شعب على الحديد
هيئة تحرير موقع الرأي
لم يدر بخلد زياد الرحباني وهو يصوغ أغنيته الساخرة في سبعينات القرن الماضي التي تقول : ” مبارح كنا ع الحديدة . . . وهلق صرنا ع الحديد ” أنه يعبر في الوقت نفسه عن أحوال الشعب السوري كما تجري اليوم في العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين .
ويذكر السوريون جيداً أن حياتهم في ظل الحكم العرفي المديد الذي دخل عقده الخامس لم تكن تقنيناً للحرية والكرامة وانعداماً لهما فحسب ، إنما كانت أيضاً تقنيناً وانعداماً لشروط العيش الكريم وراحة البال . فكانت سنوات حكم الدولة الأمنية ومازالت عمراً من الأزمات والاختناقات المتلاحقة . وهي وإن تنوعت في الحدة والمظهر ، فهي تتفق في الأسباب والجوهر . فمن قلة السيولة في أيدي الناس إلى قلة السلع في الأسواق . ومن الركود الاقتصادي إلى البطالة والكساد والغلاء ، دون أن ننسى العلق الذي اعتاش على الاقتصاد الوطني ، ونما عليه حتى أنهكه ، من تهريب وهدر ونهب وفساد رعته السلطة وأجهزتها وأزلامها ، حتى غدا وحشاً خارجاً عن السيطرة ، يعبث بكل شيء ولا يقوى عليه أحد . والحصيلة كما تتبدى اليوم اقتصاد منهك ومدمر ، وأحوال معيشة للمواطنين غير لائقة ودون حد الكفاف ، ولا تتناسب مطلقاً مع بلد كسورية غني بكل أنواع الثروات والخيرات والإمكانات الظاهرة والكامنة ومن كل الأنواع .
وكأن حياة المواطن السوري كانت تنقصها قرارات الحكومة الأخيرة برفع أسعار المازوت بشكل خيالي اقترب من أربعة أمثال ، لتصبح جحيماً لا يطاق وعناء يومياً لا قبل له بتحمل تبعاته . إذ وضعت هذه القرارات السوق السورية ( سوق السلع والخدمات والعمالة ) بحالة من الفوضى ورهناً للتصرف الكيفي . فلا خطط ولا إجراءات مدروسة ولا مراقبة ، ليبقى المواطن وحده الضحية ونهباً للشروط القاسية دفعة واحدة . فبأي معيار تضاعفت أجور المواصلات والنقل الداخلي في المدن ومع القرى والأرياف وبين المحافظات ؟ ! وكيف جرى تحديد الأسعار بحجة ارتفاع أسعار المحروقات لترتفع بين 50 – 80 بالمئة حتى بالنسبة للمواد والخدمات التي لا صلة مباشرة لها بالمحروقات ؟ !
لن تنجح السلطة في محاولتها رمي الكرة في ملعب الارتفاع العالمي للأسعار وإلقاء أعباء المواطن السوري والمسؤولية عليه . كما لن ينجح المتسلطون على مقدرات البلاد بتبرير هذا الانهيار الحاد في القدرة الشرائية ( رغم الزيادة الأخيرة ) للمواطن وانعدام قدرته على تلبية احتياجاته واحتياجات أسرته بشكل شريف وكريم ، عبر الحديث عن ظروف إقليمية ودولية وأسباب واهية أخرى ، هي بالذات وفي الوقت نفسه من صنع أيديهم ونتاج لسياساتهم وأساليب عملهم .
وإذا كان صحيحاً أن دعم بعض المواد الاستهلاكية أمر مكلف ، ويرتب أعباء باهظة على الخزينة لم تعد تقوى على تحملها ، فإن الصحيح أيضاً أن مقاربة الموضوع تحتاج إلى خطة إصلاح جريئة وبعيدة النظر ومتدرجة وشفافة ، تتم فيها مصارحة الشعب وتأمين مشاركته الفعالة في صياغتها وتطبيقها على حد سواء . لقد تأخر أصحاب القرار كثيراً في اعتماد الإجراءات اللازمة التي تكفل المعالجة السليمة للوضع ، وما زالوا حتى اليوم غير متنبهين لأهمية ذلك وضرورته . كما تحتاج هذه المقاربة إلى مسؤولين يتسمون بالعلم والمعرفة ، ويتخلقون بالصدق والأمانة والشرف في ممارسة مسؤولياتهم . وهو ما تفتقر إليه مختلف الأجهزة والإدارات في ظل تعميم الفساد وسيادة علاقات المحاسيب لا المحاسبة ، مما حول هذه المؤسسات إلى ما يشبه الحيازات توضع تحت تصرف مافيات عائلية ومناطقية وجماعات مصالح متعددة الأطراف ، أعماها الجشع والنهب وجمع الثروات عن رؤية ما يجري حقيقة ومخاطره المستقبلية على الوطن وحياة مواطنيه .
ليست الوطنية هتافات وشعارات ومسيرات . إنها عمل فعلي لتحصين الوطن وتوفير أسباب سيادته واستقلاله ، وتنمية اقتصاده وثرواته ، وحماية مصالحه ومقدراته . وهي مهمة الشعب الحر عندما يتمكن من الإمساك بمصيره وتقرير شؤونه . وواجب الدولة والقائمين عليها في كل حين تأمين الشروط التي تحقق ذلك من أجل ازدهار حياة المواطنين وتحسين حياتهم .
فأين ما يجري مما هو مطلوب ؟ !
وما يزيد الطين بلة في بلادنا التي أفرغها القمع والاستبداد وانعدام الحريات من أي هياكل أو منظمات اجتماعية حديثة وفعالة . إذ لا حصون دفاع للمواطن والمجتمع من أي نوع لمواجهة غطرسة السلطة وجبروتها وتوحش السوق المنفلت وفق المصالح الضيقة وإرادة الأقوى . فلا أحزاب سياسية تنظم الناس وتؤطر جهودهم من أجل حماية مصالحهم والتعبير عنها والعمل من أجلها ، ولا نقابات مستقلة وحرة ترعى شؤون أعضائها وتدافع عن لقمة عيشهم ، ولا اتحادات ولاجمعيات ولا منظمات للمجتمع المدني فعالة ، تمسك بالقضايا المطلبية للشعب ، وتفتح الآفاق للنضال من أجلها . فبقي المواطن وحيداً عارياً إلا من همومه ونقمته .
ما تتعرض له الأوضاع المعيشية للشعب السوري اليوم ليس ارتفاعاً بالأسعار فاق كل التصورات وصار فوق مايمكن أن يتحمله معظم الناس الذين يعيشون من تعبهم وعرق جبينهم . أما الذين ينهبون المال العام وجيوب المواطنين فهم سبب المشكلة والمستفيدون منها في آن معاً . إنه تدمير شامل لقدرة السواد الأعظم من الشعب السوري على العيش الكريم ، سيكون له تداعيات خطيرة على مجمل الحياة العامة والخاصة في سورية . وهو ليس وليد قرار بعينه أو إجراء هنا أو تصرف هناك ، إنما هو بعض نتاج نظام الاستبداد والدولة الشمولية الشائخة ، الذي عفا عليه الزمن وصار معيقاً لتطور البلاد والعباد وآن أوان تغييره .
الأزمة اقتصادية . . نعم ، لكن مخرجها سياسي بامتياز . وما فشل السلطة بتفعيل شعاراتها في ” التطوير والإصلاح ” ومخططاتها ومشاريعها التي راهنت على الإصلاح الاقتصادي والإداري والإجراءات الترقيعية الجانبية ، التي هدرت المال والوقت والطاقة البشرية وفوتت الفرص الثمينة دون طائل إلا الدليل القاطع على أولوية الإصلاح السياسي على كل إصلاح . فهو الأصل ومن تتفرع كل مشاريع الإصلاح الأخرى . وليس للبلاد إلا التغيير الوطني الديمقراطي الذي طرحته المعارضة كمهمة إنقاذية وطنية ومستقلة ويشارك بها الجميع . هذه المهمة تكاد تجمع عليها إرادة معظم السوريين ، حيث يتولى الشعب مصيره بيديه ، ويتحمل مسؤولياته بحل مشاكله ، ويفجر طاقاته من أجل إخراج الوطن والشعب من العثار الكبير والمآزق المتعددة التي تتكرر باستمرار .
8 / 5 / 2008