صفحات مختارة

هل توجد حاجة إلى اليسار في المجتمع العربيّ؟

* جورج جقمان
إذا كان السؤال هو: “هل يحتاج المجتمعُ العربيّ إلى اليسار كفكر وكحركات سياسيّة واجتماعيّة؟،” فإنّ الإجابة المباشرة والواضحة هي: نعم. لماذا؟ لأنّ اليسار، واليسارَ فقط، من بين الأحزاب والحركات السياسيّة، هو الذي يولي العدالةَ الاجتماعيّةَ الاهتمامَ الأكبرَ والضروريّ. وهذه هي القضيّة الأساسيّة في حياة أغلبيّة الناس، أكان ذلك في المجتمع العربيّ أمْ في مجتمعاتٍ أخرى في أنحاء العالم المختلفة.
أما إذا كان السؤال هو: “هل من مستقبلٍ لليسار كفكرٍ وكحركاتٍ سياسيّة واجتماعيّة في السياق العربيّ؟،” فالإجابة مشروطةٌ بوجود عدة مقوِّماتٍ، منها: دمقرطة النظم السياسيّة العربيّة التي لا تسمح حتى الآن بالتداول السلميّ للسلطة، بحيث يكون في إمكان اليسار (وآخرين) إحداثُ تغيير فعليّ في العديد من السياسات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، حتى يتمّ إضفاءُ المصداقيّة على أيّ برنامج يساريّ يتبنّاه حزبٌ من الأحزاب إنْ شارك في الحكم.
ما هو اليسار اليوم؟
أبدأ بالإشارة إلى مفهومين ملتبسين بسبب تعدّد دلالتهما: “اليسار” و”العدالة الاجتماعيّة.” من المعروف أنّ اليسار من الناحية التاريخيّة متعدّدُ الأوجه والأصناف، وإنْ أخرج بعضُ اليسار آخرين من عداده لخلافٍ على مداخل التحليل أو البرنامج أو الغايات النهائيّة. ومن هذا المنظور مثلاً، ينتقد ماركس وأنجلز في البيان الشيوعيّ تياراتٍ “يساريّة” سعت إلى إحقاق “عدالةٍ اجتماعيّة” ما لكونها إصلاحيّة، لكنها تُبقي في نهاية الأمر البنيانَ الطبقيَّ الناجمَ عن الرأسماليّة من دون تغييرٍ جذريّ. وكان هذا دائمًا مدخلَ بعض التيّارات الماركسيّة تجاه تيّاراتٍ ماركسيّةٍ أخرى، ناهيك طبعًا باليسار غير الماركسيّ.
لن أدخل هنا في هذا النقاش، ولن أقدّم تعريفًا محدّدًا دقيقًا لماهيّة اليسار في عالم اليوم. لكنْ أشير إلى أنّ الأثر الذي أحدثه انهيارُ الاتحاد السوفياتيّ في الماركسيّة والأحزاب الشيوعيّة واليسار بعامّةٍ كان عميقًا، وأحدثَ تحوّلاً فعليّاً في معنى اليسار اليوم. إنّ وجود الاتحاد السوفياتيّ كدولة كان يقدّم نموذجًا قائمًا مجسَّدًا عينيّاً وذا فاعليّةٍ على غير صعيد. وقد تأثّرتْ سلبًا من هذا الانهيار الأحزابُ والحركاتُ اليساريّة المناهضة للتجربة السوفياتية، والناقدةُ لها، هي نفسُها. كان الاتحاد السوفياتيّ ضروريّاً لناقديه ومناهضيه من اليسار، ومن غير اليسار، لحاجتهم إلى تعريف الذات باختلافها عن “الاشتراكيّة القائمة فعلاً.”
لكنّ إحدى أهمّ نتائج انهيار الاتحاد السوفياتيّ هي التخلّي عن “الديمقراطيّة المركزيّة” نموذجًا للحكم، وهو النموذج الذي أخذ به عددٌ من الدول العربية وما زال حيّاً في بعضها. بل إنّ حركة وطنيّة فلسطينيّة غير يساريّة مثل حركة “فتح” تبنّت هذا النموذجَ في نظامها الداخليّ، وما زال الأمرُ على حاله حتى اليوم. وقامت عدةُ أحزابٍ شيوعيّةٍ بتغيير برامجها أو اسمِها نفسِه (تحوّل إلى “حزب الشعب” في فلسطين)، لموافقتها خصّيصًا على “الديمقراطيّة الغربيّة” في بعدها السياسيّ الإجرائيّ: من دوريّة الانتخابات، إلى التداول على السلطة، والتعدديّة السياسيّة، والحريّات السياسيّة والمدنيّة، والقبول بوجود اقتصاد سوق وإنْ ضمن قيود لا مرحليّ فقط.
فإذا أردنا أن نعرف ماهيّة اليسار اليوم يجب أن ننظر إلى “اليسار القائم فعلاً،” أي الأحزاب والحركات التي تعمل على تحقيق العدالة الاجتماعيّة في أرجاء مختلفةٍ من العالم. وأشير بشكل خاصّ إلى أمريكا اللاتينيّة، حيث نجد بدايةَ تكتّلٍ جديدٍ يسعى إلى العمل على نطاق عالميّ، لا محلّيّ فقط. فقد عُقد في مدينة كاراكاس في فنزويلا في شهر نوفمبر 2009 مؤتمرٌ لأكثر من خمسين منظمةً يساريّةً من 31 بلدًا لغرض تأسيس “أمميّة خامسة” للحركات والأحزاب اليساريّة والحركات الشعبيّة والاجتماعيّة. وسيُعقد مؤتمرٌ آخر حول هذا الموضوع أيضًا في كاراكاس في نيسان/ابريل 2010. وقد حقّقت الأحزابُ والحركاتُ اليساريّة في أمريكا اللاتينيّة نجاحاتٍ في عدد من الدول إضافة إلى فينزويلا، منها أكوادور ونيكاراغوا وأوروغواي حيث فاز في منصب الرئاسة في انتخابات نوفمبر 2009 الزعيمُ السابق لحركة توباماروس الراديكاليّة. وفي بوليفيا حقق إيفو موراليس فوزًا باهرًا في الانتخابات الرئاسيّة التي عُقدتْ في ديسمبر 2009. اللافت للنظر أنّ اسم الحركة التي ينتمي إليها موراليس هو “الحركة نحو الاشتراكيّة” ـ ولعلّ كلمة “نحو” هي أفضلُ معبِّرٍ عن برامج الحركات اليساريّة في عالم اليوم، لأنها تشير إلى التوجّه العمليّ لا التوجّه الإديولوجيّ “الخلاصيّ،” أكان ذلك للأفضل أمْ للأسوإ.
وأضيف أنّ ما يجب اعتبارُه أيضًا من مكوِّنات الحركات اليساريّة هو وجودُ توجّهٍ أمميّ واضح، سواء على صعيد التحالفات أو على صعيد النظرة والقيم. ومن دون ذلك يكون هذا “اليسارُ” عنصريّاً لأنه يفاضل بين بشرٍ وبشرٍ في القيمة والاستحقاق، ويكون شوفينيّاً أيضًا لأنه يحْصر اهتمامَه في من هم داخل دولته. ومن ناحية تاريخيّة كانت الأحزاب اليساريّة المختلفة دائمًا مناهضة للعنصريّة والشوفينيّة؛ لذا فإنّ كونَ العالم اليوم مقسّمًا إلى دول لا يستدعي معياريّاً أنّ هذه هي حدودُ الاهتمام أو أنه ينبغي أن تكون كذلك.
العدالة الاجتماعيّة
لقد آثرْتُ تناول “العدالة الاجتماعيّة” برنامجًا لأيّ حركةٍ يمكن أن تسمّى يساريّة، على الرغم من غموض دلالة العبارة، وإتاحتها ـ كما هي من دون تخصيص ـ برامجَ مختلفةً جذريّاً بعضها عن بعض أحيانًا. لكني فضّلتُ البدءَ هنا في ما يمكن أن يسمّى “عدالة اجتماعيّة” لأغلبيّة سكان الدول العربيّة المختلفة. وفضّلتُ أيضًا عدمَ الدخول في متاهات حول ماهيّة اليسار “الحقّة” بالحديث عن غاياتٍ نهائيّةٍ ما بعد تحقيق العدالة الاجتماعيّة (بالمعنى الذي سأحدّده الآن)؛ ذلك لأنّ مشكلة اليسار تاريخيّاً هي قدرٌ من الشرذمة الحركيّة، وقدرٌ من الشرذمة الفكريّة، والالتفاتُ المغالي إلى الخلافات اليساريّة – اليساريّة على ماهيّة اليسار، من باب أنّ “ظلمَ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً…” أو لنزعةٍ طهوريّةٍ تؤْثر “النقاءَ” الإيديولوجيّ على الإنجاز الفعليّ. التوجّه هنا، إذن، هو اعتبارُ البرامج، لا الغايات النهائيّة (“خلاصيّةً” أو غيرَ ذلك)، هي محكَّ ما هو يساريّ، ولو كانت تلك البرامجُ مرحليّةً.
أحدّد الآن المقصودَ بالعدالة الاجتماعية بالنسبة إلى المجتمعات العربيّة أولاً، ومجتمعاتٍ ودولٍ أخرى ثانيًا، كالآتي:
تعني العدالةُ الاجتماعيّة، في حدّها الأدنى، مناهضةَ نقل المسؤوليّات العامّة، أيْ مسؤوليّات الدولة، إلى القطاع الخاصّ بشكلٍ كلّيّ أو شبه كلّيّ، وذلك في ما يتعلّق بحاجات البشر الأساسيّة، ومنها: الصحّةُ، والتعليمُ، والتقاعدُ، والبطالةُ، والعوزُ لأسباب مختلفة (كالعجز عن العمل أو العمل في الاقتصاد غير الرسميّ غير الُمشرَّع له في معظم الدول العربيّة)، من بين أمور أخرى.
إضافةً إلى ذلك، تعني العدالة الاجتماعيّة، في سياق التشريعات على اختلاف أنواعها، المساواةَ التامّةَ أمام القانون، وضمانَ هذه المساواة من خلال القانون، بغضّ النظر عن أيّة صفةٍ جائزةٍ أو عرَضيّةٍ، من نوع الجنس أو الدين أو الطائفة أو العشيرة…، غيرِ صفة المواطَنة الجوهريّة. وتلك صفاتٌ جائزة (أيْ ليست ضروريّة)، أو عرضيّة، من منظور حقوق المواطَنة في النظام الديمقراطيّ، وهي حقوقٌ لا تعير تلك الصفاتِ أيَّ وزنٍ في التشريعات. ويتبع من هذا أنّ على التشريعات، باختلاف أنواعها، أن تكون محايدة، أيْ أن لا تتضمّن قيمًا تخلّ بمبدإ المساواة في المواطنة.
قد يقال إنّ هذا لا يتعدّى نطاقَ ما هو موجودٌ في كثيرٍ من الدول من سياسات الرفاه (welfarism)، ومن بينها الدولُ الإسكندنافيّة وعددٌ من الدول الأوروبيّة مثل هولندا وفرنسا إلى حدٍّ ما ودول أخرى بدرجاتٍ متفاوتة. وقد يكون هذا صحيحًا، ولكنّ هذا البرنامج بالنسبة إلى الدول العربيّة التي تعنينا هنا أولاً جذريٌّ حقّاً، وطموحٌ، ومن غير اليسير أن يتحقّق بسرعةٍ ومن دون نضال. وهو أيضًا برنامجٌ يساريّ للتغيير. وأنا، كما أسلفتُ، أتحدّث عن البرامج، لا عن الإيديولوجيا أو الأهداف النهائيّة.
وفي ما يتعلّق بالشقّ الأول من معنى العدالة الاجتماعيّة، فإنّ المساواة فكرةٌ أساسيّة لدى اليسار تاريخيّاً. ولكنّ لـ “المساواة” أيضًا عدّةَ معانٍ، أشرتُ إلى أحدها، وهو إيفاءُ الحاجات الأساسيّة، والمساواةُ في ذلك الإيفاء بمعزلٍ عن وجود (أو عدم وجود) تفاوتٍ في مقدرة الفرد على أن يتساوى مع الآخرين في إيفائها؛ أيْ إنّ أيّ تفاوتٍ في الإمكانات الماديّة يجب ألاّ يؤدّي إلى تفاوت في إيفاء حاجات الإنسان الأساسيّة (كالصحّة أو التعليم). الفكرة بسيطة وواضحة: تحييد الموقع الطبقيّ من ناحية الأثر في إيفاء الحاجات الأساسيّة. لا يوجد يسارٌ من دون هذا البرنامج، وعلى وجه الخصوص في الدول العربيّة.
إنّ مفهوم المساواة هذا قديمٌ ومعروفٌ لدى العرب قبل أن يكتشفه فلاسفةُ الأخلاق المعاصرون، بدليل القصة الشهيرة عن أعرابيّة سُئلتْ ذات مرة: “أيُّ أبنائك أحبُّ إليك؟” فقالت: “الصغيرُ حتى يكْبر، والمريضُ حتى يبْرأ، والغائبُ حتى يعود.” هنا نجد فكرة “التمييز الإيجابيّ” في حقّ البعض، تحديدًا بسبب ارتباطه بالحاجة. وهذا التمييز، وبهذا الارتباط، هو المساواة: المساواة في إيفاء الحاجات، ولكنْ بشرطٍ ضروريّ لاستقامة هذا النوع من المساواة، وهو معاملةُ مَن هم في الوضع نفسه والحاجةِ نفسها بالطريقة نفِسها؛ وهذه هي المساواة في التعامل. أما في نطاق الدولة، فهي المساواةُ أمام القانون، ومن خلاله، بشرط ضمان القانون للمساواة في إيفاء الحاجات. وهذا هو المقصود بـ “المساواة في حقوق المواطنة”: إنها المساواة أمام القانون، والمساواة من خلاله، أيْ إيفاء الجميه حاجاتهم الأساسيّة. وقد خيضت صراعاتٌ كبيرةٌ في الماضي حول هذا التمييز، بين المساواة أمام القانون، من دون المساواة من خلاله. فالمعنى الأول لا يضْمن العدالة الاجتماعية إذا كان القانونُ نفسُه لا يضمن المساواةً في حاجات البشر الأساسيّة.
المضمون السياسيّ لعمل اليسار
يوجد اختلاف جوهريّ في المضمون السياسيّ لعمل اليسار قبل انهيار الاتحاد السوفياتيّ وبعده. فخلال ستة عقود أو يزيد قليلاً، عمل اليسارُ العربيّ في ظلّ حكوماتٍ أغلبُها سلطويّة، وفي ظلّ “الديمقراطيّة المركزيّة،” أو في ظلّ قادة كاريزميّين ملهِمين للجماهير، وكان جمال عبد الناصر أبرزَهم بلا منازع. وفي هذا السياق تبلور أيضًا ما سمّي “الاشتراكيّة العربيّة.” وقد ألهب اليسارُ حسَّ الجمهور في هذا السياق نظرًا إلى ارتباطه بمشاريع تحرريّة: تحرير فلسطين، التحرّر من الاستعمار المباشر وغير المباشر،… ولم يولِ الجمهورُ، ولا جلّ المثقفين الملتزمين بالقضايا الوطنية، دمقرطةَ النظام السياسيّ العربيّ أهميّةً كبيرة، إذ كان الهدفُ الأساس هو التحرّر والتحرير من خلال مشروعٍ واضحٍ ومحدّد.
تغيّر هذا الوضعُ عربيّاً، تحديدًا بعد حرب عام 1967، لا بعد انهيار الاتحاد السوفياتيّ. ومع بداية أو منتصف السبعينيّات وجدنا عودةً إلى دعوات سابقة (كدعوة الكواكبي مثلاً) لإصلاح النظام السياسي باتجاه ديمقراطيّ. وما زالت هذه الدعوات قائمة حتى اليوم، وانضمّ إليها آخرون، وتحديدًا عددٌ من التيّارات والأحزاب الإسلاميّة، ولاسيّما الإخوان المسلمون، وفي عدد من الدول العربيّة. الفارق هو أنّ جاذبيّة اليسار العربيّ في المرحلة السابقة كانت بارتباطه بالمشروع العربيّ التحرريّ، وبمساندة الاتحاد السوفياتيّ لهذا المشروع (وإنْ في حدودٍ معيّنةٍ تأخذ في الاعتبار التوازناتِ الدوليّةَ في حينه). هذه المرحلة انتهت، وتحوّلتْ أنظارُ الجمهور إلى الإسلام السياسيّ طلبًا للتغيير بعد فشل المشروع التحرريّ المرتبط بالحركات القومية وباليسار.
إنّ مستقبل اليسار في العالم العربيّ مرتبطٌ بما يمْكن أن يقدّمه للجمهور، وما إذا كان الجمهورُ يرى أنّ اليسار يمْكن أن ينجزَ المهامَّ المطلوبة وأنّ له القدرة الكافية على فعل ذلك. لكنّ هذا بدوره يثير عدّة أسئلة تشكّل نقاطَ بدايةٍ للتفكير في مستقبل اليسار: ماذا يريد الجمهور؟ هل يعرف الجمهورُ ما يريده من الأحزاب السياسيّة؟ أيوجد انفصامٌ بين الطموحات والهموم الفرديّة، المرتبطة بحاجاتٍ واضحةٍ ومدرَكةٍ لدى الجمهور، وبين اعتبار الأفراد أنّ الأحزاب لا تمكّنهم من تحقيقها؟ كيف يمكن إحداث الربط المأمول؟ أيوجد “وعيٌ زائف” يُولي قضايا الهويّة، كما هو حاصل الآن في المجتمع العربيّ، وزنًا أكبرَ من الصحّة والتعليم ومقوّماتِ الحياة الأساسية؟ وما أسبابُ ذلك؟
تأتي هذه الأسئلة في سياق سياسيّ جديد. فلقد تمّ فكُّ الارتباط في دول العالم المختلفة بين ما هو يسار سياسيّ، وبين النظم السلطويّة وإنْ كانت ذاتَ مشاريع تحرريّة. ما يحصل في أمريكا اللاتينيّة ودول أوروبا الشرقيّة هو أنّ إعادةَ إحياء اليسار يتمّ فقط من خلال السعي إلى الوصول إلى الحكم لغرض تنفيذ البرامج ومن خلال الآليّات والإجراءات الديمقراطيّة. هذه هي مشكلة أحزاب المعارضة العربيّة، إسلامية أو يسارية أو غير ذلك. فالطريق مسدود حتى الآن بسبب سلطوية النظم السياسيّة العربيّة: ذلك أنّ معظم الدول العربيّة لا “مشاريع” لها سوى بقاء النظام، خلافًا لتركيا وإيران وإسرائيل. هذه جميعُها لها مشاريعُ للدولة كدولة؛ ولكنْ لا توجد “مشاريعُ دولٍ” في معظم الدول العربية، وإنما مشاريعُ لبقاء الأنظمة.
التحدّي الماثل أمام الأحزاب الإسلاميّة، على الرغم من صعوبته، أقلّ عُسرًا من التحدّي الذي يواجه اليسارَ. فلقد استمال الإسلاميون جمهورًا واسعًا، غير أنهم يسعوْن أيضًا إلى كسر احتكار السلطويين للسلطة السياسيّة. ويشترك معهم اليسار في مسعى دمقرطة النظم السياسيّة العربيّة، إلاّ أنّهم لم ينجحوا حتى الآن في تحقيق القدر نفسه من تأييد الجمهور ودعمه.
هذه تحدّيات كبيرة، ويتوقّف عليها مستقبلُ اليسار. ولكنّ إذا كان عنوانُ اليسار هو العدالة الاجتماعيّة، فإنّ المجتمع العربي، قطْعًا ويقينًا، في حاجة إليه. اليسار وحده يملك هذا المشروع، وهو القاسمُ المشترك بين الماضي والحاضر، وإن اختلفت الظروف. التحدّي الأكبر هو إقناعُ الجمهور بأنّ “نقاء” الهويّة، كما يتصوّرها جمهورٌ واسعٌ، لن تؤدّي في حدّ ذاتها إلى ما يصْبون إليه في حياتهم كبشر، وبأنّ اليسار خيار واقعيّ لغرض تحقيق العدالة الاجتماعية. هذا هو التحدّي الأكبر أمام اليسار اليوم.
فلسطين
*أستاذ في دائرة الفلسفة والدراسات الثقافيّة، جامعة بيرزيت ـ فلسطين.
مجلة الآداب » ٤-٥/ ٢٠١٠

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى