صبحي حديديصفحات ثقافية

المزج الرفيع

null
صبحي حديدي
في دورتها الأولى، هذه السنة، مُنحت ‘جائزة محمود درويش’ العالمية إلى الروائية والمعلّقة المصرية أهداف سويف، والشاعر والروائي الجنوب ـ أفريقي بريتن بريتنباخ، ليس مناصفة كما جاء في بعض التغطيات الإعلامية، بل نال كلّ منهما الجائزة تامّة كاملة في جميع اعتباراتها المعنوية والمادية. وقد شدّدت حيثيات لجنة التحكيم، التي شرّفني أن أكون في عدادها، على جوانب مشتركة في أدب سويف وبريتنباخ، بينها الإنحياز إلى قِيَم الحرّية والعدالة والإستقلال الوطني، وإعلاء شأن الإبداع والتجديد والمغامرة، ومناهضة أشكال التمييز كافة، ورفض التعصّب والإنغلاق، واستلهام التراثات الوطنية التنويرية والإنسانية…
والحال أنّ سويف وبريتنباخ يشتركان، أيضاً، في صفة أخرى خاصة هي النشاط الميداني على الأرض، دفاعاً عن القيم التي يؤمنان بها، وللمرء أن يسبغ عليهما صفتَيْ ‘الناشطة’ و’الناشط’، بالمعنى الفعلي الملموس، دونما مبالغة أو بلاغة. وكانت سويف قد أطلقت ‘مهرجان أدب فلسطين’ Palfest العالمي، ضمن احتفالات القدس عاصمة للثقافة العربية، فضمّ في العضوية الفخرية أمثال هارولد بنتر، شينوا أشيبي، جون بيرغر، شيموس هيني، فيليب بولمان، ومحمود درويش. ونظّم المهرجان زيارة إلى فلسطين، حيث عقد أدباء عالميون ورشات عمل ولقاءات وأمسيات أدبية في جنين والخليل ورام الله والقدس، وتعرّضوا مراراً لتنكيل سلطات الإحتلال، ومنعهم من ممارسة أبسط أشكال التواصل مع الشارع الفلسطيني.
من جانبه، كان بريتنباخ قد تمرّد على نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا منذ ستينيات القرن الماضي، حين كان على مقاعد الدراسة، بل خرق واحداً من أكبر نواهي ذلك النظام حين تزوّج من صبية فييتنامية، خلافاً لقوانين ‘حظر الزواج المختلط’ و’مدوّنة السلوك’. فيما بعد، سوف يقود بريتنباخ حركة مقاومة سرّية ضدّ سلطات الـ’أبارتيد’، تحت إشراف مباشر من قيادة ‘المؤتمر الوطني الأفريقي’، حزب نلسون مانديلا، وذلك رغم أنّ شقيقه يان بريتنباخ كان قائد ‘فوج الكتائب الخاصة’ التابع للنظام، والمكلف بالعمليات السرّية في ناميبيا. وهكذا، كان طبيعياً أن يجد بريتنباخ نفسه أمام قضاء الـ’أبارتيد’، بتهمة ‘ممارسة الإرهاب’ و’انتهاك قوانين النقاء العرقي والأخلاقي’، فحوكم وسُجن سبع سنوات.
ولا أخفي أنّ فوز سويف وبريتنباخ بجائزة محمود درويش كان مصدر بهجة خاصة لي، إذْ كنت على الدوام أثمّن عالياً ما نجحا في ابتداعه من مزج رفيع، شكلاً ومحتوى، بين سلطتَيْ النصّ والفعل، في مسائل شتى تخصّ مسؤوليات الكاتب الأخلاقية، داخل ثقافته الوطنية أوّلاً، ثمّ الإنفتاح الخلاق على الثقافات الإنسانية تالياً. وقبل سنوات جمعني لقاء مع بريتنباخ، خلال تكريم محمود درويش في مدينة إكس ـ أن ـ بروفانس، جنوب فرنسا، فقلت له إنه أحد أفضل مَنْ يكتب شعراً في أفريقيا هذه الأيام، فلاحت على وجهه علائم الحرج الشديد، وردّ متلعثماً: ‘هذا لطف بالغ منك، ولكن لعلّك تقصد أندريه برينك’، فأجبت: ‘بل أقصد بريتن بريتنباخ، دون سواه’. وبعد أشهر، كان أحد نقّاد مجلة ‘نيويوركر’ الأمريكية يطلق عليه الصفة ذاتها، تقريباً، فمنعني الحياء من تذكيره بحوارنا ذاك، والأرجح أنّ هذه كانت حاله أيضاً.
أمّا سويف فقد تحمّست لعملها منذ أن قرأت، بالإنكليزية دائماً، مجموعتها القصصية الأولى ‘عائشة’، 1983؛ كما ترجمت لها قصة قصيرة من المجموعة الثانية ‘زمّار الرمل’، 1996، نُشرت آنذاك في مجلة ‘الكاتبة’؛ وكتبت عن روايتها الأولى ‘في عين الشمس’، 1993، وروايتها الثانية ‘خريطة الحبّ’، 1999، التي بلغت القائمة القصيرة لجائزة الـ’بوكر’ البريطانية الشهيرة. وفي يقيني أنّ عملها الروائي الأوّل هو رواية إنكليزية ممتازة عن مصر، ورواية مصرية ممتازة عن إنكلترا، لأنّ معضلات آسيا العُلَما، بطلة الرواية، تبدأ من الإنتماء إلى اللسان الأجنبي الذي عشِقَتْه في النصّ الأدبي والثقافي، قبل أن ترتطم به في الحياة الفعلية. وعناصر السيرة الذاتية تندمج في النسيج اليومي للحياة السياسية المصرية والعربية منذ هزيمة حزيران (يونيو) 1967، إلى مذابح ‘أيلول الأسود’ في الأردن، وحرب تشرين الأول (أكتوبر) 1972، مروراً بوفاة جمال عبد الناصر، وصعود أنور السادات، واتفاقات كامب دافيد، واجتياح لبنان، وبدايات تكوّن التيارات الإسلامية في الشارع العربي.
أمل الغمراوي، بطلة الرواية الثانية، لا تكفّ عن استدعاء الماضي في ضوء الحاضر، وذكرى وصول الأساطيل البريطانية بهدف قمع ثورة عرابي تنقلها مباشرة إلى شركات الخدمات المصرية التي تُباع كلّ يوم للمستثمرين الأجانب، وإلى موت المزيد من أطفال العراق تحت الحصار، وتهديم بيوت الفلسطينيين، والمواجهات المسلحة في الصعيد، وأفانين التعذيب والإعدامات. في الماضي كان شكري بيه العسلي يقارع الإستيطان الصهيوني في فلسطين، تتذكر الغمراوي، أمّا اليوم فإنّ طارق عطية (صديقها السابق، ورفيقها في النضال أيّام الجامعة) لا يجد مشكلة في جلب عدد من المهندسين الزراعيين الإسرائيليين لاستصلاح مزرعته.
وكما كان بريتنباخ صارماً، وشجاعاً تماماً، في رسالته الشهيرة الموجهة إلى أرييل شارون، ربيع 2002، فكتب أنّ سياسات إسرائيل ضدّ الفلسطينيين لا تحتاج إلى مقارنة مع نظام الـ’أبارتيد’ لأنّ فيها من الشرّ ما يكفي بذاته ويزيد؛ كانت سويف، في كتابها البديع ‘في مواجهة المدافع’، حاملة شهادة بليغة إلى القارىء الغربي، عميقة مؤثرة جسورة، حول ممارسات إسرائيل العنصرية في فلسطين المحتلة. وكلاهما، إذاً، استحقّ بجدارة جائزة محمود درويش، الفلسطيني العربي الكوني.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى