.
الحداثة والخميرة الملفوظة
ليست الحداثة بالمعنى الفلسفي إلا عودة إلى مهبط المرء دنيوياً، إلى المعطى له من الحرية، ليكون هذا أكثر تحركاً ومعايشة للعالم من حوله، حتى وهو في مرتقى وعيه الديني، لأن إلهه المتصور يتشكل تبعاً لرغبة تسمّي شخصيته وتميزه عن المحيطين به، وما يترتب على هذا المسلك الأرضي من مكاشفة أكثر اقتداراً للجغرافيا الطبيعية والامتلاء بها. الحداثي هو انتظار الشاعر، وقد استعاد صوته، مدنيته وموقعه الذي يستحقه إلى جانب آخرين يشاطرونه همّاً مجتمعياً لا يعود محصوراً قط في نطاق جماعة ضيقة، وإنما يخص عموم الأفراد!
تتجه الحداثة إلى الفرد، وتحثه على ضرورة اتخاذ موقف له في ما هو حياتي! أن يسمّي عالمه، ليس من باب التفريق والتمرد على محيطه، وإنما ليكون المحيط المجتمعي محيطاً.
يتأتى عنفوان المحيط من حكمة الأعماق، ويتراءى تلاطم أمواجه من خلال القوة التي تشير إليه في عمومه. الحداثة تفرض على الفرد في هذا المعنى، إذا أراد أن يكوّن ظله وصوته الخاصين به في النهر المجتمعي، أن يصوّر إلهه، وحتى دينه الذي يبقيه مؤمَّم الذات، مستقلَّها.
الحداثة في بعد جلي منها، تمثّل الدين الذي يمكن الاستئناس والاحتماء به، كونه محمولاً بعلامات الفرد.
ترمي الحداثة باعتبارها دخولاً في الزمن ومن أوسع أبوابه، دونما وجود حواجز تبقي الداخل في معرض المساءلة. الحداثة المستتبعة خلاف مسار أئمة الفقه المتسلطن، والشعر جدير بأن يكون القلب النابض لها!
الحداثة باعتبارها فكرة ومكاشفة واقع ولو على صعيد التصور، تضع المرء في مواجهة ذاته، في العالم الذي ينتمي إليه على أنه المعرَّف به تاريخياً. على أن التاريخ هذا صيرورات متعاقبة لا حكم منجزاً يطاولها كلياً. على أن الفرد في قلب الصيرورة، معنيٌّ بها لأنه غير قادر على نفي تأثيرها عليه، وهنا يكون المختلَف دينياً. هنا يكون المنغّص لمن يضع الديني في متن التاريخي، ويستمد منه الحكمة وليس الفلسفة بالمعنى الحدثي.
الحدث يلغي الزمانية المفتوحة بإطلاق، يقطعها. الحدث يجعل التنوير ذاته مساءلة تاريخ، مساءلة للاسم ذاته، ما يجعل كل شيء حديث الساعة وإن يكن موغلا في القدم، تابعاً للتاريخ. التاريخ يتبع قانون متحوله.
ما يقوم به الشاعر، أي ما ينتمي إليه، يكون في الطرف الأقصى مما هو ديني، حيث اللحظة الحداثية مفتوحة على كل الاحتمالات، بخلاف اللحظة الدينية المشدودة إلى مؤثر خارج التاريخ البشري، خارج الأرضي، خارج ما صار الإنسان من أجله وأحيل عليه. أي أن الذي حدث تم تسجيله باسم الإنسان العاصي، وكأن الحداثة في أصل نشوئها استعادة لما يراد للنسيان من مديح العصيان والتمرد والاحتفاء بالذات التي وعت تكوينها الدنيوي، وأمعنت في الحدود التي تبقيها أكثر تفهماً لعالمها وكونيتها.
ما يشدّد على الوعي التاريخي، على المختلف الذي يكون حافزاً للفرد لتأكيد ذاته من باب التعدد، يكون الشرط الأعظم في مفهوم الحرية، لا بمعنى طرد الديني أو نبذه خارجاً، وإنما إحالته على قضية إنسانية. يبرز الحداثي قيامة تاريخ لا يني يتفاعل مع أحداثه التي هي أصل تكوينه.
كل فرد محكوم بالتاريخ! قول كهذا لا يرضي من يريد احتكار التاريخ باعتباره التاريخَ نفسه أو خارج نفوذه السلطوي. في الشعر، تهبنا الحداثة لحظتها المفصلية باضطراد، تكشف لنا حرارة الانتماء إلى التاريخ، وهي تنزع عنه القداسة التي توقف العالم على قدميه، حيث السماء في مواجهة الأرض في معرض المساءلة الدائمة، صورة تتلون وتتكون عبر مرآتها التي تغطيها في جهاتها الأربع.
أن يرتبط اسم الشاعر الحداثي بصورة خاصة بالبدعة، فلأن في ذلك فتح ملف دائم لما كان في البدايات! كأن الديني لا ينسى برّية الشاعر، والعالم الذي يشير إليه خارج المقنَّن والمسوَّر. كأن التخلف الذي عشناه ونعيشه تاريخياً، يشير بأصابع الاتهام إلى الذين يمنحون التاريخ وجهاً واحداً دينيَّ المقام وإلى الأبد، وأن ما يجري مقيَّد باسمه، وأن لا مجال للحيلولة دون حدوثه.
في الشعر ثمة خروقات دائمة لطوطمية التاريخ المحروسة، وإحالة التابو في التاريخ والسياسة والاجتماع على واجهة الأحداث الكبرى، وتحديد الموبقات أو عظائم الأمور التي تُرتَكب على خلفيته المصونة.
في الحداثة يهتدي الشاعر باعتباره وليد التاريخ الحي، الأرضيّ منه والسموي، لاحقاً وليس ابتداء. إذ يكون مجرد فضاء للنظر وتأمل اللامنظور، يهتدي إلى موقعه الذي خرج أو أخرِج منه بالقوة، وتم ردمه أو تعديمه، أو تبديله، ومن ثم محاولة شطبه من الذاكرة، والتعبير عن ذاته التامة من خلاله، وإن كان المعبّر عن جماعة ما، والناطق بلسان قوم. الشاعر في حيازته التاريخية تلك، يلغي السقف الذي أُلزِم الحفاظ عليه. إنه سقفه الذاتي على كل حال. كأنه في ضوء ما تقدّم، نذير قياميّ، وجلاّب المصائب لمن يؤمّم على ذاته بصفتها راعية الذوات الأخرى، حيث يقيم الطغاة وفقهاء الطغاة وأجندة الحدود المتروسة والتعاليم الصارمة. والتنوير نذير شؤم دائم لهؤلاء.
في الموقف المفتوح على التاريخ، وعلى العالم، تكمن طرافة الشعر، في ما يصنعه، كما يرى أدونيس، حيث يكون الحلم الملازم لكل حدث والمشارك في تكوينه وتطويره، وما في ذلك من حميمية ضامنة للحياة في روعتها الملهمة (وفي هذا تكمن جاذبية الكتابة، في هذه العفوية الخلاقة، في إعادة النظر المستمرة. فلكي نكتب التاريخ باستمرار، يجب أن نمحوه باستمرار). هذا التعبير الأدونيسي يلحق الكونَ نفسه، بما هو تاريخي، أعني يتعرض له، بقدر ما يعرض به، إذ يعرّضه لقانون التحول والتجاوز من أجله نفسه.
ينطبق القول على أدونيس بالذات، عندما يكون الشعر وليد تاريخه أو لحظته، وتكمن قيمته في البعد الجمالي الذي يحدد عمره الفني زمانياً، وليكون أدونيس، كمثال سالف، حالة تحدٍّ لمن يهمه أمر الشعر، وشأن التنوير، وما يقتضي ذلك من ضرورة تجاوز له ومن أجله.
من يصيّر الآخر، أدونيس أو غيره، تاريخاً ويحتمي به، يلغي فيه انتماءه الإنساني، ولا يعود هو ذاته أهلاً للنظر في حقيقة انتمائه. لا يعود قادراً على أن يكون الشاعر المختلف في قلب التنوير.
إن التاريخ الذي يكتب ويجري محوه، يعني من ضمن ما يعنيه اعترافاً بمناقب التنوير على صعيد كوني، واستعداداً مستمراً لكتابة التاريخ من زوايا لا تحصى، لئلا تُستثنى زاوية بمبرر ما، وتحت طائلة المسؤولية الفلسفية. تلك هي اللحظة المستعادة في الحداثة التي تجلب الكوابيس لخصوم التنوير، وليكون في وسع أيٍّ كان النظر في التاريخ على أنه تاريخه، هو وسواه، حتى وإن بدا من ألدّ أعدائه إيماناً لازماً بحكمة الأضداد.
أرى أن الشاعر، الذي يقع في الحد الأقصى مما نفكر ونتخيل ومما نسرده حكواتياً أحياناً، وحده الأقدر على وصلنا بأسلاف لنا أقاموا تاريخاً في المهاد الطبيعي ينتظرون لقاءنا تحت رعاية شعرية، ليكون في وسع القادمين من بعدنا، ليس بالمعنى التراتبي وإنما التنافسي من أجل الأجمل والأفضل، كيفيةَ إثراء التنوير وتوسيع حدود تاريخه الذي ننتمي إليه. وربما كان ذلك الإمكانَ الأوحد للإصغاء إلى اوركسترا التاريخ وملحميتها الكونية فينا! ¶
ملحق النهار الثقافي