مسؤولية المُثقف بين السياسة والسِّيَاسِيِّ
صلاح بو سريف
لا يُمكن إجمالاً، فَصْلُ الثقافيِّ عن السياسِيِّ. لكنّ مشكلة العلاقة بين الثقافيِّ والسياسيِّ، تحتاجُ إلى فَهْمٍ خَاصٍّ لطبيعتهاَ. فالسياسة كانت، دائماً، تَمْتَصُّ الثقافة وتُسَخِّرُها لمصلحتها، ما كان يجعل من الثقافيِّ خطاباً بدون تعبير، فهو، بحُكْم هذه العلاقة، لا يَحْدُثُ إلاَّ بوَساطة غيره. في هذا ما جعل من الثقافيِّ يبقى عاجزاً عن قولِ ما يُريد، لأنَّ غَيْرَهُ كان دائماً يَنُوبُ عنه في الكلام.
هنا أوَدُّ أن أُمَيّـِزَ بيـن سياسة الثقافة، وثقافة السياسة، أو بيـن السياسة، La Politiqueوالسياسِـيّ Le Politique بنفس المعنـى الـذي ذهب إليه هنري ميشونيك فـي كتابه “سياسة الإيقاع، سياسة الذات”. إذا كانت السياسة هي المعنى المُبَاشِر لِمُمَارَسَةٍ لها خِطاباتُها وآليات عَمَلِها، فهي في علاقتها بالثقافة، لا تتنازَلُ عن “أيديولوجتها”، أي عن خطابها، و بالتالي يصير الثقافيُّ، جزءاً من هذه الأيديولوجيا، أو مُعَبِّراً عنها. هذا ما يجعل من الثقافة تتلاشى في مقابل السياسة. بعكس ما قد يجري في وضع السياسيِّ، أو سياسة الثقافة، هنا يَحْدُثُ العكس، لأنَّ الثقافيّ يصير مَالِكَ زِمَامِهِ، يُعطـي خطابـه، وآليات عمله، دورَ الدَّالِّ الأكبـر أو المُهَيْمِن.
ما حَدَثَ عندنا فـي المغرب، فـي التاريخ الحديث، هو هيمنـة السياسة. الثقافةُ كانت، دائماً، تأتي تاليةً، أو تبقى خطاباً في طَيَّات غَيْرِهِ، لا يَـدَ لَهُ ولا وَجْهَ.
في الستينات والسبعينات، أَجَّلَتْ طبيعةُ الصِّراع، بين النظام واليسار، سياسة الثقافة لصالح ثقافة السياسة. ما جعل معنى المعرفة، إذا وَسَّعْنا المفهوم أكثر، يكونُ مُحَمَّلاً بأيديولوجيا اليسار، أعني بخطابه. هذا جَرَى في الفكر كما في الإبداع. فحين تقرأ ما كُتِبَ خلال هذه المرحلة ستجدُ الثقافيَّ مُنْزَوياً في صَمْتَهِ، أو هو نوع من استعادة خطابٍ، كان مُفْتَرَضاً، لتقوية نسيج اليسار نفسه، أن يكون الثقافي مُوازياً له، يُنْتِج، هو الآخـر خِطابَه، ويُفَكِّر بآلياتِه، وتكون له أسئلتُه التي تُجَدِّدُ دَمَ السياسة، أو تَقُودُ السياسة بالأحرى، وتُنّبِّهُ إلى آنِيَتِها ونَفْعِيَتها، وحتى زَيْفَها، إذا أردنا أن نُشَخِّصَ المعنى الكامن للأيديولوجيِّ في السياسيِّ.
في الوقت الذي تَمَّ فيه توظيف الثقافي لخدمة السياسة، كانت السياسة، في هذا الزواج غير المُتكافِئ، تَحْكُم على نفسها بالآنية، وبإخْرَاسِ صَوْتِ خطابٍ، كان ينبغـي أن يَقُـودَها، ويُغَذِّي دَمَها بما يكفـي من آليات النقد والسؤال.
لم يحدُث هذا فـي السياسة، بل إنها، أنْتَجَتْ خطاباً يقوم علـى القَناعَات، واليقينيات، ولم يَكُنْ يأتي من جهات الشِّكِّ.
ما حَدَثَ من تَغَيُّراتٍ، وانقلابٍ في النظر للأشياء، أو ما يُسَمِّيه ليوتار بانهيار “السرديات الكبرى”، كَشَفَ هذه الحقيقة المُرَّة، ليس عندنا في المغرب فقط، بل في مجموع الممارسات السياسية والفكرية التي كانت تَحْكُم العالم. هذا الانهيار السَّريع، أفضى إلى الانتباه إلى هذا الصَّامِت الكامن في السياسة، ما جعل العودة إلى الثقافي، إحدى آليات تصحيح العطب.
بهذا المعنى، لم يكن المثقف مُنْعَزِلاً عن السياسة، بعيداً عنها، بل هو كان يعيش في غيبوبة السياسة. الوضع اليوم، اقتضى أن تَعُود الأمور إلى مجراها الطبيعي، ويَسْتَعِيدَ المثقف لِسِانُه الذي كان سُرِقَ منه، أو يَتَكَلَّم بنفسه دون وساطة أحدٍ، ويصير بالتالـي، خطاباً له خُصوصياته، وناطقاً باسمه لا باسم غيره.
في هذا ما يجعل اليوم رجُل السياسة يمتنع عن إعطاء الثقافة دوراً في قيادة الأمور، لأنّه ما زال يعتقد أنه قادر على تجديد نفسه بنفسه، وهذا ما يجعل كثيرا من هؤلاء لا علاقة لهم بالثقافة، بمعناها الواسع، وما يجعل من المُشْتَغِل في الحقل الثقافي يبقى وحيداً يعمل بدون إمكاناتٍ، ولا حقَّ له في الخَيْرَات العامة التي ينبغي أن تشمل الجميع، وبشكل خاص، هذه النخبة من المُشْتَغِلِينَ في حَقْل الرموز والدَّلالات.
يقتضي الوضْعُ اليومَ، وفي ضَوْءِ ما جرى من انقلابات في الأفكار، وفي المفاهيـم المُوَجِّهَة لها، أن يكـون المثقف شَريكاً فـي إنتـاج المفاهيـم و التَّصَوُّرات، و شريكاً في التدبير، و في تسيير الشأن العام. مَنْ شاركوا في مؤسسات الدولة، من المثقفين، إما جاءوا إليها من الأحزاب، أو ذهبوا إلى هذه المؤسسات وفق برنامج الدولة. ما يعني أنَّ المثقف لم يكن شريكاً ببرنامجه هو، وبرؤيته ومفهوماته، بل إنَّ الحزب أو الدولة كانا هما سبب وُجود المثقف في هذه المؤسسات، وهو ما ترتَّب عنه ما نعيشه من إخفاقات في المجال الثقافيِّ، وأعني بشكل خاص وزارة الثقافة.
السياسةُ كانت دائماً في مُواجهة السياسيِّ، وعملت على امتصاص مبادرة المثقف، وتَرْوِيضِها، وفق برامج، وأولويات الدولة، أعني أجَنْدَتَها، التي يبدو فيها الاهتمام بالشأن الثقافيِّ أضعف حلقة. ومن هنا يأتي ضُعف المثقف نفسه، لأنّه يذهب للمسئولية دون أفق، ودون برنامج، علماً أنَّ كل مثقف مُنْشَغِل بالشأن الثقافي، لديه تصوُّرات، أو مُقترَحات حول كيفية تدبير هذا القطاع.
هذا ما يجعل من وجود مشروع ثقافي وطني يصوغه المثقف بعيداً عن المؤسسات، الأفق الـذي يمكن أن يَحُـلَّ مُعْضِلَة العلاقة بين الثقافـة والسياسة من جهة، وبين المثقف والحزب، والمثقف والدولة، من جهة أخرى.
ففي غياب مشروع مُتَوَافَق حولَه، يمثِّل مختلف شرائح المثقفين، ويتميَّز برؤية شُمُوليةٍ، تستجيب لطبيعة المتغيِّرات التي طالت مختلف حقول المعرفة، بما فيها مفهوم السياسة، والعمل السياسـي، والعلاقة مع الدولة وتمثيلية المثقف في مؤسساتها، وفي غيرها من المؤسسات التي تُقَرِّر في الشأن العام، لا يمكن للعمل الثقافي أن يكون قادراً على التحليق بأجنحته، فهو سيبقى دائماً في حاجة لأجنحة غيره كما في حاجةٍ لهوائِه، وهذا هو ما يجري عندنا، في العلاقة بين الثقافة والسياسة.
موقع الآوان