المجتمع الأهلي ودولته!
ميشيل كيلو
كثيرا ما يتم الخلط بين المجتمع الأهلي والمجتمع المدني، فيقال المجتمع المدني عن الأهلي، ويقال الأهلي عن المدني. وكثيرا ما تنسب منظمات وتكوينات سياسية واجتماعية للمجتمع المدني، مع أنها منظمات وتكوينات يجب أن تنسب إلى المجتمع الأهلي. هذه التداخلات في المفاهيم شاعت حتى صار كثيرون يظنون أن المجتمع المدني هو نفسه المجتمع الأهلي، وأن المجتمع الأهلي هو المجتمع المدني، رغم ما بينهما من بون شاسع سأحاول إظهاره في هذه العجالة.
المجتمع المدني هو بأشد اختصار ممكن ‘مجتمع المواطنين الأحرار’، الذي ركيزته الفرد (مواطن الدولة) الحر، ومعادله: الإنسان بوصفه فردا وذاتا حرة. أما المجتمع المدني فهو الهيئة العامة التي تضم هؤلاء الأفراد الأحرار، الذين هم، في الوقت نفسه، مواطنو الدولة. حيث لا يوجد الفرد الحر لا يوجد مجتمع مدني. وحيث يقوم مجتمع ليس الفرد الحر بنيته التحتية وركيزته وحامله نكون أمام مجتمع أهلي، كتلي، ينضوي الفرد فيه ضمن تكوين يجعل منه ويرى فيه موجودا تابعا وثانوي الأهمية. يقوم المجتمع الأهلي على تكوينات جماعية ذات أولية ينضوي فيها فرد يتعين وجوده من خلال عضويته فيها، كأن تكون قبيلة أو عشيرة أو طائفة أو حزب شمولي … الخ. عندما لا تكون الأولية في مجتمع أو جماعة للفرد بما هو ذات حرة يتعين كل شيء بحريتها وينميها، نكون حيال مجتمع أهلي، أوليته جماعة يخضع الفرد لها، فليست حريته معيارها ووظيفتها ومقياس دورها ووجودها وهدفها، بل انضواؤه فيها وتبعيته ورضوخه لها هو هذا المعيار.
إذا كان هذا التفريق صحيحا، فإنه يعني أمرا يجب التأكيد عليه، هو أن بلداننا العربية لم تعرف في الماضي ولا تعرف اليوم أيضا المجتمع المدني، لأنها لم تعرف في الماضي ولا تعرف اليوم مجتمعات لبنتها الأساسية الفرد / المواطن / الإنسان الحر، وغايتها تنمية حريته والحفاظ عليها. وهو يعني أيضا أن أحزابنا ليست بدورها جزءا من المجتمع المدني، لأنه ليس بينها من يرى في نفسه تجمعا طوعيا لمواطنين هم ذوات حرة، أو يعطي الأولية لتنمية حريتهم، ولأن حرية الفرد ليست هدف برامج وأنشطة وسياسات أحزابنا، التي تستهدف إخضاع أعضائها لقيادتها، ولما تراه ملائما وصحيحا من سياسات.
ما عرفناه تاريخيا كان، في المرحلة الأولى، تكوينات ما قبل مجتمعية، ما دون أهلية من جهة وغير مدنية من جهة أخرى، أهمها القبيلة والعشيرة والطائفة والجهة الإتنية … الخ. ثم عرفنا في مرحلة تالية مجتمعا أهليا قليل التماسك والكثافة، تكون من جمعات وجماعات، نسميه مجتمعا وأهليا من قبيل التساهل، فهو لم يكن يوما موحد الأهداف والغايات والفكر وطرق العيش، حتى تصح فيه تسمية المجتمع، ولم يكن مندمجا ومنسجما يعاد إنتاج أجزائه ومكوناته جميعها وفق أنماط وآليات واحدة، كي نسميه أهليا. الأصح القول: إنه كانت هناك مظلة عليا اسمها الدولة، تمسك من فوق بجماعات دنيا متناحرة متناقضة تخضعها بالقوة والتخويف والعنف لسلطة واحدة (غالبا ما كانت سلطة رجل واحد). لذلك يصح القول: إننا عرفنا هذه الدولة قبل أن نعرف المجتمع ككيان موحد ومنسجم ومندمج، وما زلنا في هذا الطور إلى اليوم، وإن كان نصيب الدولة قد تناقص ونصيب المجتمع الأهلي قد تزايد، فصار للدولة / السلطة هدف رئيسي هو كبح وإعاقة تطوره نحو مجتمع مدني، ومنعه من أن يقود إلى دولة / مجتمع حديثة، علما بأن الدولة / السلطة تستخدم للإبقاء على جماعات وتكوينات ما قبل مجتمعية ـ طوائف، قبائل، عشائر … إلخ -، ما قبل أهلية، ولوقف نمو ما هو أهلي إلى شعب حديث متزايد الاندماج يستطيع تأسيس وحمل دولة حديثة تتجاوز تكوينات مجتمعها الجزئية. ومع أن مجتمعنا الراهن يعد أهليا في ما يتعلق بالمكانة الثانوية التي يعطيها للفرد، فإنه ليس أهليا، بل هو ما قبل أهلي / ما قبل شعبي، في ما يتعلق بدرجة اندماج وانسجام وتوافق مكوناته.
في الحداثة، الدولة هي الجزء الأعلى من بناء سياسي أساسه وحامله المواطن / الفرد الحر، ويمر بمجتمع المواطنين الأحرار، أي المجتمع المدني، وينتهي فوق إلى المؤسسات التي تسمى الدولة وتعبر عنه في مستوى السياسة. في المجتمع المدني، للمجتمع والدولة جذر واحد هو المواطن / الفرد الحر، الإنسان بوصفه ذاتا حرة. لذلك يوجد هنا دوما حد أعلى من الانسجام والتناغم بين الدولة والمجتمع، ووحدة تفاعلية / تكاملية تشدهما بعضهما إلى بعض، وتجعل كلا منهما يرى نفسه في الآخر وبدلالته، ولا يقيم له أي وجود خاص ضده أو بدونه. في مجتمع المواطنين الأحرار، إرادة المواطن الحر هي حامل الدولة، وهي التي تقرر نمطها وأسلوب عملها، حتى عندما ترفض ما لا يناسبها منهما. في هذه الحالة، يكون كل شخص في علاقة مع خصوصية الآخر المماثلة لخصوصيته، بحيث يتأكد كل واحد ويحصل على الإشباع بواسطة الآخر ويكون في الوقت نفسه ملزما بالمرور بالعمومية، التي تكثف مصالح الجميع، وتعد، كمحصلة لإرادة كل فرد، حامل الدولة ومصدر شرعيتها، ليصير هدف الفرد الذاتي أساس منظومة تبعية متبادلة داخل مجتمع التعاقد والتوافق الشاملين، الذي يسمى ‘المجتمع المدني’. في هذا المجتمع ودولته، ثمة أساس يوحد مكوناته جميعها وإن اختلفت تعبيراتها وتظاهراتها، وعملت للهدف ذاته من خلال مستويات مختلفة. وثمة علاقة تفاعلية وتكاملية بين هذه المكونات تجعل وظائف الدولة ضامنة لمصالح الأفراد المتبادلة ومنمية لحرية واستقلالية حاملها : المواطن الحر. بدورها، تكون مهمة المجتمع تعزيز وصيانة حرية الفرد تحت، وقوة ووحدة وفاعلية الدولة فوق، بينما يقلص الفرد / المواطن تناقضاته وخلافاته ومصالحة الأنانية، التي تهدد العمومية، إلى الحد الذي يكفل ديمومة وسلمية العيش المشترك، ويحول دون انشقاق الهيئة المجتمعية العامة ، ويحافظ على حريات المواطن كاملة، ويبعد السلطة عن أي انزياح قد يغريها بالاستقلال بذاتها، مثلما هو حالها في النظم الشمولية، نظم المجتمع الأصنافي / ما قبل الأهلي. حيث يوجد مجتمع مدني، تكون الدولة الوسيط الأعلى والأعم، الذي يحتوي على سائر الوسطاء الآخرين، ويحفظ مصالحهم وحقوقهم. أما في المجتمع الأهلي، فالدولة هي بنيته التحتية القائمة على تكوينات جزئية، رغم أنها تقف فوقها وتستقل بصورة تكاد تكون تامة عنها. ليس المجتمع ما قبل الأهلي والمجتمع الأهلي حاملي الدولة في نمطي المجتمع هذين. هنا، الدولة ذاتها هي حامل نفسها، وهي التي تعزز وتعيد إنتاج تكويناتهما و’تحدثها’، كي تخدم مصالحها وطريقة إدارتها للمجتمع، بينما يغيب الفرد / المواطن / الإنسان كوجود مستقل وأرضية مشتركة بينها وبين المجتمع، وتنشأ قاعدة خاصة بالدولة / السلطة هي أجهزتها، حاضنة الآتين من تكوينات ما قبل مجتمعية، الذين يشكلون كتلة بشرية وازنة ترتبط بنمط إنتاج السلطة، وطرقها الخاصة في توزيع الدخل، وأيديولوجيتها، وأساليب إعادة إنتاج حياة عامة غدت حياتها، التي تفرضها بما هي نمط حياة للعموم. هذه الدولة، التي هي بنية تحتية لمجتمعها ،لها سمتان أساسيتان هما:
– الشمولية، ومعناها باختصار: إنتاج المجتمع والشأن العام انطلاقا من سلطتها وبدلالتها، مع ما يضمره ذلك من نفي للفرد ولمجتمع المواطنين الأحرار، وتعبئة واستخدام تكوينات المجتمعين ما قبل الأهلي والأهلي، التي كلما ازداد اختراقها لهما ازداد استقلالها عنهما وتعاظمت قدرتها على التحكم فيهما وضبطهما، وأمعنت في إنتاجهما على صورتها ومثالها : بقوة العنف والقمع والإفساد، وتدمير ما بين تكويناتهما من مشتركات يمكن أن تجعل منهما، في وقت ما، وبفضل تطورهما الطبيعي، كيانا متماسكا ومنسجما، شعبا ينمو ليصير مجتمعا مدنيا. الشمولية هي إبطال تطور الفرد والمجتمع الطبيعي نحو فرد ومجتمع سياسي مستقل / مدني بوسائل السلطة / الدولة، العنيفة والإكراهية، ولمصلحتها.
– هذه الدولة ليست دولة بدلالة المجتمع (دولة / مجتمع)، بل هي دولة بدلالة السلطة (دولة / سلطة). تعطل بما لديها من وسائل أهمها العنف ونمط محدد من تملك وتوزيع الدخل الوطني، أي تطور يمكن أن يؤسس لقيام الدولة / المجتمع، التي ترى نفسها بدلالة مجتمعها في طور أول، ويمكن أن تتطور إلى دولة مجتمع مدني في طور تال، يمثل قيامها ثورة سياسية توفق بين مصالح المواطن / الفرد/الإنسان ومصالح المجتمع والدولة، وتذهب من الفرد إلى المجتمع إلى الدولة وبالعكس. بوصفها دولة / سلطة، تقيم المؤسسات السياسية وجودها خارج مجتمع العمل والتعاقد والتوافق، وتتبنى نهجا استعماريا في تعاملها مع مجالها الخاص، فتفصل نفسها عنه إلى أبعد حد مستطاع، بينما تدمجه فيها دمجا عضويا خانقا لا يترك له أي خيار أو قرار حر، وتشطر الواقع إلى عالمين : سياسي يرتبط ارتباطا عضويا ولحظيا بخياراتها ومصالحها، وما قبل أهلي / ما قبل سياسي يتخبط فيه المنتمون إليه من أفراد وكيانات ‘مجتمعية’ تضمهم تخبطا عشوائيا يزيد من افتقارهم إلى إرادة عامة وحقوق ودور، ويستخدم القوانين السائدة ضدهم، بدمجها دمجا متعاظم في هياكل القمع المنظم، التي تعتبر روح الدولة / السلطة وحاملها الرئيسي وأداة نهب المجتمع عامة وحرمانه من عوائد ملكية أفراده الخاصة، التي يشحن استيلاؤها عليها المجال العام، على ضيقه وهشاشته، بضروب محدثة من البربرية الأكثر توحشا، كما كان يقول الفيلسوف الألماني هيغل. ليست الدولة / السلطة تعاقدية، أكان العقد بينها وبين الفرد وتكوينات المجتمعين ما قبل الأهلي والأهلي، أم بين الأفراد أنفسهم، أم بين هؤلاء والمجتمعين، أم بين هذين الأخيرين. ومع أنها وصلت إلى السلطة من خلال فرص أتاحها التعاقد، فإن إلغاءه كان أول شيء فعلته، لذلك تتسم علاقاتها مع داخلها بسمتين:
– كونها علاقات عمودية / رأسية.
– وعلاقات غير راجعة، فهي تنزل دوما من فوق إلى تحت ولا تصعد أبدا من تحت إلى فوق، وليست علاقات متعددة أو متنوعة الأطراف، فليس فيها غير طرف واحد هو الدولة / السلطة. بما أن التعاقد أخذ، تاريخيا، من الفرد عنفه وأنانيته، وعوضه عنهما بالحرية والملكية في إطار عقد اجتماعي صار سياسيا، وأسس للدولة الحديثة وللشأن العام بوصفهما ساحة للحرية والديمقراطية، فإن نفي التعاقد يعني نفي الحرية وتوابعها، وتقييد الملكية واحتمال نفيها في أي وقت، والتعويض عنهما بالأنانية والعنف: أنانية السلطة وعنفها، وأنانية وعنف كل فرد ضد كل فرد آخر، وأنانية وعنف المجتمعين في صورتيهما ضد بعضهما وضد الفرد والدولة . إنها أنانية شاملة تستخدم عنفا لا حدود له، تجعل الشأن العام خلوا من التوافق والحوار والسلام والقانون، وتحوله بصورة متزايدة إلى ساحة فتك وبطش يمارسهما الجميع ضد الجميع، مفتوحة على ضروب متنوعة من البربرية المحدّثة!. بانعدام التعاقد، يصيب السياسة تشوه بنيوي، وتنقلب إلى أداة عنف لا قيد عليه، يلغي أية فاعلية مجتمعية أو شخصية أو قانونية، حرة أو مستقلة (لكونها من مستلزمات تبلور المجتمع المدني). في هذه الوظيفة، تكمن حاجة الدولة / السلطة إلى تحديث العنف تحديثا متواصلا، وإلى نهب داخلها، وإعادة إنتاج أجهزتها في ضوء الحاجة إلى جعلها أجهزة عنف، بغض النظر عن طابعها الأصلي.
ثمة هوة هائلة بين نمطي الدولة في المجتمع المدني والمجتمعين ما قبل الأهلي والأهلي. إنها الهوة التي تفصل المجتمع الديمقراطي الحديث عن المجتمع الاستبدادي التقليدي، ومجتمع المواطنين الأحرار عن مجتمع الشمولية العمياء، التي لا تضم مواطنين أصلا كي يكونوا أحرارا.
أما عندنا، في الدول العربية، فقد حدث تراجع ملحوظ ومأساوي من نمط دولة بدأت تنفتح عقب الاستقلال على شيء من الحداثة، في رهاناتها وبعض جوانب بنيتها العامة وعلاقاتها مع المجتمع، حيث نمت فكرة الفرد الحر خلال حقبة النضال من أجل الاستقلال، مع ما ترتب عليها من بذور مدنية، ما بعد أهلية، مبشرة، وبدأ العرب يعودون إلى دولة حداثتها قمعية، أوقفت، بما لها من قوة وتنظيم، تحول مجتمعها الطبيعي والتدرجي نحو مجتمع مدني، وما كان قائما من مجتمع أهلي إلى مجتمع ما قبل أهلي، وما لبثت أن استندت إلى تكوينات منه، جعلتها قاعدة تعبوية لدولة/سلطة من نمط أقلوي/استبدادي، حدثت نفسها في إطار العصر الرأسمالي وكتابع له، قال ماركس ذات يوم إن لها وظائف ثلاث هي: نهب الداخل ـ عبر القمع – ونهب الخارج ـ عبر الحرب – وإقامة المشاريع الكبرى، فلم يبق منها اليوم غير نهب الداخل، الذي ما انفك يتزايد ويتعاظم، للتعويض عن ضياع وظيفتيها الثانية ـ نهب الخارج بالحرب والثالثة: إقامة المشاريع الكبرى: وسيلتها إلى الانفراد بملكية الأرض وتاليا بعوائد عمل المنتجين، التي جعلها عجزها عن إقامتها تتفنن في نهب الداخل: مصدر تمويل طبقتها ومجتمعها الخاص، وفي إحلال الريع الخارجي، الآتي من وضع نفسها في خدمة من يدفع لها ويحافظ عليها، محل نهب الخارج بالحرب، خاصة وأنها، بشرعيتها المستمدة إما من غياب مواطنيها عن الشأن العام بما هو شأنهم الخاص، أو من الخارج، تقوقعت على ذاتها وفقدت القدرة على مبارحة داخلها: المكان الوحيد الآمن في نظرها، كما لم تعد قادرة على خوض الحروب في الخارج، بينما لم يترك النهب والإفقار اللذان تمارسهما على مواطنيها فوائض تتيح قيامها بمشاريع كبرى.
لن أتحدث، هنا، عن النتائج المتنوعة والخطيرة، التي ترتبت على هذا التشوه، فهو يستحق حديثا خاصا يجب أن يفرد له، في مرة قادمة!.
‘ كاتب وسياسي من سورية